لعل بعضنا يعلم دون الآخر بأن المنتدى الاقتصادي الدولي صنّف تونس بين الدول الخمس المهدّدة بشبح الانهيار، ولعل بعضنا يعلم أيضا أن المحادثات مع صندوق النقد الدولي لم تتقدّم خطوة واحدة،
ولعل بعضنا يعلم أيضا حجم الضغط الذي تعرّض ويتعرّض له رؤساء البنوك التونسية لتزويد الخزينة العامة بما يقيها جفاف المخزون المالي…ولعل بعضنا يعلم أيضا أننا فشلنا في الحصول على بعض الموارد المالية من بعض الدول التي وعدتنا بذلك…فهل وصلنا إلى نهاية الطريق قبل الهاوية…؟ نعم وصلنا إلى حافة المنحدر…حافة الهاوية …ولا أحد ممن يُحكمون قبضتهم على البلاد خرج ليعلمنا أين نحن اليوم من الإعلان الرسمي للإفلاس والوفاة…جميعهم يبتسمون أمام عدسات التصوير وكأن البلاد تسعد في عهدهم الأعرج الموبوء…
الأغرب من كل هذا هو أن الهوّة تتوسع يوميا بين مكونات هذا الشعب المغلوب على أمره…والأخطر من كل هذا هو أن الفتنة بدأت تطلّ برأسها على هذا الشعب وهو الذي نجح في درئها لعقود رغم كل من تأمروا عليه وعلى وحدته…تونس اليوم تعيش أسوأ أيامها منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة…وسوء أوضاع وأحوال الدول يقاس عادة بمن يحكمها فتونس وخلال عشر سنوات ويزيد حكمها متطفلون وطفيليون، هؤلاء قسموا البلاد وشعب البلاد إلى ملل وطوائف رغم أنفه… فأصبح من يلعق حذاء الحاكم وطنيا …ومن يعارضه خائنا وجب رجمه ومحاسبته…فمن يحكمنا اليوم ويسكن قرطاج أصبح يوزّع “الوطنية” على من يريد ومن بايعوه…ونسي أن كل من ينتمي لهذا الوطن وطني وإن لم يبايعه …وكل من يسكن أرض هذا الوطن وطني وإن لم يصفّق لخطبه الجوفاء التي لم تأت بخير واحد لهذا الشعب…وكل من يستنشق هواء هذه البلاد وهذه الرقعة من الأرض وطني وإن رفض ساكن قرطاج…
ساكن قرطاج نسي بتوزيعه للقب الوطنية على أتباعه وأنصاره ومن يريد…أقول نسي أنه بما يأتيه يوسّع الهوّة بينه وبين من ذهبوا أحد أيام أكتوبر منذ سنتين خلت لصناديق الاقتراع ليختاروه رئيسا لهم، ليس حبا فيه ولا من أجل سواد عينيه، بل قطعا للطريق أمام خصمه…ونسي أن ما يفعله قد يتسبّب في غياب الشعور بالانتماء لهذا الوطن من كل من يعارضونه ويرفضون سياساته الفاشلة التي أوجعت البلاد والعباد…فالشعور بالانتماء لتونس هو الدافع والمحفّز الوحيد المتبقّي للتونسي منذ خديعة الرابع عشر من جانفي 2011 وانقلاب 25 جويلية الماضي ليقدّم أفضل ما في وسعه لوطنه، وهو الشعور الوحيد الذي يمنعه من الإساءة للبلاد، فالوطن هو السفينة التي يركبها الجميع وأي أمر يؤلمها سيدفع ثمنه الجميع ويعرّض الوطن كل الوطن إلى الخراب والسقوط…
