تابعنا على

جور نار

التغريبة الأخيرة… أو، من باع حقا: السلطة الفلسطينية أم إيران ومن صدّقها؟

نشرت

في

عبد القادر المقري:

منذ سنة إلا أسبوعا، أي منذ 7 أكتوبر 2023 والعملية المسماة “طوفان الأقصى”، تأججت المشاعر ومعها توزعت أسهم الدعم المطلق والتخوين المطلق… الدعم لمنظمة حماس بكل ما تقوله وتفعله وكذلك لكافة داعميها وأظهرهم إيران، وتهمة الخيانة التي وقعت جماعيا على سلطة رام الله التي أبدت إن لم يكن رفضا قراحا، فعلى الأقل تحفظا هو إلى توجس العواقب أقرب…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

وقد قرأنا في صحفنا عربيا وتونسيا، وكذلك في المواقع الاجتماعية هذه الاتهامات التي اندفعت دون أية ضوابط للنشر (بالنسبة إلى الصحافة) أو خشية من أزمة ديبلوماسية مع سلطة فلسطينية ممثلة في نهاية المطاف ببلادنا، تطالع يوميا أوصافا هي شتائم مباشرة لرئيسها محمود عباس وهناك حتى من طالب بتصفيته جسديا ! … نعم قرأنا ذلك في صحفنا قبل أن نقرأه على فايسبوك الذي لا جُناح على أصحابه عموما، في زمن تخصص فيه الرقابة كل وقتها لمنتقدي الرئيس التونسي فأنّى لها الانتباه لشاتمي رئيس هذه الدولة العربية أو تلك … شُتم عبّاس وسُحل وتم هدر دمه والسبب أنه لم يخرج هاتفا بستة أكتوبر وعملية طوفان الأقصى… ولم يكفهم هذا، بل هوجم في الطريق جميع فلسطينيي الضفة الغربية ولحقهم من الشتم والتخوين ما لحق قيادتهم …

مع العلم بأنه حال بدء رد الفعل الغاشم للعدوّ على أهالي غزة، خرج أكثر من مسؤول في السلطة، وأوّلهم عباس، لإدانة هذا العدوان والتضامن الكامل مع غزة على أنها جزء من فلسطين، وليست معقلا لحركة لا وجود لفلسطين في اسمها ولا في مشروعها العابر للحدود… كما أن الشارع في رام الله والخليل والقدس الشرقية وجنين ونابلس وغيرها من مدن ومخيمات الضفة، شهد موجة عارمة من المواجهات والاعتقالات وتدمير البيوت والأملاك ومصادرة الأراضي… مما حدا بدولة الاحتلال أن أخرجت من الأدراج خطة معدّة مسبقا بترحيل جماعي لملايين سكان الضفة الغربية تزامنا مع سكان غزة… ونفس الكلام (أسوده وأبيضه) قيل عن عرب 1948 سيئي الحظ مع الجميع، بيد أنهم أكدوا فعليا انتماءهم للوطن الفلسطيني دون سواه… وهاهم يتحملون هم أيضا مشروع “ترانسفير” لا يقل عنصرية وإبادة عن نظيره المرصود لمواطنيهم في القطاع والضفة…

قلنا عن رد فعل العدوّ بأنه كان “غاشما” وهذا يكاد يكون وصفا ضعيفا لما جرى ويجري… لا يخفى على أحد أننا في ظرف دولي يتميز بعنصرين: أولهما الانتخابات الأمريكية واحتدام الصراع بين معسكرين يختلفان في كل شيء إلا في نقطة مساندة إسرائيل والتصميم على حماية تفوقها التام على “أجوارها” عربا وفُرسا… بل ويتزايد كالعادة المتنافسان الجمهوري والديمقراطي في دعم الكيان الغاصب ماليا وسياسيا وعسكريا واستخباراتيا… وثاني عنصري الظرفية ، غياب كامل لقوة مضادة توازن هذا الثقل المساند للعدوّ… فالاتحاد الأوروربي تدير معظم دوله اليوم حكومات وأغلبيات برلمانية من اليمين الأقرب إلى التطرف إن لم يكن متطرفا فعلا… أما روسيا، فقد تورطت في أوحال المستنقع الأوكراني إلى أمد غير محسوب، وأصبحت بدورها في حاجة لمن يدعمها ويفك الحصار ، بل الحصارات المضروبة حولها بسياج من فولاذ… ثم وحتى في ظروفها العادية قبل حرب أوكرانيا، وحتى لو عدنا إلى الزمن السوفياتي والحرب الباردة، فإن وقوفها إلى الجانب العربي لا يمكن أن يقاس بـ 1 بالمائة مما يقدمه الغرب لإسرائيل…

ومع احترامنا لآلاف المساندين الأشراف للقضية الفلسطينية والذين ملؤوا شوارع وجامعات أوروبا وأمريكا… فإن سلطة القرار تبقى دائما وأبدا في يد من يمسك السلطة المالية والعسكرية في هذه البلدان، وهو ليس بالضرورة الشارع… خاصة في قضية ليست ذات طابع مصيري وطني يمكن أن يطيح بحكومة ويصعد بأخرى… ولا نريد أن ننكأ جراح أحد فلكل منا ما يكفيه، ولكننا نذكر بكل حرقة عدد الأثرياء العرب (والمسلمين) وحجم الثروات العربية (والإسلامية) المودعة في بنوك الغرب، وكيف يتم توظيفها لشراء خُرَد السلاح ونوادي الكرة بدل امتلاك وسائل الإعلام الكبرى والتأثير في السياسات كما تفعل الجاليات المحسوبة على العدو والمتعصبة له… ولا حديث أيضا عن “الجاليات” العربية المبثوثة في كل بلدان العالم وخاصة الغربي منه، وهي المشتتة الغارقة في صعوبات عيشها ووضعية أوراقها وما يتهددها يوميا من قوانين تزداد تضييقا على المهاجرين… وفيها حتى نسبة طلّقت بالثلاثة وطنها الأمّ بعد أن فرت منه فرار الناجين…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 73

