إلى أين ستأخذنا الأحقاد؟ وهل هكذا سننقذ البلاد؟ المتابع لما يجري في البلاد يدرك أن ساكن قرطاج حوّل وجهة “شعبه” أو لنقل أتباعه ومن بايعوه إلى هدف آخر غير الذي ينتظره عموم الشعب…
ساكن قرطاج أصبح يتعامل مع خصومه، أو لنقل من يكرههم ومن يعتبرهم حجر عثرة أمام سيطرته على كل مفاصل الحكم في البلاد، بحقد غريب عجيب لم تعرفه تونس سابقا أبدا…فحتى ما وقع بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 لم يكن بهذا الحجم…فالرجل لم يأت بشيء يوحي بأنه فعلا يريد خدمة البلاد، ولم يظهر ولو قليلا من العقل والحكمة في تعامله مع الأحداث وكأني به لا يأبه لوضع البلاد، ولا لحال العباد…همّه الوحيد فسخ كل تاريخ تونس وكتابة تاريخ على مقاسه، وكأنه هو من بناها وشيّد أعمدتها، وكأني بقيس سعيد يريد إعادة كتابة تاريخ البلاد دون ذكر من ضحوا من أجلها، ومن عانوا السجون والمنافي من أجل استقلالها ليكون اسمه فقط ببنط عريض في أول وأخر صفحات هذا التاريخ…
ماذا يريد قيس سعيد بما أتاه؟ ما سرّ كل هذا التردّد؟ ولماذا لا يهتمّ بكيف ينقذ البلاد من أزمتها؟ هل هو على بينة بوضع البلاد الاقتصادي؟ وهل هو على دراية تامة بما يجب أن يفعله في هذه الحالة؟ هذه الأسئلة قد لا نجد لها الأجوبة التي تليق بخطورتها…وأظنّ أن قيس سعيد نفسه لا يعرف الإجابة عنها…عليه أن يعي جيّدا أن السياسة ليست فقط ما دَرَسَهُ في الجامعة، وليست فقط ما يمكن أن يسمعه من طالب درَّسهُ…فالسياسة صراع من نوع آخر لا وجود لمدينة فاضلة فيه…ومن يحلم بأن يكون كالفاروق أو كعمر بن عبد العزيز في زمن كالذي نعيشه، فهو واهم وعليه أن يستفيق من غفوته قبل فوات الاوان…فالبطء الذي اتسمت به تصرفاته وردود فعله يؤكّدان جهله التام بما يجب أن يفعله في مثل هذه الظروف، وأن خوفه من كل خطوة قد يقدم عليها مأتاه انعدام ثقته في كل من هم حوله، ومن يؤثثون معه المشهد السياسي الحالي، فهل سنضطرّ لجلب ساسة من كوكب آخر غير كوكبنا…
فالسياسة هي نفاق …وكذب….وتآمر…ومخاتلة…وغرف مظلمة….وخيانات…ووطنية أيضا…ووفاء كذلك…وتضحية…وكثير من الحقد….وكثير من الحبّ…ولم تكن أبدا حتى أيام الرسول الأعظم عكس ذلك…فلم كل هذا الذي يقع لتونس مع قيس سعيد، فهو لن يبني المدينة الفاضلة ولن يكون الفاروق؟ عليه أن يعلم أننا قد نتفق كثيرا…وقد نختلف كثيرا…وقد تفرقنا السياسة عمن نحب، ومن هم أقرب الناس إلينا، لكن علينا فقط أن نُبقي على وحدة الهدف الذي نجتمع حوله من أجل تونس…وتونس فقط…فهدفنا ليس إقصاء هذا، والإبقاء على ذاك كما فعلت النهضة ومن معها من قوى اليسار الغبي يوم استولوا على حكم البلاد بعد 14 جانفي…كما أنها ليست التنكيل بهذا وتعذيب ذاك كما فعلت النهضة ومن معها من اليسار الأحمق بعد 14 جانفي…فالتاريخ لا يكتبه من يخرّب بل من يبني ويرفع البناء عاليا…لذلك على قيس سعيد أن يعي جيدا أننا في حاجة إلى رجل وطني قادر على تجسيد الخروج من مأزق الأحقاد والانتماءات الحزبية، ليكون تعبيرا آخر يتجاوز بمفهومه الوطني الشامل حدود الأحزاب لكن دون أحقاد….وهذا ما يُعاب على قيس سعيد فالرجل ارتفع عنده منسوب الحقد إلى درجة اصبح من الصعب التعامل معه خدمة لهذه البلاد…