وعلينا أن نعترف أن سفينة تونس اليوم تترنّح في مضيق مظلم قد لا تخرج منه أبدا دون أوجاع، وتمزّق وتشتّت وعجز قد يكون تأثيره رهيبا وخطيرا على مستقبل البلاد عموما…فتونس اليوم سفينة خرّبتها رياح أحقاد أبنائها الذين نسوا إصلاح حالها، ولم يكترثوا لوجعها، واكتفوا بتقطيع أوصالها وكسر أخشابها ليصنعوا من بقاياها كراسي يجلسون عليها وهم يحكمون…لكن هل تفطّن ساكن قرطاج ومن معه لما يفعلونه بهذا الشعب…هل باستشارة عرجاء عقيمة الفائدة سيخرجون الوطن مما هو فيه؟ وهل بمصالحة جبائية “مسمومة” قد تعصف بوحدة البلاد وتعمّق الكراهية بين الطبقات سيصلحون حال هذا الشعب؟ وهل بقانون مالية مثير للسخرية سيديرون شؤون الدولة؟ أنَسوْا أنهم يصنعون أسباب دمار البلاد بما يأتونه؟ أنسوا أن تبعات فشلهم ستكون أكثر دمارا من تبعات فشل من سبقهم في حكم البلاد؟ أنسوا أنهم هم الجهة الوحيدة المسؤولة عن كل خراب قادم…؟
فالشعب ومنذ أكثر من عقد بدأ يشعر بالضيق والاختناق …وساكن قرطاج ومن معه لم يكترثوا لأمره تماما فهم غارقون في تصفية حساباتهم مع خصومهم …غارقون في البحث عن كل الوسائل التي تقطع الطريق أمام منافسيهم في الموعد الانتخابي القادم…فماذا لو فشلوا في قطع الطريق أمامهم؟ هل سيكتفون بالقبول أم سيلجؤون إلى وسائل أخرى قد تزيد من أوجاع هذا الشعب، فالتعنّت الذي نراه عند ساكن قرطاج ورفضه لكل الحلول المعروضة عليه خطير، وقد يكون سببا في فتنة تأتي على ما تبقى من دولة ماتت من أجل بنائها أجيال وأجيال…فلِمَ يتعامل ساكن قرطاج بفوقية وغرور وتعال مع كل مشكلات البلاد؟ لِمَ ينصّب ساكن قرطاج نفسه فوق الجميع، وفوق حتى مقام الوطن ولماذا يتعامل بنفس الأسلوب الذي كان يرفضه عند من حكموا قبله؟ ألا يمكن أن ينحرف في قادم الأشهر لو تأكد أنه فشل فشلا سيكلفه غاليا…أقول ألا يمكن أن ينحرف وينقلب إلى مستبدّ لم نعرف مثله في البلاد؟ ساكن قرطاج يرفض كل تنازل وكل حوار يجمع الجميع حول طاولة واحدة، وزاده هتاف أتباعه من الذين يأتمرون بأحقادهم، والذين يريدون تصفية حساباتهم مع كل من سبقهم في الحكم …أقول زاده تصفيق أتباعه تعنّتا على تعنّت والخوف أن يذهب بنا تعنّته إلى ما لا نريده ونرضاه لهذا الوطن الجريح…
على ساكن قرطاج أن يعلم جيدا ما تعنيه السلطة وما يعنيه الوطن…فالسلطة ليست الوطن …إنما هي فقط من يدير شؤون الوطن، فهو إذن ليس الوطن …ولا حقّ له في توزيع لقب “الوطنية” على من يريد ونزعه عمن لا يريد…كما لا يمكن له محاسبة من ينتقد ما تأتيه السلطة الممثلة في الرئيس، واعتباره عدوا للوطن، فالرئيس ليس الوطن…والوطن لا يمكن اختصاره في الرئيس…فالسلطة تدير شؤون البلاد والشعب بالدستور والقانون…فإن فشلت ستحاسب…وإن أخطأت ستحاسب…وإن أفسدت ستحاسب…وإن لم تعدل ستحاسب…وإن ظلمت ستحاسب…وإن اساءت الاختيار ستحاسب…وهي اليوم في الخطأ الأكبر…ألا يمكن اعتبار التعنّت والتعالي خطأ قد يتسبّب في تبعات خطيرة على البلاد؟