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

سنة 1984 شهدت احداثا عديدة …اوّلها سنّ عادة الاحتفال بعيد ميلاد اذاعة صفاقس بسهرات خاصة بالحدث بشكل مباشر وفي جلّها دون انقطاع … وكان عليّ ان ابحث في كلّ مرّة وانا المشرف عليها اعدادا وتنشيطا عن اطباق مختلفة فانا لا اميل الى الدجاج عموما فما بالكم بدجاج الحاكم…

عبد الكريم قطاطة

ومن هذه الزاوية كانت سهرة 8 ديسمبر 84 مثلا تحمل عنوان (ضحك ولعب وجدّ وحبّ) وكما يشير العنوان اردتها متنوعة ضيوفا ومحتويات … علّق عليها بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (جريدة الايام وبتاريخ 17 ديسمبر 84) بالآتي: “هي سهرة شدّت سمّارها الى السادسة صباحا وخطأ عبدالكريم فيها انّه رفض ان يسير على دروب عبّدتها آلاف الاصوات قبله، ثمّ انّه اراد ان تكون سهرة للجميع في اذاعة الجميع فجمع في الاستوديو عيّنات مختلفة من الناس الذين يؤلفون المجتمع، وجعل من الاستوديو الضيّق بيتا لسهرة عائلية فيها حرارة وعذوبة وتلقائية وابتسامات تخرج من الاعماق”…

سنة 84 كذلك شهدت تغييرا في سدّة الحكم في ادارة اذاعة صفاقس حيث انتهت مهمّة السيّد التيجاني مقني على راس ادارتها وعُيّن السيّد محمد عبد الكافي مكانه … زميلي محمد عبدالكافي رحمه الله اعرفه منذ كنت اعمل بالتلفزة التونسية… كان مراقبا للبث التلفزي وكنت التقي به كلّما عملت بشريط الانباء بالقاعة التقنية للبثّ المباشر… حيث اعمل من جانبي على متابعة الاشرطة الاخبارية التي اقوم بمونتاجها ويعمل هو بشكل دوري مع عدد اخر من مراقبي البث، للسهر على حسن بث البرامج في مرحلة اولى وتقديم تقرير لرؤسائه حول فترته تلك في مراقبة البث …

بالكاد تنحصر هنالك معرفتي به … لكن وعند اشرافه على اذاعة المنستير كمدير لها، كان وكما اسلفت يحث المنشطين في تلك الاذاعة على الاستماع لعبدالكريم ومحاولة القيام بانجاز برامج تنتهج منهجه … وللامانة وهذا ما اسرّ لي به شخصيا عند فترة صفائنا التي جاءت بعد زوابع، كان يفعل ذلك لا لسواد عينيّ بل لحثّهم على التجديد والخروج من خانة ما يطلبه المستمعون … خاصّة والصحف بمختلف خطوطها التحريرية كانت تشيد بتجربة الكوكتيل ممّا اهّله واهّل منشّطه لاحتلال المرتبة الاولى في الاستفتاءات التي تُجرى نهاية كل سنة … والذي اعتبرت من زاويتي وبكلّ صدق انّه بالاساس تتويج لمستمع جديد تفاعل وفعل وكسّر قيد الخمول والسلبية … قد اكون ساهمت بقسط ولو يسير بجهدي وبثوابتي …ولكن كنت ومازلت اؤمن بأنّ ايّ انتاج لا يكون فيه رجع صدى من المتلقّي هو انتاج فاشل ولا دوام له …

سنة 1984 شهدت ايضا حدثا اعتبره من اهمّ محطّات حياتي … كنت منذ صغري مولعا لحدّ الوله بالكتابة …انا ابن شعبة الآداب وانا تلميذ لقامات في مادة العربية بدءا بمعلّمي في الابتدائي المرحوم علي الشعري وصولا الى استاذي في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي شعبة آداب الكبير سي محسن الحبيّب اطال الله عمره … كنت مشروع جدول صغير وكان اساتذتي روافد لهذا الجدول… ولم افوّت ايّة فرصة لافكّ قيود قلمي من الاسر … لذلك كانت لي محاولات لا تعدو ان تكون خربشات مراهق في بدايتها ثمّ تطوّرت مع تقدّم السنوات الى مقالات صحفية بداتها مع الزميل محمد مصمولي في مجلّة الهدف ثمّ مع عديد العناوين الصحفية …لم تكن كتاباتي منتظمة وكانت كوكتيلا هي ايضا من المواضيع لعلّ اهمّها النقد التلفزي وباسماء مستعارة، اذ انّ القانون الاساسي يمنع منعا باتا ذلك… وحتى الكتابة في مواضيع اخرى تتطلّب ترخيصا خاصا من رئاسة المؤسسة … الاّ انّي تعاملت مع الكتابة على طريقة يوسف شاهين وهو يتحدث عن الرقابة … هو يقول: على الواحد منّا ان يكون اذكى من الرقابة واذا اوقعته الرقابة يوما في شراكها فالعيب فيه وليس فيها …

