” العنف موش متاعنا و لا هو من سلوكنا و لابدّ أن يتوقّف التّيّار .. كفى عنفا .. كفى عنفا …”
هذه العبارات وردت في آخر خطاب لبن علي ليلة 13 جانفي 2011 قبل الهروب من تونس أو قبل دفعه للخروج منها
لكنّ التاريخ أثبت أن العنف متاعنا أو هو متاعنا و نصف و أنه ازداد و تفشى طيلة العشريّة الأخيرة.
و الأسبوع المنقضي دليل كبير على أنّ العنف سلوك متأصل فينا … فمنذ يوم الاثنين لم ينشغل إعلامنا و منصّاتنا الاجتماعيّة إلا بالحديث عن العنف انطلاقا من حادثة اعتداء التلميذ على أستاذه و وصولا إلى العنف المسلّط على أهالينا في عقارب و مرورا بقضايا قتل و انتقام متفرّقة كان فيها للسكاكين نصيب هي أيضا .
العنف المسلّط على الأستاذ الصحبي سلامة في الزّهراء و قبله الهرسلة التي تعرّضت لها الأستاذة فاتن بن سلامة في المهديّة و غيرهما من المعلّمين و الأساتذة و المديرين في مناطق عدّة من الجمهوريّة … العنف المسلّط على التلاميذ أيضا و تعرّضهم للإهانة و الشّتم و الضرب و التّنمّر و التحرّش أحيانا يؤكّد أن مؤسّستنا التربوية ليست بخير ـ هذا إن جاز أن نطلق عليها صفة “التربويّة” ـ و أنّ منظومتنا في حاجة إلى علاج جذريّ و عميق متبصّر غير متشنّج، ينبني على هدف واحد هو أيّ إنسان نريد و أيّ مجتمع نريد بعد عشر سنوات مثلا؟ أو بعد جيل كامل مثلا ….؟
أهداف تشتغل عليها مجموعة من المختصين في التربية و التعليم و في علم النّفس و الاجتماع و في الاقتصاد و الثقافة و الحضارة و الإعلام و غيرها من المجالات … فأصعب بناء هو بناء الانسان …
العنف في عقارب هو عنف من نوع آخر ..عنف السلطة و قمع السّلطة للإرادة الشعبية في زمن رُفِع فيه شعار “الشّعب يريد”
شعب صفاقس المدينة بمختلف بلدياتها يريد رفع القمامة التي تراكمت لأكثر من أربعين يوما و يرى أنّه ضحيّة لتهاون السلط المحلّية و الجهويّة و المركزيّة ( و لا أستثني أحدا ) في استباق الكارثة و توفير الحلول المناسبة
و شعب عقارب الذي يريد حقه في بيئة سليمة و يناضل منذ سنوات طويلة من أجل إغلاق المصب الذي تجاوز عمره الافتراضي و طاقة استيعابه القصوى منذ سنوات و صار مصدر تلوّث للمنطقة التي يفترض أنها محميّة طبيعيّة و متنفّس لمدينة صفاقس ومصدر أمراض عديدة للسكّان
و بين الإرادتين وجدت السلطة نفسها عاجزة فلجأت إلى الحل الأمني الذي زاد من منسوب الاحتقان في الجهة
إنّ العنف في بلادنا لابدّ أن يصبح قضية رأي عام .. فلو قمنا بإحصائيات عالميّة لوجدنا أننا من أعنف شعوب العالم
العنف بأنواعه ، اللفظي و المعنويّ و المادّي، مسألة معقّدة لابدّ من دراسات و مختصين لمعرفة أسباب تجذّره في مجتمعنا و انتشاره بين كل فئاته
فالعنف المعنويّ هو نوع من الإيذاء النّفسي يسلّط على الفئات الضعيفة بالاحتقار و انتهاك الكرامة والحرمان من الحقوق و الإكراه .. قد لا يظهر بصورة واضحة و جليّة .. قد لا يمكن إثباته .. و لكنّه خطير و مدمّر سيكولوجيّا يولّد إحساسا بالقهر و الدّونيّة و انعدام الثقة بالنّفس
أمّا العنف اللفظي أو تفشّي الكلام البذيء فنجده في كل مكان في المنزل، في الشارع، في المدرسة، في الإدارة، في المقهى، في وسائل النّقل، في الأسواق، في الإدارات، في الملاعب، في أماكن الترفيه، و أحيانا حتّى أمام المسجد و في المسجد .. و نجده في كلّ زمان صباحا مساء و يوم الأحد، ساعة الحزن و ساعة الفرح، ساعة السّعادة و ساعة الغضب و حتّى في لحظات النّشوة و الحبّ !
هذا العنف اللفظي على عكس ما نعتقد ليس ظاهرة حديثة في المجتمع التونسي حتّى أنّ محمود بيرم التونسي سنة 1934 قد أبدى استنكارًا كبيرًا لما عاينه في تونس، من انتشار للبذاءة والشتائم في لغة التخاطب لدى المجتمع التونسي، في مقال عنونه بـ”مدينة البذاءة” لتوصيف مدينة تونس، يقول فيه: “…تسمع في كلّ مكان حناجر تنطلق بذكر أعضاء التناسل، وتقليبها على كلّ وجود الاستعارات والمجازات، ولا يقتصر ذكرها على ساعات الخصام ولكن نسمعها في البيع والشراء والجدل والمزح…وتكاد تكون تونس الوحيدة في العالم التي لا يراعي أوباشها آداب السّير والحديث،…فقد انغمست كلّ ألسنة سكـّانها في البذاءة وأصبحت كأنها من علامات الرجولة والفتوّة“
في حين أنّه يكفي أن نلقي نظرة على صفحات صدى المحاكم أو أن نبحث عن عدد قضايا الاعتداء بالعنف الشديد أو أن نتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي لنلاحظ مدى تفشي ظاهرة العنف المادّي في بلادنا فحتّى في داعش و غيرها من الحركات المتطرّفة يُعدّ المقاتلون التونسيون الارهابيين الأكثر شراسة …
إنّ مجتمعا ترتفع فيه الثقة في السياسيين بقدر ارتفاع منسوب العنف في خطاباتهم و أقوالهم و أفعالهم هو مجتمع عنيف …
إنّ مجتمعا لا يتورّع أفراده عن شتم المختلفين عنهم و تشويههم و هرسلتهم هو مجتمع عنيف لا علاقة له بقيم التسامح و قبول الآخر و حتى حرّية الرأي صارت نقمة و عنفا مسلطا على رقاب الآخرين فما دمت تخالفني الرأي فمن حقي أن أشتمك و أتبلّى عليك و أصفك بما ليس فيك
شحنات العنف المتزايدة هي انعكاس لعديد العوامل التي لا يمكن معالجتها بالاكتفاء بإصدار القوانين أو الحلول الزّجرية بل بالبحث في أسبابها و إيجاد الحلول المناسبة لها حتى لا يبقى الجميع ضحيّة لهذا الغول الصامت …
المُعَـنَّـف و المُعَـنِّـف كلاهما ضحية لهذه الظاهرة التي لابدّ أن تصير قضيّة رأي عام و لابدّ أن تتضافر جهود الجميع للتقليص منها، ابتداء من أعلى هرم السلطة و الخطاب السياسي و وصولا إلى الأسرة و التعامل بين أفرادها ..