تابعنا على

جور نار

إعادة توظيف الحمير والبغال…

نشرت

في

اطلعت أنا وبقية أفراد العائلة على النسخة المسرّبة من برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي أرسلته حكومة “للاّتنا نجلوتة” إلى صندوق النقد الدولي…وقرّرنا دعوة كامل أعضاء مجلس الأمن العائلي لتدارس تبعات وتطوّر الأوضاع الاقتصادية العائلية التي ستترتب عن هذا البرنامج الإصلاحي الموجع، وصياغة استراتيجية الردّ المناسب على هذا الاعتداء السافر على مقدرتنا الشرائية والاستهلاكية والمعيشية، وإعلان حالة الطوارئ لمدّة خمس سنوات مرافقة لما قررته حكومتنا من إصلاحات، كما تمّت دعوة أعضاء اللجنة العائلية لمجابهة “الكوارث الحكومية” للانضمام للمجلس ومساعدته في إيجاد حلول عاجلة للخروج من الأزمة والحدّ من تبعاتها على أفراد العائلة…وكالعادة جاءت زوجتي بوصفها النائبة الأولى ومقررة المجلس وأمينة مال العائلة بكل الفواتير المؤجلة الدفع حتى إشعار آخر…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

فتح باب النقاش في ما تحتويه فاتورة استهلاك الماء الصالح للشراب وأشياء أخرى، وكالعادة افتتحت الجلسة بوصفي رئيس المجلس بكلمة ترحيبية مشفوعة بدعاء “اللهم أعنّا على خلاص كل الفواتير، وابعد عنّا كل أمراض البواسير وأكسر “خشم” ورجل عمّ البشير موزّع الفواتير” ثم أحلت الكلمة إلى ابني الصغير، لقراءة ما جاء في فاتورة استهلاك الماء والتطهير…كشف عن المبلغ العام المطلوب دفعه فكان بالضبط 265 دينارا مقسّمة على النحو الآتي، 165 دينارا مجموع استهلاك الماء، 70 دينارا معلوم ديوان التطهير، وتسعة دنانير معاليم قارّة…والبقيّة مجموع ضرائب عامة…صرخ الجميع من هول ما سمعناه…فهذا ابني الكبير يصرخ ربع مليون ماء ما هذا؟؟ وصاحت ابنتي معاليم قارة “علاه”؟ وصمت البقيّة في انتظار ما سأصرخ به أنا بوصفي رئيس المجلس والحاكم بأمره وآمر الصرف العائلي، وقفت من هول ما سمعت وصرخت “70 دينارا من “الخـ…ء” والبول؟؟ ما هذا ؟؟

علينا بإيجاد حل جذري وعلينا ترشيد استهلاكنا لبعض المأكولات ودخولنا لبيت الراحة، وعلينا إعلان حالة التقشّف العام في كل أسباب التغوّط والتبوّل…وجلست لأقول “أعلن تكوين لجنة خاصة والاستعانة بخبير في التطهير ومعالجة البواسير لدراسة الوضع “التغوّطي” وإيجاد حلول عاجلة للخروج من الأزمة” وحدّدت المهام الأساسية للجنة وأهمّها تقييم وجرد شامل لحجم الاستهلاك البولي والتغوّطي، وكشف أسباب انتفاخ فاتورة التطهير…ثم اقتراح حلول جدّية وجذرية لترشيد وتخفيض وتيرة استعمال بين الراحة…وقد اقترح ابني الأوسط اكتفاء من يعمل من أفراد العائلة بالتبوّل والتغوّط بمقرّات العمل…واقترح ابني الأكبر التقشّف في وجبات الأكل والاكتفاء بوجبة واحدة يوميا، أو أن يكون الأكل بالتناوب في هذا الظرف الاقتصادي المتأزم الذي تعيشه البلاد والعائلة، وبتلك الطريقة يقع تخفيف الضغط على بيت الراحة من خلال العمل على الحدّ من انتاج “الخـ…ء”، في انتظار دراسة أمر تكاليف البول وما آلت إليه أوضاعه،

واقترحت ابنتي أن يكون دخول بيت الراحة بمعلوم يقع الاتفاق حوله في هذه الجلسة، كأن يكون مثلا “خـ…ء الصباح” وهو تغوّط استراتيجي كيف لا وهو مخزون أكثر من ليلة ونصف يوم بمائتي مليم، على أن يوضع هذا المبلغ مسبقا في صندوق يعلّق قرب باب بيت الراحة، والتفكير في تزويده بآلة تسليم وصولات الدفع، أمّا التبوّل اليومي فيكون بمعلوم لا يفوق الخمسين مليما، وإن تجاوز عدد “البولات” الخمس يوميا يُضاعف المعلوم المتفق عليه، إضافة إلى دفع معلوم استهلاك الماء المستعمل في عمليات غسل اليدين وغسل وتعقيم وسائل وآليات التبوّل والتغوّط بعد الانتهاء من كل عملية إفراغ نفايات، كما اقترحت ابنتي فرض ضريبة بـعشرة في المائة عن كل حصّة تغوّط وتبوّل تفوق مدّتها الربع ساعة تستعمل في شراء مستلزمات المكان وتعقيمه…مع اقتراح إضافة معلوم خاص لكل اسهال معلن، وتعريفة خاصة لكل اسهال غير معلن…وتدخّلت أمينة المال ومقرّرة المجلس زوجتي لتقترح الاكتفاء بمياه الماجل العائلي للشراب للضغط على فاتورة استهلاك الماء الصالح للشراب والتطهير عامة…