وكأني بساكن قرطاج نسي أو تناسى أن الشعب الذي انتخبه قد لا يفعلها مستقبلا وقد يطالب بخروجه حتى قبل نهاية عهدته…فهذا الشعب يريد وطنا للجميع وليس فقط لمن هرولوا وراء سيدهم يصفقون ويهتفون باسمه وبطونهم خاوية وجيوبهم فارغة…هذا الشعب يريد وطنا يحمي الجميع…ويتعامل مع الجميع….ويطبّق العدالة والمساواة على الجميع…هذا الشعب يريد وطنا يضمن الحرية للجميع ويحترم كل الأديان وكل المذاهب…وطنا يجرّم من أساء ويغفر لمن تاب ويحتضنه…وطنا يشعر فيه المواطن بالأمن الاجتماعي …وطنا لا أحد يعتدي فيه على الآخر حتى ولو بكلمة كما يفعل الرئيس في كل مجلس وزاري…وطنا لا يفرّق بين مناطق البلاد في توزيع المشاريع والخدمات…والبنية التحتية والأساسية…وطنا بلا فقر…ولا جوع…ولا مرض…وطنا تصان فيه حرية التعبير ولا يسجن فيه من يعبّر عن موقف مغاير لموقف السلطة وصاحب السلطة…وطنا لا يُختطف فيه المواطن ولا يختفي لأنه قال ما لا يرضي السلطة…وطنا لا تشوّه فيه سمعة البعض ولا تهتك فيه أعراضهم فقط لأنهم لم يبايعوا الرئيس…وطنا لا عنف فيه ولا دمار…وطنا لا ذل فيه ولا خنوع….وطنا لا يجبر فيه المواطن على ما تريده السلطة والحاكم بأمره…
هل نحن اليوم نعيش كما يجب أن نعيش في وطن يطيب فيه العيش؟ هل وفى ساكن قرطاج بوعد واحد من وعوده؟ هل هو قادر على الوفاء بوعوده أم هو انساق فقط كالبقية وراء شعارات جوفاء ووعود لا يمكن تحقيقها؟ فالمواطن اليوم في تونس لا يشعر أن هذا الوطن يتسع فعلا للجميع…فهذا الوطن أصبح يضيق بمن يسكنه وكأني بساكن قرطاج جاء ليقصي من ليسوا معه ومن لم يبايعوه؟؟؟ فوطن تفتقد أغلب مدنه وقراه بنية تحتية قادرة على مجابهة كل الفصول وكل الأخطار ليس وطنا يطيب فيه العيش ويصفّق فيه لحاكمه…ووطن يتهم فيه جزء من الشعب بكل الفساد دون إثبات ولا حجة لا يمكن أن يكون وطنا عادلا…ووطن توزع فيه المسؤوليات الجهوية والمحلية فقط على من قاموا بحملات الرئيس الانتخابية ومن أشعلوا له عود ثقاب لسيجارته “الكريستال” لا يمكن الوثوق بعدالته … ووطن يخوّن فيه ويهتك عرضه فيه ويشيطن فيه ويُنعت بأبشع الأوصاف فيه كل من ينتقد الرئيس ومن هم مع الرئيس وما يأتيه الرئيس وحكومة الرئيس ومن مع الرئيس، ليس وطنا العيش يطيب فيه…ووطن يموت فيه العاطل عن العمل غرقا …وحسرة…وكمدا…واحباطا…لا ولن يطيب العيش فيه…ووطن يجوع فيه الفقير ولا يجد من يعطيه…ويموت فيه المتشرد ولا يجد من يؤويه…ويمرض فيه الفقير ولا يجد من يداويه…لا ولن يطيب العيش فيه…فهل هذا حقّا… وطن يتسع للجميع…؟