ومن أجل كل ما ذكرت يمكن أن أقول لقيس سعيد، إنه عبثا تحاولون محاكاة ما فعله قبلكم بورقيبة، فبورقيبة كان زعيما…كامل الأوصاف…وعبثا تواصلون حربكم ضدّ كل من يختلف معكم ويخالفكم الراي فمن خالفوكم الرأي…منهم من جمعتهم الشوارع…ومنهم من جمعتهم الدماء…ومنهم من جمعتهم السجون…ومنهم من جمعتهم المنافي…فعبثا تفرقون بينهم وأنتم تحقدون…وأنتم لم تعرفكم الشوارع…ولم تجمعكم دماء من ماتوا في الشوارع…وفي جبال عرباطة وتوجان وأنهج وشوارع بنزرت، وغيرها من جبال ومدن معارك التحرير الوطني…فالفرق بينكم وبينهم شاسعا…فهم ناضلوا وفَدَوْا بأرواحهم…وبدمائهم وطنهم…وأنتم درستم القانون…والدساتير…وانقلبتم عليها مباشرة بعد أن غادرتم قاعة التدريس…وأعود لأقول عبثا تحاولون محاكاة بن علي رحمه الله…أو حتى قايد السبسي رحمه الله فكلاهما خدم بلاده…ودفن أحقاده…هم عملوا وبنوا…ومن يبني يخطئ أحيانا…وأنتم لم تبنوا حجرا واحدا…وأخطأتم قبل أن تبدؤوا البناء…
أسألكم أنتم، هل تعلمون ما قد يتسبب فيه تعنّتكم…ورفضكم للآخر…وحقدكم على الآخر…قد يكون هو عود ثقاب فتنة قد تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى…فهل تونس اليوم في حاجة إلى فتنة تأتي على ما تبقى من بناء؟ فلا توقدوا نار الفتنة تلبية لشهواتكم…وأحقادكم وما تبتغون…ولا تقلبوا الرأي إلى نزوة…ولا تجعلوا من عاطفتكم شهوة قد تحوّل وجهتكم إلى هدف يخلّد اسمكم في قائمة من خربوا أوطانهم واضاعوا الفرص أمام شعوبهم…وأعلموا أن السياسة ليست فقط ما دَرَستم…وما دَرَّستم…السياسة والحكم في زماننا هذا، هي اليوم دمار وغدا اعمار…واليوم سكوت…وغدا حوار…واليوم انحناء …وغدا استكبار…كما أنها قد تنقلب إلى أكثر من كل ذلك لتصبح اليوم هجوم… وغدا فرار…والعكس بالعكس…
أسألكم أنتم، هل تعلمون أن هذا الشعب عاش حتى يومنا هذا وأعي ما أقول بيومنا هذا، وأقصد يوم كتابتي للمقال…أقول هل تعلمون أن هذا الشعب عاش ومنذ 17 ديسمبر 2010 عهدا مشؤوما …ألبس كل عائلاتنا الحداد مرّة وأحيانا أكثر…عهد ظلم وما أكثرهم من ظلموا في هذا العهد…عهد لم تُنكب البلاد بمثله منذ ولادتها على يد عليسة وثورها المسكين…فهل جئتم أنتم لإدخال اليأس في قلوب الناس أم نزعه؟ وهل جئتم للانتقام والثأر لمن ظُلموا أم لإصلاح حال العباد والبلاد…هل جئتم لملء صدور بعضهم على بعضهم الآخر بالحقد، أم جئتم لنزع الأحقاد؟ أتعلمون ما حاجة البلاد إليه اليوم…هي فقط في حاجة إلى خصومة سياسية شريفة …خصومة لا مخاتلة فيها…ولا تلفيق تهم…خصومة لا تعمل في جنح الظلام…خصومة هدفها واحد…انقاذ وطن يضيع…
أسألكم أنتم، هل تعلمون…وأنتم تعلمون بأن من حكموا قبلكم لم يتورعوا عن المساس بقدسية واستقلالية القضاء، وهل تعلمون أن بعض ما أتيتم مسّ من قدسية القضاء واستقلاليته أيضا…فهل جئتم لتفعلوا ما فعلوه…وهل جئتم لتخطئوا اين أخطأوا…؟ أليس من واجب الدولة ومن يحكمها بأن يُطمئِن الشعب بعدالة القضاء وقدسيته حتى لا يقتصّ الشعب لنفسه من بعضه البعض…
أسألكم أنتم، أتعلمون أنكم بخطابكم قسّمتم البلاد إلى من مع الأمير ومن ضدّ مولاه الأمير…فهل جئتم لتحافظوا على ما لم تمسسه يد التدمير أم جئتم لتواصلوا التدمير…اتهمتم خصومكم…شيطنتم من تختلفون معه…ولم تصوروا لأنفسكم لحظة واحدة ما كنّا مع من اخترتموه لكرسي القصبة نعانيه…فهل أدركتم الآن وبعد انقلابكم عليه، ما كان يمكن أن يكون في وسعكم ووسعنا أن نتقيه…
أسألكم أنتم، هل تريدون أن يكبر كرسي قرطاج بكم، أم تريدون أن تكبروا بكرسي قرطاج…فإن أردتم أن يكون كرسي قرطاج كبيرا بكم فتَخَلُوا عن أحقادكم…وادفنوها…فالبلاد تنخرها الأحقاد منذ يوم حكمها بعض الأوغاد…واعلموا أن الظلم يقسو على المظلوم زمنا…وعلى الظالم أزمنة…وأعلموا أن مشيئة الشعب دائما تكون، فوق ما يشاء الحاكم، وما يشاؤون…والشعب ليس فقط من يهتف باسمك…وينكّل بخصومك نيابة عنك…الشعب أيضا من يعارضك…ومن لا يصفّق حين يمرّ ركبك…ومن يكتب عنك وفيك كلاما لا يعجبك…ومن لا يعجبه كلام الأمير…وظلم الأمير…فلم لا تستمع لصوت الضمير…مناجيا…فربما ينقلب غدا صوت الضمير إلى زئير…