جور نار

أنين الذاكرة

نشرت

في

من المقولات الشهيرة لدى الفقهاء والمتفقهين _ حكمك عن الشيء فرع من تصوّره ..وخاض من خاض فيها من الجرجاني الى ابن القيّم الى ابن عثيمين …وحبّروا ما شاؤوا من التفاسير الّا انّي لم ارتو بتاتا في ما اتوه من تفسيرات بل ووصلت الى حدّ الرفض وانا اقرأ الآية الكريمة في سورة الكهف “وَلَا تَقْفُ مَا ليْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ”

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

و معنى هذه الآية يؤّكد انّه على الانسان عموما والباحث خاصّة ان يتجنّب الاحكام المطلقة على امور لم يعشها ومن الخطأ ان يصورّها للمتلقّي كما تصوّرها هو .. باختزال واختصار، التصوّر قاصر جدا مقارنة بالمعايشة …فالواحد منّا ومن هذه الزاوية يختلف مع الاخر تماما عند الحديث عن عصر لم يعشه … انا مثلا لا يمكن لي ان اتحدّث جازما عمّا عايشه اجدادي وبنفس المنطق، لا يمكن لابنائي ان يكونوا جازمين في حكمهم على عصري مهما حكيت لهم ومهما تصوّروا ما حكيته …

هذا المدخل يُحيلني مباشرة لاؤلئك المتحدثين او المتكلمين او المصورين لما عاشته تونس _منذ الاستقلال … مثلا _ انا وجيلي عاصرنا نهاية الحقبة الاستعمارية وعاصرنا بورقيبة وبن علي وغورة جانفي 2011 ..عشناها فكرا وجسدا وتفاعلا …ثمّ يأتي احدهم من مواليد التسعينات ويُبيح لنفسه مسح القاعة ببورقيبة وعبدالناصر ومن عاصرهما من اسماء … هذا الواحد سمع اخرين وقر أ عن آخرين ولم ير بورقيبة او عبدالناصر يوما …وبلغة الواثق الذي لا يُجادل …لم يسأل نفسه يوما عمن تحدّث او كتب عن بورقيبة من هو ؟؟ ماهي انتماءاته السياسية .. يأخذ عنه كلّ المواقف ويردّدها كالببغاء …

ما اقوله في السياسة اقوله في كلّ الميادين … بعض الخرونوخيرات اليوم في الميدان الرياضي وفي هاكي البرامج الرياضية المحنونة اذاعية وتلفزيا … وعندما يتحدثون عن لاعب ما _ خاصة اذا كان من فريقهم المفضّل يطلقون عليه القابا والقابا لم ينلها غيره ممنّ سبقوه ..فيصبح الحارس الفلاني عملاق زمانه وهم لم يعرفوا يوما العنكبوت الاسود الروسي (ياشين) وحارسهم الذين الّهوه لا يساوي دبشة من دبش ياشين ..ويصبح مدافعهم الاوسط اعظم قيمة من بينكنباور او باريزي ..ويصبح لاعب وسط ميدانهم _ ذلك الفرخ اللي مازال كيف حطّ ساقو في الكورة _ اعظم واجلّ من ديستيفانو .. وما ان يسجّل فرخ اخر ثالث اهدافه حتى يصبح بيليه صاحب الالف هدف ما يلعّبوش …

امّا عن الشعر والشعراء فحدّث ولا حرج ..ما ان تكتب امرأة عشرة اسطر لكلمات مسجّعة حتى تنهال عليها تعاليق الذكور والذين يسيل لعابهم كلّما قرؤوا اسم انثى، فيصفون شعرها بالابداع في انتظار همسة شكر من تلك السيدة حتى يسيل لعابهم مرة اخرى ومن اماكن اخرى …وتموت الخنساء ويموت المتنبي وابو العتاهية ودرويش وسميح القاسم ونزار وتصبح احلام مستغانمي جارية عند هذه الفصيلة من الشّويعرات …

هم قد يكونون سعداء …اعني مثلا جيل الاربعين سنة فما تحت .. لانّ ذاكرتهم لم تعرف يوما هذه الاسماء فينعمون فقط بحاضرهم … نحن هم التعساء حقا لانّ زخم الذاكرة ارّقنا وانينها اوجعنا .. ومن نفس المنطق نحن ايضا كنا سعداء بجهلنا في زمن ما مقارنة بتعاسة من سبقنا …ولكي اعود لمدخل المقال والمتمثّل في خطأ المقولة (حكمك عن الشيء فرع من تصوّره) لانّ حكمك عن الشيء فرع من معايشته او لا يكون …علينا ان نتفهّم بعضنا البعض فلا يؤاخذ بعضنا البعض في عديد المواقف اذ انّ كلّ اناء بما فيه يرشح وكلّ ذاكرة بما فيها تحنّ و تئنّ لزمنها …

فرجاء ممن نختلف معهم سنّا ومواقف …ان يتفهّموا اننا وفي مواقفنا خليط من الماضي السحيق والحاضر ـ السحاق _ ومن المستحيل علينا وعليكم ان ننسى ماضيا عشناه …هو جزء من كينونتنا وسيصبح يوما جزءا من كينونتكم …هل انتم مستعدون مثلا لقبول راي من مواطن عادي جدا احبّ بلاده دون ايّ انتماء او تقديس او تبخيس لايّ سياسيّ منذ الاستقلال الى اكتوبر 2022 … وهذا الرأي يقول (لا احد استطاع ان يملأ كرسيّ قرطاج كما ملأه بورقيبة) … ؟؟؟

اعلم جيّدا انّ هذا الرأي لن يعجب الكثيرين بعضهم اندهاشا منّي وانا الذي عاصرته كمعارض لعديد مواقفه ..والبعض الاخر كراهية وحقدا عليه لانّه زعيم متنوّر وقف ضدّ ظلاميتهم و قهرهم برؤيته الاستشرافية وحنكته وعبقريته في خلق تونس جديدة …

فقط اقول للذين لم يعاصروه عقولكم يجب ان تكون كالغربال خذوا ما نقوله جميعا عن بورقيبة وعن غيره وغربلوا وابعثوا بما ترونه تبخيسا او تقديسا للجحيم

27 اكتوبر 2022

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version