لا أظنّ أن البلاد ستخرج مما هي فيه بما يفعله الرئيس ويأتيه…فتعنّت الرئيس سيبقينا في دائرة التناحر وتصفية الحسابات وقطع الطريق أمام بعضنا البعض، فالرئيس بما يأتيه لا يبحث عن إصلاح حال البلاد بل يريد ربما دون أن يضمر ذلك، تعميق أوجاع وجراح البلاد والعباد….فهو يبحث عن البقاء على كرسي قرطاج لعهدة أخرى يحاول فيها انجاز بعض وعوده وتسجيل اسمه ضمن قائمة من نجحوا في حكم البلاد…ساكن قرطاج يدرك اليوم جيدا أنه لم يفلح في أمر واحد منذ جلوسه على كرسي قرطاج، وعلى بينة من أنه اكتفى بشيطنة خصومه وقطع الطريق أمامهم بتوظيف القضاء وآلياته…فدعواته للقضاء لتصفية خصومه أصبحت علنية وواضحة وأمام كل الشعب…فالمواطن أصبح على موعد اسبوعي وأكثر أحيانا مع وصلة إنشاد “قيسي” نسبة لقيس سعيد يوزّع فيها سيادته كل أنواع التهم والشيطنة لكل خصومه حتى من كانوا يصفقون له ويهتفون باسمه…
أليس ثمة حل تستفيد منه البلاد…وتسعد به العباد؟ ألم يحن موعد جمع بقايا أشلاء وطن خربته الأحقاد…ألم يحن موعد نسيان المصالح الشخصية، والفئوية، والحزبية، والقبلية من أجل مصالح اشمل وأوسع وأهمّ…ألا يمكن أن نعود خطوات إلى الأمام…اين كنّا قبل حلول باعة الأوهام…فقد سئمنا الزحف إلى الوراء…سئمنا المراوحة في مكاننا…ألم يحن موعد لمّ الشمل…شمل الجميع…شمل كل تونسي …فلاحا أو عاملا أو موظفا أو وزيرا أو طالبا أو مدير أو مهندسا رجلا كان أو امرأة …مواليا كان أو معارضا…متحزبا كان أو مستقلا…دون استعداء لأحد…ودون قطع طريق أمام أحد…ودون شيطنة لأحد…ودون هتك لأعراض أحد…ألم يحن موعد حملة من أجل جمع أشلاء الوطن الذي فقدناه بأحقادنا…فهذا الوطن يناشدكم أن تنسوا أحقادكم…وأطماعكم…وسوء نواياكم من أجل أن نعيد للوطن أنفاسه…ألسنا “أوكسيجين” هذا الوطن حين يختنق…وحين يفقد أنفاسه…الوطن يناديكم…يستصرخكم…أن تنسوا الكراسي…والمناصب…والجاه…والسلطة…فهل أصلحت الأحقاد حالنا وحال البلاد؟
وأعود لأقول وللمرّة الثانية لساكن قرطاج فهو اليوم الوصي على البلاد، حتى وإن جاءت به الأحقاد…ألم يحن وقت العودة بيننا…ألم يحن وقت الصمت بعد كل الكلام…أما علمت اليوم أنك لست عمر…ولن تكون…ولست ابن عبد العزيز، ولن تكون…ولست بورقيبة ولن تكون…ولست مانديلا، ولن تكون…ولست الحاكم العادل وأنت لم تعدل…ولست وطنا…فالوطن أكبر وأبقى…وأنت وإن طال بك المقام لن تبقى…الوطن وحده أبقى…يا رئيس البلاد أما علمت أن أول درس يتعلمه الطيارون هو “قبل أن تبدأ شيئا تعلّم كيف تنهيه” ألست طيارا يقود أمّة… فحذار… وأنت تستعد للنزول…