جور نار

الإذاعات إلى أين ؟ (ج 5 ـ الأخير)

نشرت

في

والآن ؟ هذا السؤال الذي يطرح نفسه بعد استعراض المتغيّرات التي طرأت على المشهد السمعي سواء في اذاعات المرفق العام او في الاذاعات الخاصة او في اذاعات الويب …الثابت انّ واقع السمعي تغيّر شكلا ومضمونا ..فحتى الابقاء على ما اصطُلح على تسميته اذاعة لم تعد التوصيفة المناسبة ..

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

الاذاعات وعلى امتداد اكثر من قرنين كانت صوتا … كانت باثّا وسيلته الوحيدة هي صوته ومتقبّلا وسيلته الوحيدة الاذن .. الان وبعد هجمة الكاميرا على استوديوهات الاذاعات اصبحت الاذاعة تلفزة او لنقل ضرّة للسمعي البصري ..وهذا يُحتّم على اهل هذه المهنة الاذاعية لا الاكتفاء فقط بصوت جميل لذيذ مستساغ بل وايضا بحضور جمالي امام الكاميرا علاوة على تقنية حركات اليدين والنظرة واللباس .الخ من متطلبات العمل السمعي البصري ..هذا يعني انّ الاذاعة بمفهومها الكلاسيكي شكلا انتهت ..وسيأتي يوم تصبح الاذاعة حتى في السيارات مسموعة ومرئية ..

آتي الان الى المضمون …كلّ التجارب وفي كلّ الفنون دون استثناء اثبتت انّ الفنّ الخالد وحده هو ذلك الذي يحمل رسالة خالدة …ويكفي ان نقوم بعمليّة جرد لتلك الفنون حتّى ندرك انّه في كلّ عصر من العصور وُجد الفنّ الراقي ووُجد الفنّ الهابط ..ومرّة اخرى لن يرسب ويُخلّد في ذاكرة التاريخ الّا ذلك الفن الذي يدافع عن القيم عن الجمال كلمة كان ام لحنا ام اعلاما .. فعندما نذكر الزمن الجميل في الغناء مثلا نرفع القبعة لسلاطينه …اذ لا مقارنة بين الهرم الرابع كوكب الشرق واطلالها وبين ماشربش الشاي اشرب قازوزة انا .. وقس على ذلك في المسرح وفي السنما وفي الاعلام السمعي …

كذلك علّمنا التاريخ انّ لكلّ عصر توصيفاته ..فعصر هارون الرشيد الذي كان ينظر الى السحب ويقول لها _ امطري انّى شئت فخراجك آت اليّ وهو الذي يملك جلّ العالم سيطرة ونفوذا، ليس هو عصر اخر ملوك غرناطة وهو يتاهّب لتسليم مفاتيح الاندلس للاسبان وامّه ترثيه بقولها:ابك كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال _ اي هنالك عصور ازدهار واخرى عصور انحطاط … فأين نحن الان من هذه العصور اذاعيا ؟؟ بكلّ صدق واقعنا الاذاعي دخل خطواته الاولى في عصر الانحطاط …فعديد الاسماء في هذا المجال ما كان لها ان تكون امام المصدح امّا لمحدوديّة كفاءتها او لسيرها في تيار اعلام هجين مقرف تختفي وراءه اجندات …وبعضهم يدري ذلك وبعضهم لا يدري والجاهل لا يُعذر بجهله ….

اي انّ الاعلامي الوطني المؤمن برسالته والواعي بدوره الطلائعي اصبح عملة نادرة …واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون _ نعم هكذا وبكلّ وقاحة بل ويعتبرونك متخلّفا وانتيكة وقديم _ هم لم يفهموا الفارق بين التطوّر والتطوير الحتمي لأيّ عمل وتلك سنّة الحياة ولابدّ من اخذ المتغيّرات بعين الاعتبار ..ولكن لم يفهموا ايضا انّ سنّة الحياة هي التي تغيّر فيها الشجرة اوراقها خريفا لا ان تقلع جذورها …والادهى وبدعوى متغيرات الحياة والبوز هم يستبدلون شجرة الزيتون بالسكّوم …_ ودزّ على تي شبيك راهي الدنيا تغيّرت _ الدنيا لم ولن تتغيّر نحن من نبدّل جلودنا كالثعابين ..ونحن من نصنع من اقزامنا ابطالا ونحن من نصنع من انذالنا اشرافا …

ايّ فنّ من الفنون عليه ان يطوّر وان يجدّد .وعليه ان يطوّر اسلوبه حتى لا يبقى محنّطا او عائشا على الاطلال …لكنّ الثوابت تبقى ثوابت ..فالفاعل مرفوع والمفعول به منصوب منذ ابي الاسود الدؤلي وحتى الابد …قد نغيّر من محسناتنا البديعية كالجناس والطباق والاستعارة ..ولكن ابدا ان ننصب الفاعل ونرفع المفعول به …وهذا ما طرأ على دنيا الاذاعات …عبثوا حتى في لغتهم بسيبويه ان تكلمو العربية وبموليير ان تكلموا الفرنسية وبشكسبير ان تكلموا الانكليزية .._ يتكلمون مع الفراغ فما همُ عجم اذا نطقوا ولا اعراب …

هذا في الاسلوب اما في المحتوى ومع احترامي للبعض القليل منهم فانّ برامجهم في جلّها _ عرك نساء في الحمّام او لغط رجالي في المقاهي …هذا امام المصدح ..امّا خلفه فوراء جلّ الاذاعات اجندات مختلفة اهدافها ..ومال مشبوه في نواياه …وشكرا لزملائنا في الحافلة .._ مع تكرار احترامي للبعض الذين مازالوا على العهد ..عهد الوطن ..عهد القيم ..وعهد الانسان …

اختم بالمارد الجديد الذي سيصبح يوما ما اكبر منافس للاذاعات وحتما سيساهم في اندثار العديد منها _ وهي بلاشي تعاني حاليا من وضعيات مادّية شائكة جدّا …_ هذا المارد الشرس اذاعات الفيسبوك ..نعم الان باستطاعة ايّ كان يمتلك حسابا عند العم مارك ان تكون له اذاعته والمرئية ايضا …هذه النوعية من الاذاعات التي ستظهر ستجد متلقّين كثرا نظرا اوّلا إلى سرعة عملها في نشر الخبر ونظرا ثانيا إلى انعدام الاشكال المادّي لديها ….

في الخلاصة و في تقديري ارى انّ الاوضاع الاذاعية في تونس وخاصة بعد 2011 لن تستقيم الا بمراجعة جذرية وحاسمة لتنقية الاعلام السمعي من كلّ الشوائب ..فاذاعات المرفق العمومي لم تعد تحتمل هذا الكمّ الهائل من المشتغلين بها والحال انها قادرة على اداء وظائفها بنصف المنتمين اليها وهذا يحتّم ومن الان اغلاق باب الانتدابات حتى لا تبقى ديار لقمان على حالها .. والاذاعات الخاصة عليها ان تفكّر وبشكل مواز لعملها في مشاريع تجارية خاصة بها لضخّ حاجياتها من نفقات منظوريها ..والتوجيه الجامعي لمعهد الصحافة وعلوم الاخبار عليه ان يراجع الجانب الكمّي في توجيه حاملي الباكالوريا لهذا المعهد حتى لا يجد اغلبهم انفسهم بعد التخرّج مجرّد ارقام اخرى في منظومة القرار 38 …كذلك وجب انشاء هيئة عليا للاعلام تعيد ترتيب البيت وتكون حاسمة وصارمة مع كلّ من لا يلتزم باعلام راق نبيل بنّاء وطني بعيدا عن الهشتك ومتحولاته …دون ذلك سيستمرّ الاعلامي السمعي في مسار سفينة تتقاذفها الرياح …ولن يغرق الا اصحابها …

والسؤال الذي يبقى مطروحا للنقاش ..هل منطقي في بلد كتونس بحاجة الى هذا الكم الهائل من الاذاعات ؟؟ مرافق عمومية كانت ام حرّة ؟؟ …الخميس 2 ديسمبر 2021 …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version