في اكتوبر 84 هاتفني الزميل نجيب الخويلدي الذي كانت تربطني به زمالة وصداقة ليقول لي (نحب نشوفك في اقرب وقت في تونس)… وكان ذلك … كلّ ما اعرف عنه انذاك انّ علاقته كرئيس تحرير لجريدة البيان انتهت .. يوم اللقاء كان ثالثنا رجل بدين اسمر بشوش قدّمه لي بالاسم واللقب فقط ثم طفق يحكي عن مشروع صحفي جديد يحمل كعنوان “الايام” … للامانة قال فيّ يومها وامام هذا الرجل البدين الاسمر برشة كلام سمح ….فعلّقت عليه فقط بالقول (ما يغركش يا سي محمد ـ مدير الجريدة ـ راني خايب برشة ومشاكلي زادة) … قهقه رئيس التحرير نجيب الخويلدي والمدير محمد زين العابدين، وشرعنا في الجدّيات …اسرّ لي يومها خويا نجيب بالاسماء التي ينوي التعامل معها في هذا المولود الجديد والتي اعرف البعض منها واجهل اغلبيتها واتفقنا على ان اقوم بتامين صفحة اسبوعية متعددة الاغراض تحمل عنوان (ملاحظات مواطن عادي جدا)… للامانة ايضا لم يتقدم ايّ منهما بأيّ شرط لا في نوعيّة الكتابة ولا في شكلها … وللامانة ايضا لم نتناول الجانب المادي اطلاقا … ولمعلوماتكم لم اقبض مليما واحدا عن كلّ ما كتبته في جريدة الايام …

وجاء يوم 5 ديسمبر 1984 ليصدر اوّل عدد من جريدة الايام عندما فتحت الجريدة كأي قارئ فوجئت اوّلا باسماء عديدة نكرة ولكن فوجئت بنوعية جديدة في التعاطي الصحفي … يمكن حوصلة انطباعي الاوّلي في (هو جيل جديد من الاقلام) لعلّ اهمّ ما يميّزها اختلافها الكلّي في طرح المواضيع …كانت هنالك بصمة خاصة بكلّ قلم …فاذا كنت اعرف اقلاما كالهادي السنوسي ويوسف رزوقة والمنذر القلعي علاوة على نجيب طبعا، فانا اكتشف ولاوّل مرة اسماء من فصيلة عبدالقادر المقري والزمزاري والبديري والواد واصغرنا وليد التليلي وهو طالب انذاك وغيرهم … يومها كانت تحية التقديم والتعريف بالمولود الجديد كما يلي: (قراءنا الاعزاء مرحبا بكم هذا هو العدد الاوّل لجريدتكم ° الايام ° وسواء اقتنيتموها يوم الاثنين او يوم السبت فالامر سيّان، لانّ ما تحتويه بين طيّاتها يبقى صالحا للمطالعة والاستفادة كامل الاسبوع… وكما يقول المثل وراء كل عظيم امراة فانّ وراء كلّ عمل جيّد رجالا ارهقوا انفسهم وتصبّب عرقهم طويلا حتّى يقدموا لكم باقة يانعة واطباقا شهية من الغذاء الفكري المفيد، ترفل جميعها في حلّة قشيبة كأنّها عروس في ليلة زفافها وقد راينا في هذا العدد الاوّل ان نقدّم اسرة التحرير حتى يتواصل الترابط الروحي بينكم وبين كل فرد فيها) …

الزميل محمد الهادي البديري هو من تكفّل بتقديم الاسرة وهذا ما كتبه عنّي: (عبدالكريم قطاطة اشهر من نار على علم في مناطق الوسط والجنوب… له مؤهلات اذاعية حملته الى راس قائمة المنشطين وعندما يتحدث اليك تشعر بحرارة الكلمة وصدقها اما كتاباته فسوف تكتشفونها في جريدتنا) … في جريدة الايام وبعد ما عشناه معا من حلو الايام ومرّها رغم اننا لا نعادي ولا نجامل .. اكبر كسب كان بالنسبة اليّ التعرّف على اسماء اعتبرتها وما زلت اعتبرها قامات في العمل الصحفي الناضج الواعي والممتع ….ودون ادنى شك يتصدّر هذه القائمة الكبير عبدالقادر المقري … يومها في العدد الاول كان تقديمه كالآتي (له خاصيات جرير والحطيئة مجتمعين قلمه لا يرحم خصوصا اذا تعلّق الامر بنقد البرامج التلفزية والاذاعية وهو يطمح للزجّ بجميع المذيعين والمذيعات في غياهب النسيان حتى يستريح من اخطائهم وتخلويضهم)…. وصدقوني عندما اقول لكم انّ صديقي الغالي جدا عندي هو اعمق واجمل وارقى من ذلك بكثير …قدّور هو ضمير حيّ وقلم ينبض بعشق الجمال والحق والانسان …اما عن اسلوبه فيكفي ان اقول انه اسلوب مقري لا شبيه له…

في جريدة الايام كانت لنا اجتماعت دورية … تحتدّ فيها النقاشات … نختلف … ولكن كانت هنالك تجربة ديموقراطية حيث يخضع اي فرد منها الى منطق الاغلبية بمن في ذلك رئيس التحرير والمدير … كنّا حقّا انموذجا لاعلام صحفي مكتوب بديل … اذكر مرة اني ارسلت مقالا فوقعت صنصرته فكان المقال الذي يليه بعنوان (طز في نجيب الخويلدي) … اقرؤا ردّه على مهاجمتي له (الايام غرة جانفي 1985): “انا حزين متعب من الاتهام الذي وجّهته لي يا عبدالكريم… كنت قاضيا ومدّعيا عاما ومستشارا واصدرت الحكم ورفعت الجلسة… انا اعرف عبدالكريم واعرف افكاره وجرأته واحببت فيه الثورة والغضب وكتب لي يوما بعد ان ظلموه في اذاعة صفاقس وكنت بجريدة كذا … كتب بعنف وجمال وسخط وقوة ولم اجد الا الركوع امام كتابة رائعة فيها فن كثير والغام كثيرة ايضا… وقامرت بالكرسي الذي كنت اجلس عليه وظهر المقال وانتهت تجربتي مع تلك الجريدة…

ولما قدمنا طلبا للحصول على تاشيرة الايام كان عبدالكريم اوّل من فكّرت فيه ليكون واحدا من الذين” سيعلنونها حربا في عمر حرب البسوس ضدّ الشرّ ضد الظلم ضد الامتيازات ضد الوصوليين واشباه الرجال… ولاني اعرف ان الكتابة هي فلذات كبد، اقول دائما لزملائي ليست لي الجرأة لحذف ولو كلمة واحدة فانا لست جزارا واعرف ان الكلمات تولد في الروح … كلّ ما في الامر انّ مقالك حوّلته لزميلك الهادي السنوسي باعتباره المشرف على الصفحات الرياضية الا انه رفضه … وامام تمسكي به تحوّل الى صفحة اخرى بها اركان اخرى وهنا تصرّف احد الزملاء فيه حتى يحافظ على كل اركان الصفحة… هذا كل ما حدث وادّعي انّي صادق والله يشهد على ما قلت”…

ويختم نجيب بالقول: “عبدالكريم اريدك ان تفهم شيئا واحدا لعن الله رئاسة التحرير فالعنها معي … تبّا لهذا المركز فادعُ معي عليه بالهلاك… انا لم اطمع ولو يوما واحدا ان اكون مسؤولا لاني عاجز ان اسيّر نفسي فمن اين لي القدرة على تسيير الاخرين… انا اكفر بالكراسي وسي فلان وبالسكريتيرة والحاجب وبكل اشكال المرضى بالدعوة والنفخة والاريفيزم فهل تراني قادرا ان اكون مسهولا ناجحا … ربي يسامحك يا عبدالكريم”…

كان الحبّ اقوى خاصة والايام تتألّق بتعلّق متابعيها الذين اعتبروها حدثا اعلاميا فريدا من نوعه … ولي مع الورقات والايام القادمة عودة لجريدة الايام …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 72

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

…وعاد الكوكتيل !

كانت فرحة المستمعين عارمة وكان صدى عودته صحفيا كبيرة… ولم تدم عودته بالصيغة المسجّلة طويلا ….بضعة اسابيع وعاد الى شكله المباشر …

عبد الكريم قطاطة

الاّ انّ الملأ لم يُلق السلاح بل تجاوز المقصورات الخفيّة ليتحوّل الى المصدح في بعض البرامج بالهمز واللمز … لم اردّ وقتها على مثل تلك الاستفزازات لكن مرة اخرى تكفّلت بذلك بعض الاقلام في الصحافة المكتوبة… وهنا وللامانة والله شاهد على ما اقول لم اطلب يوما وفي كل حياتي المهنية ان يكتب عنّي ايّ زميل لا دفاعا ولا مدحا … رغم انّ مثل هذه الاشياء كانت ومازالت متواترة بكثرة في علاقة الاذاعيين او الفنانين بالاقلام المأجورة (مسّني ونمسّك)…

من جملة ما كُتب انذاك عن استفزاز بعض الزملاء بعد عودة الكوكتيل هذا المقال الصادر بجريدة الاعلان وبتاريخ 22 جويلية 1983 وتحت عنوان (لا تجرحوا كرامة عبدالكريم قطاطة)… يقول صاحب المقال: (بعد عودة برنامج من البريد الى الاثير إثر زوبعة لعبت فيها عدة اياد خفية غير نظيفة، وبعد طيّ صفحة الماضي واستبشار المستمعين بهذه المبادرة الجديرة بالتنويه والتي قامت بها الادارة الحالية لاذاعة صفاقس ونخصّ بالذكر السيد التيجاني مقني مديرها، يبدو انّ الايادي التي ابعدت المنشط الممتاز عبدالكريم قطاطة عن العمل الاذاعي عادت من جديد لتُسمّم الاجواء امام الميكروفون وتكيل له شتّى انواع الثلب والشتم والاهانة وذلك باحدى حصص مطلع جويلية … ونحن نعجب من هذا الموقف المُخزي والذي يتنافى وابسط قواعد الزمالة .. وعلى ايّة حال انّ حكم الجمهور وحده كاف للتعبير عن مدى تعلّق المستمعين بهذا المنشّط الذي سحر الالباب… وقد بلغ الى علمنا انّ رسائل استنكار عديدة وصلت الادارة للتعبير عن استيائها من هذه الاعمال وتناشد المسؤولين ان يضربوا بشدة على ايدي هؤلاء، حتّى يكفّوا عن عرقلة عبدالكريم الذي اثبت للجميع انّه الافضل والاحسن والانظف)

وللتاريخ لم يُعمّر ذلك البرنامج المعني طويلا واندثر …وللتاريخ ايضا طُويت صفحة الخلاف مع صاحبه بعد 10 سنوات …الكوكتيل بعد توقفه وعودته شهد ألقا كبيرا … في تلك السنوات اعتبر المتلقّي والناقدون في الصحافة المكتوبة وحتى بعض الزملاء في اذاعتي تونس والمنستير… اعتبروا عودة الكوكتيل انتصارا لنهج اذاعي جديد، اذ رأوا فيه نفَسا ذا جرعات من الجرأة مضمونا وفيه شيء من الامتاع شكلا … ودائما للتأريخ وليس من باب استعراض العضلات، يكفي ان اعرض عليكم موقفا من قامة من قامات التنشيط انذاك، المرحوم نجيب الخطاب، عندما صرّح في استجواب صحفي بجريدة البيان وبتاريخ 4 جويلية 83 وهو يُجيب عن سؤال حول اذاعة صفاقس، بالقول: (بالنسبة لاذاعة صفاقس لا اضيف شيئا عندما اقول انّي معجب بعبدالكريم قطاطة الذي عرفته كفنّي ممتاز وذكيّ جدا في تركيب الافلام بالتلفزة التونسية، واملي ان انتج في يوم ما، برنامجا اذاعيا مشتركا بيني وبين عبدالكريم)…

هذه شهادة من جملة العديد من الشهادات التي لم اذكرها والتي فقط اردت من خلالها التذكير بانّ النجاح ووهجه قد يسير بنا الى الهاوية اذا لم نضعه في مكانه الطبيعي … اي وجب على ايّ نجاح نحققه في حياتنا ان يكون دافعا للافضل … للأجود … للارقى … والا تحوّل وهج النجاح الى نار تحرق في داخلنا الارادة لمواصلة الطريق باكثر حماسا ورغبة في التجاوز … من ثمة اصبحت مسؤوليتي في الكوكتيل مضاعفة… بدرجة اولى المحافظة على ثوابته، وبدرجة ثانية البحث عن اشكال اخرى لاخراجه من التحنيط… لذلك يبقى العمل الاذاعي الناجح رهين التجديد والخلق والبحث … من هذه الزاوية ومن زوايا اخرى كان عليّ ان لا اكتفي بالمثابرة اليومية بل اتجاوز ذلك الى ابعاد اخرى …قلت من زوايا اخرى وهاكم التفاصيل …

اوّلا انا جُبلت على الاعتراف بالجميل مهما كان حجمه … ومن خلال تعاملي مع السيد التيجاني مقني احسست الى حد اليقين انّ الرجل كان نزيها جدا معي … هو لا يتكلم كثيرا نعم …ولكن للصمت ولنظرات الاعين مفرداتها الرشيقة ايضا … وكان واجبا عليّ ان اقول له وعلى طريقتي شكرا لك يا رجل … هذه زاوية اولى … الزاوية الثانية كيف عليّ ان اتعامل مع الملأ الذي كان وسيكون ؟؟؟ من طباعي ايضا انني لا اغضب سريعا ولا اردّ الفعل سريعا وحتّى ردود افعالي كانت ومازالت مغايرة للسائد … انا اصمت كثيرا واردّ الفعل بالعمل…

هذه الزوايا الثلاث التي تحدثت عنها جعلتني افكّر في عمل غير مسبوق… اذاعة صفاقس على بعد بضعة اشهر من الاحتفال بعيد ميلادها الثاني والعشرين (8 ديسمبر 1983)… اذن الفرصة مواتية لفعل شيء ما يرتقي الى مستوى الحدث … ماذا لو كان الاحتفال في شكل سهرة اذاعية مباشرة حتى الصباح ؟؟؟ اعرف ان مثل هذا لم يحدث سابقا في تاريخ الاعلام الاذاعي التونسي؟؟؟ … ايه وين المشكل ؟ … لماذا لا نكون سباقين في ذلك باذاعة صفاقس ؟؟ وقفزت سريعا الى مكتب المدير …. استقبلني ببشاشته التي اصبحت جزءا من لقاءاتنا وقال: اشنوة شكون تسلّط عليك هذي المرّة ؟؟… انا لم اكن اشتكي من ايّ كان ولكن هو يعرف انهم متسلطون … اي اصبح مدركا لما يجري في الكواليس …

ضحكت وقلت: لا لاباس اما عندي فكرة مشروع نحب نعرضها عليك … اصلح جلسته وقال: ان شا الله خير… قلت له: اذاعة صفاقس ستحتفل بعيد ميلادها الثاني والعشرين عن قريب … اجاب ايه نعرف والمطلوب ؟؟ … قلت له ما رايك لو يكون الاحتفال حدثا هاما بالنسبة لمؤسستنا … قال لي: هات اشنوة المطلوب منّي، اما راهو الخزينة نهاية عام وما فيهاش برشة فلوس … قلتلو: لا الفكرة من نوع البلوشي… تهلل وجهه وقال: ايّا هات اش عندك … طرحت عليه فكرة برنامج اذاعي بما يّسمّى (نون ستوب) اي بث ليلة كاملة دون انقطاع ….لم يردّ للحظات ثمّ قال لي سافكّر في الموضوع … خرجت من مكتبه دون ان افكّ شفرة (سافكّر في الموضوع) … كنت واثقا من انّ “الملأ” لن يوافق… ولكن كان هنالك بداخلي احساس انّ سي التيجاني بمقدوره ان (يتملّح) من الملأ …

يومان فقط وبعدها دعاني السيّد التيجاني الى مكتبه … وكعادته وبنظّارته التي تحجب عنّي قراءة ما بداخله قال لي: اقعد سي عبدالكريم…جلست ولم يمهلني طويلا حتى سأل: انت واثق من قدراتك على ننفيذ المشروع اللي حكيتلي عليه لعيد ميلاد اذاعة صفاقس ؟؟؟ اجبته نعم وبكل حزم … ابتسم وقال في دعابة: معناها ما كذبوش عليك اللي قالو انّك مغرور …. قلتلو هذا كلام نعرفو وما يقلقنيش …. فما كان منه الا انّو زاد تفّحّها يقوله: اما هوما قداش يحبّوك (طبعا بلهجة ساخرة) …. فرددت عليه بنفس اللهجة: لو كان تشوف انا ! … عاد الى جديته وقال لي: اشنوة يلزمك لتحقيق الفكرة متاعك؟ … قلتلو: موافقتك …. قللي اعتبرني موافق نحكي ماديا … قلتلو باستثناء تخصيص استوديو للمونتاج واخرين للبث لا شيء لانني ساعمل وكل الفريق مجانا هدية منّا لاذاعتنا …

نظر اليّ بكلّ عمق وقال: (اخدم على روحك وانا عندي ثقة فيك) … بكلّ صدق خرجت من مكتبه كطاووس … وبكلّ صدق اعتبرت موافقته دفعا ايجابيا لي وضربة قاصمة للملأ … وبدأت في نسج سيناريو البرنامج … اوّل ما عملت عليه ان يكون التنفيذ جماعيا لذلك دعوت العديد من الزملاء للخوض في الموضوع ولتمكينهم من المساهمة في البرنامج ….لكن وبكلّ صدق ايضا كنت حاسما في اختيارات محتوياته … انا هكذا متسلط جدا عندما اتبنّى فكرة ما … لا يزيحني عنها الا من يقنعني بالافضل منها … وشرعت في العمل … كنّا خليّة نحل في اعداد ومونتاج الاركان المسجلة والريبورتاجات … ثم قمت بعدها بتوزيع الادوار بين كامل اعضاء فريق المنشطين في استوديوهين وانطلقت السهرة الحدث …

احتفظ منها باشياء عديدة ولكن اهمّها انني يومها اكتشفت مدى تناغمي مع زميلي عبدالجليل بن عبدالله في التنشيط الثنائي… وثانيهما ونحن على بعد هنيهات من اختتام البث، وباب استوديو البث يُفتح ليدخل منه السيّد التيجاني مقني وكلّه سعادة وليشدّ على يديّ بكل حرارة وعمق … وليقول برافو ربحنا جميعا الرهان… وكنت اكثر سعادة وانا اقرأ رجع الصدى في الصحافة المكتوبة لعلّ اطرف ما جاء فيها ما كتبه احد الزملاء في جريدة البيان بتاريخ 13 فيفري 84: (سهرة عيد الميلاد التي تواصلت الى الصبح شدّت آلاف المستمعين، فمن ذلك فتاة صغيرة تدرس بالمدرسة الابتدائية سهرت مع الحدث ولما كانت في القسم داعب النوم جفنيها فسألها المعلم عن السبب، قالت: عبدالكريم وعيد ميلاد اذاعة صفاقس… ردّ المعلّم: انت اشجع منّي… انا لم استطع متابعة البرنامج للصباح)

… وانا اكتفي بما كتبته في الورقة 72 منذ الصباح …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 71

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

مع انتهاء شهر ماي 83 بدأت افكّر بجدّية في انهاء عملي بكلّية الاقتصاد والتصرّف بصفاقس… اصبحت عندي قناعة راسخة بأني لا اصلح لتلك النوعية من المهام لا شكلا ولا محتوى… فلا العميد مرتاح لوجودي ضمن اطارات الكلّية، ولا انا (جايني على المضّاغة) اذ أنّنا نختلف جذريّا في كلّ شيء وهو ما سبّب احراجا لصديقي الكاتب العام للكلّية (التوفيق المكوّر)… امّا عن محتوى عملي فهو اداري بحت اي (الروتين يمشي موش على ساقيه بل على ركايبو) وهذا ايضا يتنافى مع طبيعة تركيبتي… ثمّ ممّا زاد في اسراعي بمغادرة الكلّية قرار اعادتي للمصدح… فكيف لعاشق ان يمزج كأس عشقه المجنون المُعتّق، بماء السبّالة …؟؟؟

عبد الكريم قطاطة

ذات صباح صعدت الى مكتب الكاتب العام للكلّية وقدّمت له ورقة كتبت عليها استقالتي ..كانت لا تتجاوز الاربعة اسطر عبّرت فيها عن شكري للزملاء في الكلية وعن استحالة مواصلتي العمل لاسباب شخصية… اتذكّر جيّدا انّي لم اذكر او اشكر العميد في تلك الاستقالة اي كتبت له ضمنيّا انّك لا تعنيني ولم تعنني يوما… صديقي التوفيق قرأ الاستقالة واحمرّ وجهه… لم اتركه ينبس لا ببنت شفة ولا ببنت اختها… سارعت بالقول: الاستقالة هي الحلّ الافضل للجميع لي لك وللعميد انذاك فقط لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي… كان يعرف ما اقول بل كان يدرك انّي على صواب… ولأنه كذلك ولأني كذلك، تعمّقت صداقتنا اكثر بل وحتّى في عديد المشاكسات ولغونا انا وزوجته زميلتي ابتسام كان دائم الوقوف الى جانبي… هو انسان رائع بكلّ المقاييس… وهنا لابدّ من ان اقول كم انا (خايب) في المدّة الاخيرة ونظرا إلى كثرة مشاغلي حيث ابتعدت عنه وعن اجوائه … صدقا مااخيبك يا ولد عيادة ..