دوّنت مقرّرة الجلسة كل ما تمّ اقتراحه في الساعة الأولى من الجلسة والتي خصصت لدراسة أوضاع الماء والتطهير وبقية التدابير…وانتقلنا إلى فاتورة استهلاك الكهرباء التي فاقت هذه المرّة أيضا ربع المليون من المليمات…وقد قررنا إلغاء كل الفوانيس الداخلية والإبقاء فقط على الفوانيس الخارجية، مع توصية بالتعويل على الشمع والعودة إلى “الڨازة” داخل البيوت…وفي هذا الإطار تدخّل ابني الأوسط ليقول “أقترح الامتناع مستقبلا عن مشاهدة القنوات الوطنية، ومطالبة الشركة بحذف معلوم التلفزة الوطنية من الفاتورة” فكلفناه بكتابة عريضة لرئيسة الحكومة “نجلوتة” للقيام بإجراءات الحذف، مع التنبيه عليها بأن المجلس قد يقرّر التصعيد، في قادم الأشهر والاتصال بمنظمة الدفاع عن المستهلك إن لم يتم حذف معلوم القنوات الوثنية، عفوا الوطنية…

كما اقترحت ابنتي مشاهدة مقابلات كرة القدم في مقهى الحي والمسلسلات التركية عند جارتنا “مغلية”…والاكتفاء بمتابعة الأخبار الوطنية والعالمية عبر مذياع قديم أعدنا له الحياة عند صديقنا “محرز تورني فيس” المختصّ في إصلاح كل التجهيزات الالكترونية والمنزلية…وتمّ في نهاية جلسة مناقشة ميزانية الكهرباء والغاز التطرّق إلى موضوع قوارير الغاز، فقرر مجلسنا الموقّر بالإجماع العودة إلى التعويل في طبخ وجبة العشاء على “الحطب”، وتكليف ابني الأكبر بالسفر شهريا إلى صحراء تطاوين والقيام بعملية “تحطيب” واسعة لِمَا يبس من نبتة الشيح والتقوفت والعرعار وغيرها من الأعشاب الرعوية والطبية الصحراوية…كما تمّ تكوين لجنة عائلية لوضع برنامج شهري لشحن الهواتف وإقرار معلوم على كل عملية شحن، على أن يرتفع المعلوم إلى الضعف في صورة تجاوز أربع عمليات شحن أسبوعيا…وفي نهاية النقاش تمّت قراءة الفاتحة والدعاء “اللهم اعطب “طرطارة” موزع فواتير الكهرباء…وابعده عن دارنا من فصل الصيف إلى فصل الشتاء”…

انتقلنا مباشرة بعد راحة بربع ساعة تناولنا فيها البعض من “البسيسة” و”البعرور” وهي وجبة فرضتها السياسة التقشفية التي بدأ مجلس الأمن العائلي في توخيها منذ تسريب وثيقة الحكومة النجلوتية وإصلاحاتها الكارثية…أقول انتقلنا بعد مناقشة الماء والكهرباء وشؤون بيت الراحة لدراسة أوضاع بقيّة التكاليف المعيشية التي ستتضرر بما قررته حكومتنا من تصرفات عدائية لم تعرفها سابقا العائلات التونسية…طلب ابني الصغير الكلمة وتطرّق إلى إلغاء الدعم التدريجي عن المحروقات…وتبعاته على قطاع النقل عموما…قلت ماذا تقترحون في الأمر وهل ثمّة ما تقترحونه على حكومة “نجلوتة” لمساعدتها في إيجاد بعض الحلول السريعة والمفيدة…؟ قالت ابنتي مبتسمة “ما رأيكم في حمار أو جحش لكل مواطن”…ضحكنا وقلنا جميعا “لم لا؟ الفكرة ثورية وتليق بمقام حكومتنا ودولتنا وأزمتنا”…

