منذ يومين و عند العودة إلى البيت مساء، وجدت ” الزّنقة ” مغلقة و الخيام منصوبة و الكراسي مرصوفة … فانقبض قلبي و خشيت أن يكون أحد الجيران قد توفّي، لكنّ صوت الطبّال و صدى زغاريد النّساء بدّدا خوفي. فركنت السيارة و ترجّلت أستطلع الأمر …
النّساء يرتدين أبهى حللهنّ و أثمن ما بقي لديهنّ من مصوغ، يصدحن بالزغاريد و يتمايلن على أنغام الموسيقى الشعبيّة. أمّا الرّجال فقد تطلّقت أساريرهم و ارتسمت على وجوههم علامات البشر و السّعادة و أخذوا يصاحبون الطبال في غنائه برقصة تقليديّة في براعة فائقة .. جلت ببصري أبحث عنالعريس أو العروس أو حتى أحد الأطفال ينوون تطهيره عفوا ختانه لكن دون جدوى … ما الذي يحصل في الحومة ؟ بم يحتفلون ؟ اقتربت من أحد الأجوار و سألته في خجل المقصّر في حقّ أهل حيّه : ما الذي يحدث ؟ بمن أو بمَ تحتفلون ؟
أطلق ضحكة عالية و أجاب مستغربا : يبدو أنك لم تتابعي الأخبار في الفترة الأخيرة .. لقد بشّرتنا وزيرة التجارة أنّ كل تونسي سيأكل بريكته في رمضان … أ لا يستحقّ منّا هدا الخبر السّعيد أن نقيم الأفراح و الليالي الملاح .. البريكة لن تغيب عن موائدنا في هذا العهد المجيد ..لم نسمع خبرا سارّا كهذا من زمان .. أ تقدّرين ذلك ؟ أ تدركين ما معنى ذلك ؟ …لا جوع بعد اليوم .. لا فقر بعد اليوم … مادامت الوزيرة قد طمأنتنا على البريك فذلك يعني أنّ الزيت و البيض و السّميد و الفارينة كلّها ستتوفّر و لن نضطر إلى البحث عنها من دكّان إلى دكّان أو إلى مطاردتها من مغازة إلى مغازة …
ضربت كفّا بكفّ و حوقلت و طلبت اللطف و عدت إلى سيّارتي حتّى لا أفسد عليهم رقصهم و بهجتهم و لا أنغّص عليهم سعادتهم.
أيّ زيت و أي سميد أو فارينة أو غيرها و الدّولة تعاني من نقص في السيولة بالعملة الأجنبيّة و مخزونها؟ … أي زيت و أي سميد أو فارينة أو غيرها و الحرب قد اندلعت بين بلدين من أكبر مصدّري الحبوب في العالم؟ … أي زيت و أي سميد أو فارينة أو غيرها و نحن نستورد قوتنا بالعملة الصّعبة و قد تجاوز سعر برميل النفط ال105 دولارات و ارتفعت أسعار الحبوب في العالم و مازالت مرشّحة لمزيد الارتفاع نظرا إلى ارتفاع تكاليف الشّحن و النّقل البحري.
بلادنا التي كانت يوما ما تسمّى ” مطمور روما ” لم تعد تنتج سوى ربع احتياجها و تضطرّ لاستيراد الباقي من منطقة البحر الأسود أي أوكرانيا و روسيا و استيراد نسبة ضئيلة أخرى من فرنسا و بلغاريا .. فماذا ستفعل تونس اليوم مع هذه الأزمة العالميّة التي تأتي لتفاقم مشاكلها و أزماتها الدّاخلية ؟
متى يدرك أهل السياسة و المنشغلون بالشأن العام في بلادنا أنّهم موظفون لدى الشعب جاء بهم ليحققوا له الأمان و الرّفاه لا ليلوك الهواء و لا ليصحو و ينام على خطب عصماء و شعارات جوفاء ما فتئت تتردّد منذ 11 سنة ..
متى يدرك أهل السياسة و المنشغلون بالشأن العام في بلادنا ضرورة تغيير أولوياتهم و توجيهها نحو مصلحة الشعب.
متى تتغيّر لغة خطابهم من “ما خلاوناش نخدموا” و “حطولنا العصا في العجلة” و “الماكينة معطلتنا والمنظومة القديمة مسكرة علينا كلّ شيء” و “هم و نحن و الغرف المظلمة و المؤامرات تحاك ضدّنا والموظفون لا يمتثلون للأوامر” … الشعب كره هذه اللغة و صار الإعلان عن توفر البريك في رمضان من الأخبار التي تسعده و تعيد إليه الأمل، و أخبار زيت الصانغو صارت تُفتَحُ بها نشرات الأخبار.
من يفشل في إدارة الشأن العام عليه أن ينسحب بدل أن يعلّق فشله على الآخرين و يواصل في سياسة الهروب إلى الأمام … من حكموا منذ جانفي 2011 كلّهم فاشلون .. كلّهم دمّروا البلاد و حادوا عن آمال الشعب الذي لم يطالب بغير الشغل و الكرامة و الحرّية، فلم يلق غيرالبطالة و الفقر و الرّش و الاغتيالات و التعيينات بالولاءات و الإضرابات و الصراع على المؤسّسات و التهديدات و والوعود الفضفاضة و التنصّل من المسؤوليّات …
بعد أكثر من 11 سنة لم يعد الحديث عن الماكينة و المنظومة القديمة ممكنا … و بعد أكثر من سنتين على رأس الدّولة و بعد 7 أشهر من الحكم الفردي المطلق و ضمّ كل السّلطات لم يعد الحديث عن المتآمرين والمعطلين مقبولا …
لم ينتخبكم الشعب يوما من أجل تكريس الصراع الهووي و نقل خلافاتكم في رحاب الجامعة إلى ساحة البرلمان أو إلى منابر الإعلام و لا من أجل أسلمة الدّولة و النّكوص عن مكتسبات الحداثة … و لم ينتخبكم من أجل تفكيك المؤسّسات و تكريس البناء القاعدي أو المشروع الهلامي الغريب الذي فشل حتّى المفسرون في تفسيره.
الشعب في حاجة إلى لغة جديدة و خطاب جديد و فعل جديد، نعم فعل جديد …
و لعلّ الأزمة الحاليّة التي يعيشها العالم تجعلكم تتفطنون إلى أهمية العمل و إلى إيلاء القطاع الفلاحي الاهتمام الذي يستحقه من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الأساسيّة، وإلى إيلاء مجال الطاقات البديلة الاهتمام الذي يستحقه (الرياح و الشمس التي نستطيع تصديرها أيضا)، من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي الطاقي و حماية البيئة و ضمان مستقبل الأجيال القادمة، و إلى إيلاء المستثمرين الشبان و( les startuppers ) الاهتمام الذي يستحقونه، و إصلاح القطاع البنكي و إلغاء نظام الرّخص من أجل خلق التنافسّية و تكافؤ الفرص ..
فلا سيادة لشعب مرتهن لغيره في قوته و في كلّ منتوجاته … لا سيادة لشعب يستهلك أكثر ممّا ينتج …. لا سيادة لشعب يستورد أكثر ممّا يصدّر … إن لم تكن فترة الكورونا كافية للقيام بالمراجعات و تغيير الأولويات و لم يقع استثمارها إلا في الخصومات و المناكفات و الصراعات، فلعلّ فترة الحرب تكون فرصة للتونسيين لتغيير مواقفهم من العمل و إعطائه القيمة التي يستحقها قبل أن يقبل عليهم قريبا موسم “البريك” والخمول …