مع نهاية شهر ماي اتّصلت بي كاتبة مدير اذاعة صفاقس لتقول لي سي التيجاني طالبك… وجاء صوته هادئا اهلا سي عبدالكريم… ايّا وقتاش تطلّ عليّ ؟؟؟… تواعدنا على لقاء في الغد… كانت الساعة تشير الى الثالثة و5 دق عندما ولجت مكتبه… كان كعادته في كل مرّة دخلت فيها مكتبه بعدها، جالسا على كرسيّه الفاخر… قلّ ان نهض من على مقعده ليستقبل ابناء الدار … انا لم آخذها مطلقا من زاوية المسؤول الذي ولتثبيت صورته كسلطان ذي وقار وعلى الضيوف ان يقفوا امامه وهو على كرسيّ عرشه دون ان يتزحزح… بل وربّما لشقاوتي كنت ارى في تصرّفه ذاك تغطية على قصر قامته حيث يصبح اشبه بـ(كعبة زلّوز بوقلبين) عندما يقف فلا هو منتصب القامة ولا هو مرفوع الهامة… قلتلكم ولد عيادة خايب… و على فكرة تقولشي عليّ انا طولي نعناعي !…

في لقائنا ذلك اليوم “ما نغنغش”… لم يعد مطلقا لتلك الرسالة التي اغضبته وهو ما جعلني ارى فيه نوعا من الابتعاد عن الترهات او ضربا من الحكمة والرصانة… رحّب بكلّ وقار وثقة وقال: انت مستعدّ للعودة الى المصدح؟… قلت تمام الاستعداد ..قال اسمعني جيدا وخاصّة افهمني جيّدا… ستعود بداية من الاثنين 13 جوان… ستعود للكوكتيل ولكن وفي مرحلة اولى سيكون الامر بالتداول مع زميلتك ابتسام وبشكل مسجّل لا على الهواء… لم يقلقني صدقا التداول مع ابتسام ولكن كانت صدمتي واضحة عليّ وهو يتحدّث عن تحويل البرنامج من مباشر الى مسجّل… وكان شديد الانتباه لصدمتي حيث قرأ نوعية ابتسامتي الحزينة من جهة وصمتي العميق وعيناي تتشبثان بارضية المكتب… بادرني دون انتظار بالقول: انا قتلك اسمعني وافهمني واعطيني ثيقتك وتوة تشوف … احسست بصدقه واحسست بعد فترة لم تطل انه كان حكيما …

ذات يوم وبعد سنوات صارحني بأن الحاشية كانت شديدة في حرصها على عدم اعادتي للمصدح، وانّه كان عليه ان يتفادى في بداياته الصدام مع تلك الحاشية… فاختار الحلّ الانسب ظرفيّا: تسجيل البرنامج لمدّة… انذاك يمكن لنا ان نحذف كلّ ما يمكن ان يُقال ويتعارض مع ما يجب ان يُقال… قال لي: (لم اكن اعرفك كثيرا قبل مجيئي كمدير للاذاعة… كنت اسمع عنك الكثير … بباهيك وخايبك… ولكن كان هنالك احساس في داخلي يقول انّك ضحية لدسيسة … وكان عليّ ان اكون إلى جانبك خاصة والسلط العليا قررت اعادتك، وقلت ساغامر .. امّا ان نربح الرهان معا او ان نخسره معا) …لم يمهلني في ذلك اللقاء كثيرا وختم بالقول: (اقبل الامر كما هو ستعرفني اكثر) …

للامانة كنت حزينا جدا وفي نفس الوقت سعيدا جدا… حزين لأني لم اتصوّر يوما ان اقدّم برنامجا محنّطا ودون حضور المستمع صوتا… وسعيد لأنه وفي كل الحالات عودتي تعني ضربة موجعة جدا لخصومي… كان يوم 12 جوان 83 موعدا لن انساه… موعد تسجيل البرنامج… دخلت الاستوديو ووجدت امامي زميلي الفني وصديقي جميل عزالدين رحمه الله في انتظاري… كان في قمّة السعادة… عودة عبدالكريم بالنسبة له كزميل وكأخ فرحة لا تُقاس بسلّم ريشتر… وانطلق اللحن المميز للكوكتيل وموسيقاه “بول ستار” التي اقدّم عليها التحيّة الاولى والتي لازمتني في كلّ برامجي لحدّ يوم الناس هذا .. انّها واحدة من بصماتي ومن لا بصمة له لا وجود له اذاعيا …

كان عليّ ان اكون اذكى من الرقابة في كلّ كلمة اقولها… وهاكم نصّ تحيّة العودة (كلماتي كانت مصحوبة بمؤثرات صوتية فيها اصوات امواج البحر): {{{ سيداتي آنساتي سادتي اسعد الله صباحكم واهلا وسهلا ومرحبا … لعلّّكم تستمعون الى ما يصاحبنا من ايقاعات تغرّدها سمفونيّة البحر … البحر هذه اللوحة الرائعة التي تتحدّى كل اللوحات … البحر هذه الجوكندا الازليّة التي لا تتجاوز في جمالها ليونار ديفنتشي وجوكندته فحسب بل تتجاوز كل الرسامين مجتمعين … البحر هذه الجوكوندا التي نلجأ اليها في فرحنا وترحنا … في همّنا وغمّنا … في املنا ويأسنا … نضمّه نعانقه .. نرحل معه ويرحل بنا .. نقبّله ويلثمنا …نراقصه ويناجينا … البحر هذه الجوكندة التي يرى فيها البعض الهدير ويرى الآخر فيها الوشوشة … هي ثورة في اعين البعض وهي همسة في اعين اخرى … هي ازيز وهيجان وصخب من منظار … وهي نوتات موسيقيّة ناعمة ورقصة “سلو” غجرية من منظار آخر… هي .. وهي .. وهي ..