حينها أضاف ابني الأوسط “ما رأيكم في حمار لكل مواطن كشعار للمرحلة وهو إجراء قد يخفف علينا كثيرا وطأة تكاليف المحروقات فبرميل النفط تجاوز المائة دولار أخيرا” قلت “علينا دراسة الأمر بأكثر تعمّقا وأظنّ أن تعويض التاكسيات بالــ”كريطة” أمر إيجابي ومفيد في أوقاتنا هذه…كما أن شعار جحش لكل تلميذ في الثانوي، وطالب في الكلية قد يكون أيضا مفيدا فتكاليف الجحش أو الحمار اقلّ بكثير من تكاليف الحافلات وسيارات الأجرة والسيارات الخاصة، فقط وجب توفير العلف وأماكن الوقوف للبغال والحمير والابل…وأقترح دهن الحمير بلون خاص …وحمير النقل العمومي بلون آخر…وبغال كبار السن بلون خاص…والابل يركبها الوزراء وكبار المسؤولين…ومنع المرأة من ركوب ظهور الحمير والبغال وتمكينهن من أولوية ركوب “الكريطة”…كما علينا إيجاد حلّ للتلوث الذي قد يتسبّب فيه تغوّط الحمير والبغال…

فجأة ارتفع صوت ابني الكبير ضاحكا وقال”يعني لو كان التلميذ حمارا أو جحشا في دراسته سيقول كل من يراه راكبا على الحمار أو الجحش “جحش راكب على خوه””…ضحكنا جميعا وقررنا كتابة تقرير في الأمر وعرضه على حكومة “نجلوتة” ليكون حلاّ وطنيا لأزمة الغاء الدعم عن المحروقات…فالحمير لا تشحن بالبنزين ولا بالكهرباء والبغال متوفرة في كل جهات البلاد…وقرر ابني الأصغر وفي إطار مبادرة إعادة توظيف الحمير والإبل والبغال أن يكون أول من يعوّض سيارته ببغل أنيق رآه في زريبة جارنا “عمّ فرج الحمراوي” كما أن حفيدتي طالبت وفي إطار تفعيل مبادرة حقّ الحمير في تقرير المصير بتبنّي جحش تركبه وتتدرب على سياقته فلا أظنّ ان الحمير والبغال والإبل في حاجة إلى رخص سياقة أو ساعات تدريب مضنية…ولا أظنها ستنضبط لعلامات وإشارات المرور…

في آخر نقطة من نقاط برنامج اجتماع مجلسنا قررنا قراءة الفاتحة على بعض المواد الغذائية والخضر والغلال دون مناقشة وطأة غلاء أسعارها على جيوبنا وميزانية العائلة…فوضعنا تفاحة وموزة وبعض التمرات على طاولة الاجتماع وبكيناها طويلا وخطب ابني الأوسط وعدّد مزاياها ومنافعها ثم ودعناها جميعا بأن قبّلناها…ثم أتينا ببعض من لحم الضأن والدجاج وسمكة من السردين وقرأ ابني الصغير خطبة الوداع ثم قبّلناها جميعا وواريناها قفّة جارنا الذي سمح لنا بقراءة الفاتحة على أرواحها وتوديعها…في الأخير جاءت مقرّرة الجلسة برغيف من الحجم الكبير وخطب ابني الأكبر خطابا يليق بمقام هذا الرغيف المناضل الذي قاوم لعقود كل محاولات ارتفاع أسعار المواد الأساسية ثم قررت تكريمه على طريقتي بتوسيمه بوسام الفقر والجوع الوطني وسط تصفيق وهتاف بقية أعضاء المجلس واللجان المساندة وبعض رجال الإعلام ممن واكبوا فعاليات اجتماع مجلس الأمن العائلي…

في آخر الجلسة تساءل ابني الأكبر قائلا “لو طبقنا ما اتفقنا عليه فهذا يعني أننا سنعود نصف قرن إلى الوراء…ولا أظنّ أن الأمر سيكون مريحا كما يتصوره بعضنا…نحن اليوم أمام خيارين إما العودة 50 سنة إلى الوراء…أو الهجرة في أول باخرة مغادرة…فتونس هي البلاد الوحيدة في العالم التي كان ماضيها أفضل وأجمل من حاضرها…فما رأيكم…الهجرة أو العودة إلى سنة 1970…” فكرنا طويلا وقررنا…الهجرة…فبلاد تدفع فيها ثمن التغوّط غاليا ولا يتمتّع فيها التبوّل بإعفاء ضريبي…لا يمكن العيش فيها….فالخوف هو أن يقع غدا…أو بعد غد فرض عقوبة حجز معدّات التغوّط والتبوّل حين يمتنع المواطن عن دفع ما عليه من ديون…ولا غرابة في ذلك في دولة تبحث عن تمويل ميزانيتها بكل الطرق والأساليب…

“بابا…بابا…نصف النهار شبيك لتوّه راقد”…هكذا صرخت في وجهي ابنتي بعد أن استغربت نومي لتلك الساعة…نظرت إليها وسألتها “كملتوا الاجتماع؟ …”…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار