في أوضاع قلقة يتقوض فيها النظام الدولي دون أن تستبين حقائق القوة الجديدة، التي قد تتبدى بعد انقضاء الحرب الأوكرانية، نشأت مخاوف واسعة من انفجارين آخرين محتملين، أحدهما ــ بالقرب من الصين ـ حول مصير “تايوان”، وثانيهما ــ هنا في الشرق الأوسط ـ بذريعة بناء تحالف عسكري إقليمي تقوده رمزيا الولايات المتحدة وتقوده فعليا إسرائيل لمواجهة ما يطلق عليه “العدو الإيراني” المشترك.
الانفجاران المحتملان ماثلان بدرجتين مختلفتين في المشهدين الدولي والإقليمي المحتقنين. في الحالة الأولى، فهو شبه مستبعد بموازين القوى، التي لا تسمح بأية مغامرات من مثل هذا النوع. في الحالةالثانية، فإنه ممكن دون أن يكون مؤكدا رهان على دور إسرائيلي في “حماية دول الخليج” من أية تهديدات إيرانية واقعية ومتخيلة. في الانفجارين المحتملين يتحمل الرئيس الأمريكى “جو بايدن” مسؤولية التصعيد إلى حدود تشبه إعلان الحرب.
أثناء جولته الآسيوية لإحكام الحصار على الصين في محيطها الاستراتيجي المباشر لوح باستخدام القوة إذا ما فكرت الصين في ضم تايوان بالغزو المسلح على النحو الذي اتبعته روسيا في أوكرانيا. بدا لوهلة خيار الحرب الأمريكية الصينية ماثلا غير أنه سرعان ما تراجع في اليوم التالي بتأكيد الخارجية الأمريكية على ثبات سياساتها التي يطلق عليها “صين واحدة”، كان ذلك تصحيحا لتعبير منفلت من الرئيس الأمريكى. الحقائق الكبرى قالت كلمتها، لا حرب مع الصين، فالأثمان مرعبة بصورة لا تحتمل. حصار الصين سياسيا واستراتيجيا ومنع أي احتمال أن يضمها أي تحالف راسخ مع روسيا شيء، والتورط في الحرب معها شيء آخر تماما. بقوة الحقائق على الأرض لم تنجح العقوبات الأمريكية والأوروبية غير المسبوقة في فرض الهزيمة على موسكو، أو اصطيادها في المستنقع الأوكراني بإمدادات السلاح، التي تدفقت على أوكرانيا في ما يشبه الحرب بالوكالة. لا روسيا أذلت ولا الغرب انتصر والحرب مفتوحة لآماد طويلة أخرى قد تكلف العالم أزمات أفدح في الغذاء والطاقة والاستقرار الدولي. إذا ما جرى اشتباك عسكري أمريكي بصيغة أو أخرى، مباشر أو غير مباشر، مع التنين الصيني بقوته الاقتصادية والعسكرية الفائقة فإن مصيرا أسوأ سوف يحدث بما لا يقاس مع الحرب الأوكرانية. لا العالم يحتمل ولا أمريكا تقدر على التحمل.
الوضع يختلف في الشرق الأوسط، احتمالات التصعيد العسكري ترتفع وتيرتها دون شبه روادع من الوطن العربي على أية درجة أو بأي قدر! هذه مأساة كاملة غير أن قوة الحقائق التاريخية والجغرافية والإنسانية تمنع مثل هذه الألعاب من أن تمضي في طريقها إلى نهايته بالسهولة التي يتوهمونها. قبل أن يغادر “بايدن” منتصف شهر يوليو قادما إلى الشرق الأوسط في جولة تتضمن زيارة إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة وعقد قمة في جدة مع تسع دول عربية، دول الخليج بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق، صدرت عن واشنطن إشارات عديدة أكدت بإلحاح لافت التزامها بأمن إسرائيل، وهذا كلام لا جديد فيه. الجديد والخطير تعهدها المسبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالى بينيت”، كما كشف بنفسه، بإدماج إسرائيل في الإقليم، أو توسيع نطاق التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري معها والتقدم بخطى نوعية جديدة في التطبيع المجاني دون أدنى التزام بأية انسحابات إسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة باستثناء ما قد يكرره بايدن فى رام الله عن الالتزام بحل الدولتين دون فعل أي شىء له قيمة يعتد بها، ولا ممارسة أي ضغط على حكومة “بينيت” لتقديم قتلة الصحفية الفلسطينية “شيرين أبو عاقلة” إلى العدالة.
ما قد يجنيه العرب عبارات في الفراغ وما قد يجنيه الإسرائيليون أفعال على الأرض. فى الجولة المرتقبة تبدو واشنطن مستعدة لتبني المشروع الإسرائيلى لبناء قوة إقليمية، تحالف أمني وعسكري، بذريعة التصدى لـ”الخطر الإيرانى” المفترض وحماية أمن الخليج، فيما هي واقعيا تحتاج إلى من يحميها! مشكلة واشنطن ــ هنا ــ أن أزمة الطاقة المتفاقمة على خلفية الصراع مع روسيا هي جوهر زيارة بايدن الشرق أوسطية لا مشروعات إسرائيل للتمدد والتوسع والتطبيع، لكنها لا تمانع في أن تتماشى مع الأهداف الإسرائيلية إذا ما كانت دولا بترولية وغير بترولية موافقة ومستعدة!
باليقين فإنها لا تريد حربا واسعة في الشرق الأوسط تتورط فيها، لكنها لا تمانع فى ترؤس ـ شكليا ـ الحلف العسكري المقترح على أن تترك قيادته الواقعية إلى إسرائيل لرفع العتب والحرج عن الدول العربية التي قد تشارك فيه! لا تريد إنهاء “مباحثات فيينا” الماراثونية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، الذي جمده الرئيس السابق دونالد ترامب من طرف واحد لكنها تخشى أن تبدو في وضع المهزوم دبلوماسيا. هناك فارق بين مناوشات التفاوض والتوجه إلى الحرب. هناك شد وجذب ومناورات معلنة وغير معلنة تستبق أية تفاهمات ممكنة، على ما يجري بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والسلطات الإيرانية، شبه قطيعة أحيانا تلحقها دعوات لمواصلة التفاوض. خضوع الوكالة الدولية للإرادات الغربية شبه مؤكد، وتداخل إسرائيل في الملف بإمداد الوكالة بالمعلومات الاستخباراتية بدوره شبه مؤكد. ليست هناك مشكلة حقيقية في إعلان إحياء الاتفاق النووي، كل شيء تقريبا متفق عليه بين الأطراف المشاركة في “مباحثات فيينا”. المشكلة في ما بعد إحياء الاتفاق، أو ترتيبات وحسابات القوة في الإقليم التي تتبع رفع العقوبات الأمريكية عن إيران. الصراع على إيران نفسها، سياساتها وأدوارها الإقليمية وطبيعة علاقتها مع إسرائيل. هذا هو صلب الموقف الآن.
إسرائيل تحاول أن تقتنص اللحظة وتطرح نفسها عنوانا رئيسيا في أي اتفاق محتمل، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به إيران. إثارة الخوف من الخطر الإيراني هو العنصر الرئيسي فى مشروع بناء التحالف العسكري المزمع، إسرائيل مهددة في وجودها، وإيران على وشك ان تحوز سلاحا نوويا خلال أسابيع. الخوف والقوة معا فى خطاب أمني واحد. ذهب “بينيت” إلى إثارة تخويف من أن هناك خلايا إيرانية مسلحة قد تستهدف إسرائيليين في تركيا عسكريين وسياحا، بالأخص في إسطنبول، داعيا إلى عودتهم دون إبطاء مؤكدا في الوقت نفسه على قوة إسرائيل فى حفظ أمن مواطنيها بكل مكان في العالم! كان ذلك التحذير استهدافا مبطنا لأي تفاهم محتمل الآن، أو في المستقبل، بين إيران وتركيا. إنها محاولة ابتزاز لتركيا الطموحة إلى لعب دور أكبر في حسابات الإقليم بأثر ما تلعبه من وساطات مع موسكو لصالح حلف “الناتو” في الحرب الأوكرانية تحت الضغط الشديد، إما إسرائيل أو إيران، إما أن تلعب أنقرة بموافقتها دورا متعاظما في الإقليم، أو أن تجد نفسها محاصرة في الخندق الإيراني! هذه حسابات مغرقة في أوهامها.
بذات الأوهام فقد يخيل إليها أنها في وضع سياسي واستراتيجي جديد يمكنها بالابتزاز الاقتصادي بناء تحالف عسكري أكثر اتساعا من دول الخليج، كأن تبدو وسيطا مسموع الكلمة في الخليج وحساباته الأمنية الحالية والمستجدة لتوجيه استثماراته وفوائض أمواله إلى مصر والأردن والعراق! المشكلة الكبرى في القصة كلها أنه يستحيل القفز فوق القضية الفلسطينية بالتجاهل أو باستعراضات السلاح أو باصطناع الأعداء الافتراضيين، فالأثمان السياسية لا تحتمل في دول مثل مصر والأردن والعراق، التي سوف يتهدد أمنها القومي بفداحة غير متصورة. أخطر ما قد يترتب عن مشروع التحالف العسكري أن الانفجارات سوف تضرب الشرق الأوسط كله، دوله ونظمه وشعوبه، ولا يبقي حجرا على حجر. هذا ما تريده إسرائيل بالضبط، لكنها سوف تدفع أثمانا مضاعفة.