ارشم شكبّة ، سيّب هنا ، السبعة الحيّة عندي … پاسّ ( passe ) كونتراي ( contré ) …كانت هذه العبارات و غيرها تتردّد في أرجاء المقهى حيث أخذ المرتادون يترشفون مشروباتهم و يلعبون الورق ويتبادلون النكت و الحكايات في هدوء عجيب و الهواء الخانق محيط بهم و السماء ملبدة بدخان أسود فوقهم و الخلفية حمراء ملتهبة وراءهم حيث تلتهم النيران الغابة الجبلية ...
مشهد سريالي يطرح الف سؤال و سؤال … أي هدوء خيم عليهم و هم يلعبون غير عابئين بالكارثة و بمحاولات الحماية المدنية للسيطرة على حريق لا يبعد عنهم الا كيلومترات معدودة !؟ أية لامبالاة صار عليها النّاس تجعلهم لا يأبهون لما يحصل و لا يحاولون المساعدة أو التّطوّع لمعاضدة مجهودات رجال المطافئ ؟؟ ماهذا الشباب المنفصل عن واقعه و لم هذا البرود ؟ هذه الصورة التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي صادمة و لكنها صادقة و رغم ما فيها من ألم إلا أنها تعكس عقلية المجتمع التونسي الذي يعتنق مبادئ من نوع ” اخطى راسي واضرب ..” أو ” ضربة في غير جنبك … ”
هذه اللامبالاة و الانسحاب من الشأن العام صارا سمة مميزة للتونسي و ما عزوفه عن الانخراط في الأحزاب أو في منظمات المجتمع المدني أو حضور اللقاءات و الندوات أو القيام بالعمل التطوعي، الا دليل على أن اهتماماته مغايرة و أنه سئم الواقع المحيط به و لا يشعر بقدرته على الفعل و التغيير بعد أن وقع تهميشه و إغراقه في التفاهة و إبعاد الكفاءات منه و احتل المشهد ” التر و الفر و سارق مغزل أمّو” …
فبعيدا عن الإعلام و صفحات التواصل الاجتماعي المواكبة للحياة العامة، لا يأبه الكثير من المواطنين لما تعيشه البلاد من غليان سياسي، و لا يهتمون بالاستفتاء و لا بمشروع الدستور و لا بالنقاش حوله و لا بالجدل الذي أثارته بعض فصوله … بل إنّ بعضهم أو حتى كثيرين منهم لا يعلمون اصلا متى سيقع هذا الاستفتاء و ما الغاية منه … و يوم 25 جويلية بالنسبة إلى البعض منهم ليس إلا يوما عاديّا من أيام الشقاء والعمل و الجري وراء لقمة العيش في هذا الحرّ الخانق … أو هو يوم عطلة إضافي و ويكاند مطوّل بالنسبة إلى الموظفين سيستغلونه للنوم أو للذهاب إلى البحر أو لقضاء عطلة مطوّلة في أحد النّزل ( لمن يستطيع لذلك سبيلا )
الكثير من التونسيين لم يعدلوا بوصلتهم على الاستفتاء و لا تهزهم حملات المناشدة و البطاقات الخضراء التي جعل المساندون الأطفال يرفعونها و التي ألصقت على الجدران و ظهور البشر و الحمير … و لا تشدّهم بيانات الرافضين أو المقاطعين و لا حتى ما تعرّضوا إليه من هرسلة و عنف بالأمس.
التونسي العيّاش اللي يجري ما يخلط لا يهتمّ بمشروع الدّستور و لم يطّلع عليه و لا تعنيه التوطئة و لا النقاش حول الفصل 5 أو 139 و لا يهمّه ائتلاف X و لا حراك Y و لا مبادرة فلان و لا فلتان و لا يقرأ بيانات الأحزاب و لا يستمع إلى تعبيرات الأشخاص الطبيعيين ( إلاّ للضحك و التّنبير ) .
التونسي العيّاش لن يذهب إلى مكاتب الاقتراع و لن يغمس اصبعه من جديد في حبر اكتوى بأزرقه النيلة في كل مرة و احترق بنيران انتهازية من وفدوا عليه و بحثهم عن مصالحهم، و لن يصدّق خطاباتهم الرّنانة التي ملأت بطنه وعودا زائفة و قد ثبت عزوفه و لامبالاته من خلال عدد المشاركين في الاستشارة الالكترونية والذي لم يبلغ حتى 600 الف مشارك رغم التخفيض في السن إلى حدود 16 سنة .
التونسي العياش كره الثورة و كل ما جاء بعدها و قد جعلته الطبقة السياسة حطبا في محرقة صراعاتها وفأر تجارب تختبر فيه نزواتها و رغباتها و معتقداتها و تصوراتها للحكم و لم يحقق له أحد الرّفاه الذي يبحث عنه … فأدار لها ظهره و لم يعد يعبأ بخطاباتها و مشاريعها و صار أقصى طموحه هجرة أو هجة إلى بلدان يُحتَرَم فيها الإنسان و يشعر بقيمته .
التونسي العياش سيواصل لامبالاته لكنه سينقضّ في اللحظة الحاسمة ليكنس جميع من تلاعبوا به وباعوه الأوهام و لعله حينها لا يسلم انتفاضته لمن يسرقونها منه و يحرص على تحقيق إرادته الحقيقية وحلمه في تونس أفضل و أكثر تقدّما و رخاء