… أفكار غريبة و ذكريات مشوشة تطرق رأسي اليوم، في الكلية، اتجهت فورا إلى مكتبة الفرنسية. كانت ريم منكبة على كتاب ضخم تفلي سطوره سطرا سطرا.
كان وجهي أصفر كالزعفران، و لم أكن بقادر على الانشراح مهما حاولني الزملاء ..
تقدمت نحو ريم خطوات، ثم عدلت عن إحراجها و إخراجها من دائرة التركيز ..
و يبدو أنها لاحظتني أتوجه إليها، فألقت ما بين يديها و لحقت بي:
ـ عبد الحميد، كنت تنوي الجلوس إليّ بلا شك؟.
* و لكن …
ـ لا عليك، تعال …
تسكعنا معا في معابر الكلية (و على رأسينا الطير).
ـ قال: لقد جاءني خبر سار من سويلمي مساء أمس.
* قلت: ماذا تقولين؟.
ـ قالت: اقرأ ..
و أخرجت من جيب فستانها المزهر ورقة صغيرة بحجم الكف تماما، أكاد لا أصدق … ارتبكت عيناي فلم أعد أتبين الحروف …
(سأعود يا ريم قريبا … سأمكث فيك يوما واحدا، ننتقل إثره إلى تهديم الخرائب و بناء العش الذي راودنا في الحلم.
لقد أصبحت فعلا غنيا على الرغم من ضيق ذات اليدين. لكن، إن أكن قررت أن أبقى فقيرا، فلأن الفقر مأوانا أخيرا …)
تملكني سهوم و انخذال … تكلفت الانشراح أمام ريم و باركت عودة سويلمي بعد كل ذلك الغياب …
* *
انقضت أيام قليلة وجدتني إثرها أعود إلى قريتي … كانت لحيتي دغلا كثيفا و وجهي مكفهرا.
و كانت قريتي غارقة في اللامبالاة حتى الذقن … كل الأمور تسير على علاتها. لا حزن بحجم الحلم يدق الأبواب بالعنف الضروري. و لا هم، غير تسقط الأخبار الوهمية و تلفيق الحكايات التافهة.
كل مساء، تنتشر الغرانيق السود فوق القرية، و تبذر قفيزا و قفيزا من النعيق الفاسد، إلى أن ألفت القرية هذا النعيق و بات جزءا من نشيدها اليومي، لم تزده الأيام إلا تمكنا بالأعصاب و القلب …
عندما حللت، استقبحوا وجهي و رجموني بالنظرات المعوجة، الوقحة … صرخت فيهم بكل ما أوتيت من شجاعة:
كلكم كلاب لا تستحقون الذكر ! كلكم أجياف تسترون نور الشمس بالغربال. هذه الأرض تلعنكم و أجداد أجداد أجدادكم … النعاس دائما و القمار دائما و النفاق و الموت !!!
نهرني جدّي: عيب هذا يا عبد الحميد ! هل جننت؟ و أهوى أبي بكفه الغليظة على خدي: أنت عاق ! أفسدتك كتب الفلسفة و السحر … أنت لست من صلبي، أنت ملقوط … و تهامس عدد من الفلاحين الشيوخ: لقد جن ! في حين وقف بعض الشبان الشداد يحملقون في وجهي و على وجوههم سحابة همّ مدلهمة.
* قال بوزيان: سبحان الله، لكأنه سويلمي في أيامه الأخيرة !
* و قال عيفة البرادعي: كلاهما نحس على القرية …
* و قال الزبيبي بوشيحة: هل عرفتم الآن، لماذا حبس الله عنا الغيث النافع ؟؟
* و قال شعيب السعفي: كانت القرية مطمئنة، هادئة، ثم جاء هذا الحطيط فشوّشها بكراع كلب …
* *
و دبت قطيعة بين الآباء و الأبناء. تسللت روائح الكآبة إلى المنازل عبر شقوق الأبواب القديمة و النوافذ المغلقة. و عاذت رية بالصلاة و البكاء و هي تلطم خديها و تندب حظها، و انسحبت الغرانيق السود فجأة …
و كان ليل طويل و ثقيل كالحيرة.
الريح تحتحت نبق السدر المصهود بالشمس و تصهل:
ـ ماذا يمكن أن تقول الريح في مثل هذا الامتداد الموحش؟
أسأل محبس الحبق المركوز منذ عهد بعيد على حافة الشباك الموصد دائما:
ـ هل كان موت فاحش، ذات ظلام موحل، في هذا البيت المغلق على روائح مختلفة؟
ظلام الليل يتساقط عذقا، عذقا، و زغاريد الريح تعلن عن ريحة موت قديم تزيح الرماد عن جثة مشروخة لشيخ حيّ.
لأكن أجلس إلى وجهي و معي وجه من تنكرت لي قهرا و على حسن ظن …
و ليكن نعيق بومي قاحلا، أكنّ له حقدا دفينا.
و ليكن نباح غليظ الشفرة، يذبح دابر الكساد.
و ليكن والدي، بأغصانه اللائثة، يحاول أمّي على الدكة و أمي تتحول عنه، و بيننا حائط شفاف كجناح ذبابة حنطها الموت …
و لأكن ألعن هذا الصمت و أشمئز من قط رمادي يتبوّل في إحدى زوايا البيت …
المخزون النفطي يتضاءل فيتضاءل ضوء القنديل، و ينفجر الفجر: شهيا كالتفاح … و تفيق القرية على دهشة الشبان و همسات الشيوخ: ـ إنه سويلمي يعود، و معه فتاة سمراء ! …