قد يتجنّى القلم فلا يفي بوعوده كي يكتب بغزارة وطلاقة عنها ولكن الا يمكن ان نقول ببساطة عن هذا… الجوكندة انّها الحياة ؟؟؟ … الحياة بجواهرها واصدافها .. الحياة بطموحاتنا وخيباتنا … الحياة بحالكها ومشرقها … الحياة بخلودها وفنائها .. الحياة بكلّ متناقضاتها التي لا مفرّ لنا من عيشها ومعايشتها … واليوم ونحن نفتح صفحة جديدة من كتاب اذاعي مشترك يحمل كهويّة “كوكتيل من البريد الى الاثير”… لا يسعنا الا ان نؤمن منذ خطّ الانطلاق بأنه برنامج اذاعي زرع في عروقه السيد التيجاني مقني مدير اذاعة صفاقس مشكورا نبض الحياة… وعلينا جميعا ان نرعى نبتته بعطائنا المشترك…علينا ان نزوّد هذه النبتة بفيض الفكر وبمداد القلم وخاصّة بروح مؤمنة بأن لا اذاعة دون مستمع… وبأن لا منتج او منشّط اذاعي مهما كان اختصاصه يعمل في برجه العاجي دون الالتفات يمنة ويسرة الى محيطه .. الى الآذان التي تتلقفه .. الى المستمع كمنتج ومستهلك .. وربّما وهو الاهمّ ان يعمل دون ان ينفصل عن انسانيّته كانسان والانسان يعني الطموح للمساهمة في خلق غد افضل …

…هنا فقط يُهيّأ اليّ انّنا نعطي معنى لكينونتنا وصيرورتنا … الغوص في جوكندة الحياة يعني سفينة وشراعا وملاّحين … كوكتيل من البريد الى الاثير هي السفينة التي اقترحها عليكم … شراعنا في هذه السفرة هو الايمان بانتاج مسؤول … والملاّحون هم انتم …فهل نبدأ الرحلة معا ..؟؟؟ ادعوكم بكل شوق وحب الى شدّ المجاذيف لنركب البحر معا … لنعانق البحر معا .. لنرسم على شاشته الوان حياتنا ولنكتشف اخيرا انّ بحرنا هو الجوكوندة التي لا تعادلها جوكوندة … }}}

ينتهي النص وتليه اغنية مسلسل وقال البحر من كلماتها التي تقول (اه من هدير البحر لمّا يثور )… دعوني اقل لكم انّي حاولت في الورقة ان التزم بثلاثة عناصر هامة … اوّلها تثبيت المستمع كطرف فاعل في البرنامج الاذاعي من جهة، وتحيّة شكر ضمنية له على وقفته الحازمة عند تعرّض البرنامج للايقاف …ثاني العناصر ان اراوح بين روح الالتزام بالمسؤولية كمنتم لمؤسسة، لكن دون التخلّي عن ثوابتي وقناعاتي… ثالثها طابعي الاستفزازي لخصومي …كنت اقول لهم دون ان اقول (اضربولي عالطيارة)… كنت متاكدا جدا انّ جلّهم سيركزون في جوسستهم في الحلقة الاولى على الاغنية التي ختمت بها النصّ… وكان حدسي في محلّه اذ أنّه وبعد اوّل لقاء مع السيد التيجاني مقني قال لي مبتسما …الغناية متاع هاكة المسلسل اش اسمو هو ؟؟ قلت له مبتسما وقال البحر ..ايه هاكة هو يا سي عبدالكريم الاغنية متاعو ما عجبتش برشة جماعة… قلت بكل براءة خبيثة ..انت سمعتها ؟؟؟ قال لي لا ..اما عندي ثيقة فيك ..ربي يعينك …

وقتها بدأت اتلمّس نوعيّة ملاحظاته عرفت انه كان يريدني فقط ان اعرف انّ الحاشية ما زالت تشتغل ليلا نهارا وانه (باعثها) وهذا ما معنى عندي ثيقة فيك …دعوني في الختام احكي لكم ما حدث مباشرة بعد اتمام قراءتي للمقدمة واطلاق سراح الاغنية… انا كعادتي التزم جدا بدليل برنامجي بشكل مفصّل ومقنّن فالاغنية عندي لم تنفصل يوما عن وجودها كعنصر فاعل في البرنامج الاذاعي… البرنامج الاذاعي عندي لوحة سمفونية من جملة نوتاتها الاغنية… لذلك وهذا يعرفه جميع الفنيين وكلّ من تدرب عندي التزم والزم الاخرين ليس فقط بعنوان الاغنية بل بمدتها بالثواني لا بالدقائق وبالمقطع الفلاني الذي يجب ان يكون… الان هناك منشطون يدخلون الى برامجهم ويطلبون من الفنيين ان يبثوا لهم ما يعنّ لهم من اغان (تي حُط اللي يعجبك المهم نعملو جوّ)… نعم … هكذا البرنامج الاذاعي طاح قدرو لهذي الدرجة … توة هاذوما يستحقو يكونو قدام مصدح ؟؟؟ تي اصلا هذا هو اعلام العار الحقيقي …

اذن رغم انّ دليل برنامجي واضح من الفه الى يائه واُمكّن الفنّي من نسخة منه حتى يقوم بالتنفيذ، فاني احرص دوما على تلك الطلّة على الفني امام كونسولاته … لأبدي بعض الملاحظات او الرغبات وفي جلّ الاحيان لتبادل بعض الكلمات البريئة جدا … (اكيد عرفتوهم ؟؟ والله كنّا عالم صايع بشكل!)… يومها خرجت الى غرفة الفني المرحوم جميل عزالدين ففوجئت به يرتعش مصفرّ الوجه …سالته بخوف وانزعاج: اشبيك جميل لاباس؟؟؟ نظر اليّ والدموع في عينيه وقال: اشبيني ..؟؟؟ ما تعرفش اشبيني ؟؟؟ يخلي كذا من كذا … انا نرعش وخايف عليك وانت موش هنا .. من انا طين تخلقت انتي …؟؟ عانقته طويلا وقلت له: من طين تييييييييييييييت …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار