في أوضاع قلقة يتقوض فيها النظام الدولي دون أن تستبين حقائق القوة الجديدة، التي قد تتبدى بعد انقضاء الحرب الأوكرانية، نشأت مخاوف واسعة من انفجارين آخرين محتملين، أحدهما ــ بالقرب من الصين ـ حول مصير “تايوان”، وثانيهما ــ هنا في الشرق الأوسط ـ بذريعة بناء تحالف عسكري إقليمي تقوده رمزيا الولايات المتحدة وتقوده فعليا إسرائيل لمواجهة ما يطلق عليه “العدو الإيراني” المشترك.
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>
الانفجاران المحتملان ماثلان بدرجتين مختلفتين في المشهدين الدولي والإقليمي المحتقنين. في الحالة الأولى، فهو شبه مستبعد بموازين القوى، التي لا تسمح بأية مغامرات من مثل هذا النوع. في الحالةالثانية، فإنه ممكن دون أن يكون مؤكدا رهان على دور إسرائيلي في “حماية دول الخليج” من أية تهديدات إيرانية واقعية ومتخيلة. في الانفجارين المحتملين يتحمل الرئيس الأمريكى “جو بايدن” مسؤولية التصعيد إلى حدود تشبه إعلان الحرب.
أثناء جولته الآسيوية لإحكام الحصار على الصين في محيطها الاستراتيجي المباشر لوح باستخدام القوة إذا ما فكرت الصين في ضم تايوان بالغزو المسلح على النحو الذي اتبعته روسيا في أوكرانيا. بدا لوهلة خيار الحرب الأمريكية الصينية ماثلا غير أنه سرعان ما تراجع في اليوم التالي بتأكيد الخارجية الأمريكية على ثبات سياساتها التي يطلق عليها “صين واحدة”، كان ذلك تصحيحا لتعبير منفلت من الرئيس الأمريكى. الحقائق الكبرى قالت كلمتها، لا حرب مع الصين، فالأثمان مرعبة بصورة لا تحتمل. حصار الصين سياسيا واستراتيجيا ومنع أي احتمال أن يضمها أي تحالف راسخ مع روسيا شيء، والتورط في الحرب معها شيء آخر تماما. بقوة الحقائق على الأرض لم تنجح العقوبات الأمريكية والأوروبية غير المسبوقة في فرض الهزيمة على موسكو، أو اصطيادها في المستنقع الأوكراني بإمدادات السلاح، التي تدفقت على أوكرانيا في ما يشبه الحرب بالوكالة. لا روسيا أذلت ولا الغرب انتصر والحرب مفتوحة لآماد طويلة أخرى قد تكلف العالم أزمات أفدح في الغذاء والطاقة والاستقرار الدولي. إذا ما جرى اشتباك عسكري أمريكي بصيغة أو أخرى، مباشر أو غير مباشر، مع التنين الصيني بقوته الاقتصادية والعسكرية الفائقة فإن مصيرا أسوأ سوف يحدث بما لا يقاس مع الحرب الأوكرانية. لا العالم يحتمل ولا أمريكا تقدر على التحمل.
الوضع يختلف في الشرق الأوسط، احتمالات التصعيد العسكري ترتفع وتيرتها دون شبه روادع من الوطن العربي على أية درجة أو بأي قدر! هذه مأساة كاملة غير أن قوة الحقائق التاريخية والجغرافية والإنسانية تمنع مثل هذه الألعاب من أن تمضي في طريقها إلى نهايته بالسهولة التي يتوهمونها. قبل أن يغادر “بايدن” منتصف شهر يوليو قادما إلى الشرق الأوسط في جولة تتضمن زيارة إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة وعقد قمة في جدة مع تسع دول عربية، دول الخليج بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق، صدرت عن واشنطن إشارات عديدة أكدت بإلحاح لافت التزامها بأمن إسرائيل، وهذا كلام لا جديد فيه. الجديد والخطير تعهدها المسبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالى بينيت”، كما كشف بنفسه، بإدماج إسرائيل في الإقليم، أو توسيع نطاق التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري معها والتقدم بخطى نوعية جديدة في التطبيع المجاني دون أدنى التزام بأية انسحابات إسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة باستثناء ما قد يكرره بايدن فى رام الله عن الالتزام بحل الدولتين دون فعل أي شىء له قيمة يعتد بها، ولا ممارسة أي ضغط على حكومة “بينيت” لتقديم قتلة الصحفية الفلسطينية “شيرين أبو عاقلة” إلى العدالة.
ما قد يجنيه العرب عبارات في الفراغ وما قد يجنيه الإسرائيليون أفعال على الأرض. فى الجولة المرتقبة تبدو واشنطن مستعدة لتبني المشروع الإسرائيلى لبناء قوة إقليمية، تحالف أمني وعسكري، بذريعة التصدى لـ”الخطر الإيرانى” المفترض وحماية أمن الخليج، فيما هي واقعيا تحتاج إلى من يحميها! مشكلة واشنطن ــ هنا ــ أن أزمة الطاقة المتفاقمة على خلفية الصراع مع روسيا هي جوهر زيارة بايدن الشرق أوسطية لا مشروعات إسرائيل للتمدد والتوسع والتطبيع، لكنها لا تمانع في أن تتماشى مع الأهداف الإسرائيلية إذا ما كانت دولا بترولية وغير بترولية موافقة ومستعدة!
باليقين فإنها لا تريد حربا واسعة في الشرق الأوسط تتورط فيها، لكنها لا تمانع فى ترؤس ـ شكليا ـ الحلف العسكري المقترح على أن تترك قيادته الواقعية إلى إسرائيل لرفع العتب والحرج عن الدول العربية التي قد تشارك فيه! لا تريد إنهاء “مباحثات فيينا” الماراثونية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، الذي جمده الرئيس السابق دونالد ترامب من طرف واحد لكنها تخشى أن تبدو في وضع المهزوم دبلوماسيا. هناك فارق بين مناوشات التفاوض والتوجه إلى الحرب. هناك شد وجذب ومناورات معلنة وغير معلنة تستبق أية تفاهمات ممكنة، على ما يجري بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والسلطات الإيرانية، شبه قطيعة أحيانا تلحقها دعوات لمواصلة التفاوض. خضوع الوكالة الدولية للإرادات الغربية شبه مؤكد، وتداخل إسرائيل في الملف بإمداد الوكالة بالمعلومات الاستخباراتية بدوره شبه مؤكد. ليست هناك مشكلة حقيقية في إعلان إحياء الاتفاق النووي، كل شيء تقريبا متفق عليه بين الأطراف المشاركة في “مباحثات فيينا”. المشكلة في ما بعد إحياء الاتفاق، أو ترتيبات وحسابات القوة في الإقليم التي تتبع رفع العقوبات الأمريكية عن إيران. الصراع على إيران نفسها، سياساتها وأدوارها الإقليمية وطبيعة علاقتها مع إسرائيل. هذا هو صلب الموقف الآن.
إسرائيل تحاول أن تقتنص اللحظة وتطرح نفسها عنوانا رئيسيا في أي اتفاق محتمل، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به إيران. إثارة الخوف من الخطر الإيراني هو العنصر الرئيسي فى مشروع بناء التحالف العسكري المزمع، إسرائيل مهددة في وجودها، وإيران على وشك ان تحوز سلاحا نوويا خلال أسابيع. الخوف والقوة معا فى خطاب أمني واحد. ذهب “بينيت” إلى إثارة تخويف من أن هناك خلايا إيرانية مسلحة قد تستهدف إسرائيليين في تركيا عسكريين وسياحا، بالأخص في إسطنبول، داعيا إلى عودتهم دون إبطاء مؤكدا في الوقت نفسه على قوة إسرائيل فى حفظ أمن مواطنيها بكل مكان في العالم! كان ذلك التحذير استهدافا مبطنا لأي تفاهم محتمل الآن، أو في المستقبل، بين إيران وتركيا. إنها محاولة ابتزاز لتركيا الطموحة إلى لعب دور أكبر في حسابات الإقليم بأثر ما تلعبه من وساطات مع موسكو لصالح حلف “الناتو” في الحرب الأوكرانية تحت الضغط الشديد، إما إسرائيل أو إيران، إما أن تلعب أنقرة بموافقتها دورا متعاظما في الإقليم، أو أن تجد نفسها محاصرة في الخندق الإيراني! هذه حسابات مغرقة في أوهامها.
بذات الأوهام فقد يخيل إليها أنها في وضع سياسي واستراتيجي جديد يمكنها بالابتزاز الاقتصادي بناء تحالف عسكري أكثر اتساعا من دول الخليج، كأن تبدو وسيطا مسموع الكلمة في الخليج وحساباته الأمنية الحالية والمستجدة لتوجيه استثماراته وفوائض أمواله إلى مصر والأردن والعراق! المشكلة الكبرى في القصة كلها أنه يستحيل القفز فوق القضية الفلسطينية بالتجاهل أو باستعراضات السلاح أو باصطناع الأعداء الافتراضيين، فالأثمان السياسية لا تحتمل في دول مثل مصر والأردن والعراق، التي سوف يتهدد أمنها القومي بفداحة غير متصورة. أخطر ما قد يترتب عن مشروع التحالف العسكري أن الانفجارات سوف تضرب الشرق الأوسط كله، دوله ونظمه وشعوبه، ولا يبقي حجرا على حجر. هذا ما تريده إسرائيل بالضبط، لكنها سوف تدفع أثمانا مضاعفة.
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.