عندما تنظر إلى كمّ الندوات والمؤتمرات والملتقيات والمفترقات التي تنتظم بالبلاد حول موضوع الإعلامية، تقول انتهى، لقد انتقلنا فورا من تونس إلى كاليفورنيا، ومن القصبة إلى “سيليكون فالي” …
وزراء على كتّاب دولة على مدراء على خبراء، وتحت سامي إشراف لافتة قماشية “قدّ ماهو” معلقة في مدخل الأوتيل خمس نجوم المحجوز منذ ثلاثة أسابيع … و يتداول القوم يومين وربما أكثر وتنعقد لجان وتصدر توصيات بأنه لا بدّ، ولا بدّ، ولا بدّ … ويقع استغلال الفرصة في الأثناء لتوسيم العامل المثالي وتكريم بقية المثاليين وأيضا المؤسسين والمتقاعدين والقريبين من التقاعد وحتى الأموات في قبورهم … وفي الأخير يعود الجمع من الحمامات إلى بيوتهم، ومن بيوتهم صباح الغد إلى مكاتبهم … وفي مكاتبهم تستمر ملفّات الخلق بالآلاف نائمة في شخيرها، وتستقرّ أشغال البلاد في سيرها البطيء، وتواصل أرجل المواطنين في الصعود والنزول بين الطوابق لشهور قادمة، بعد أن أفنت أشهرا سابقة في اللهاث عبثا وراء نفس الخدمة …
وواضح أن مؤتمراتنا الكثيرة لا يستفيد منها إلا أصحاب الفنادق، خاصة في فترات ركود الموسم السياحي … وواضح أكثر أن تعبير “الإصلاح الإداري” عندنا صار من المناطق الأثرية التي تستحق منّا تسجيلها في اليونسكو … فمنذ عشرين ثلاثين خمسين سنة، لم تخل حكومة من مكلف بإصلاح حال الإدارة وتطوير آلياتها وتبسيط إجراءاتها أمام المتعاملين … بل وتماشيا مع روح العصر، ابتكروا وزارة للإعلامية في التسعينات، ففرحنا بذلك خاصة أنهم عيّنوا وقتها مهندسا شابا اسمه منتصر ونسيت لقبه … غير أن تلك الوزارة تأخرت بالبلاد بدل أن تتقدم، واتضح أنها جاءت لمراقبة البريد الإلكتروني وصفحات فايسبوك، لا أكثر ولا أقل … وها أنّ مهمّتها تلك عادت مؤخرا ولكن بتحوير طفيف، إذ تسعى الآن وزارة المالية لفرض ضريبة على صفحات التواصل الاجتماعي بعد مراقبتها… تطبيقا لمقترح كنا نحسبه من فكاهات النائبة السابقة سنية بن تومية …
وقد جدّ قبيل 2011 حدث ملفت للنظر كان مصنّفا ضمن مقدمات الثورة: مظاهرة نهار على عمّار … وهي عبارة عن تجمهر سنة 2010 لعدد من المدوّنين ومهندسي الإعلامية أمام وزارة الداخلية وكان مطلبهم إزالة الحواجز أمام التكنولوجيا الحديثة، وتجاوز ما يسمى بـ “الفجوة الرقمية” بيننا وبين العالم المتقدم، والسماح لنا بالدخول حقا إلى مجتمع المعلومات … ورمز كل هذا كان مناهضة “عمار 404” أي تلك الإشارة التي تعلمك بإغلاق موقع أو منعك من النفاذ إليه … طيب … انتهت القصة مع أحداث مفتتح 2011 وزال المنع والحجب وتحررت لغة الكلام والمعلومات والشبكات … بل زدنا على ذلك بأن نصبنا أحد أولئك الشيان (شبان احتجاج نهار على عمار) في خطة كاتب دولة مع أول حكومة بعد الثورة … بالأمارة اسمه عمامو … وقلنا أخيرا جاء الخير والفرج وسنخرج من تخلّفنا …
ورغم ذلك لم يتغير شيء … يل اتضح أن الحراك كله كان حراكا سياسيا غنائميا وراءه أحزاب ودوائر نفوذ وأجندات أجنبية غير بريئة … تماما كنظيره الذي حصل في 2005 بمناسبة انعقاد قمة المعلومات في تونس وما تخللته من مواجهات وتحالفات سياسية جعلتنا نخسر عوائد القمة ومعها مستقبل البلاد لعقود تالية … لم يتطور مشهدنا ولم تتحسن قطاعاتنا المختلفة وبقينا ننتقل من ركود إلى ركود، ومن أزمة لأزمة، ومن تداين لتداين، ومن هجرة إلى هجّة، ومن تبعية إلى تبعية، ومن بؤس إلى يؤس … تجاوزتنا بلاد عديدة كنا سابقيها وتجمّدت مبادلاتنا مع الخارج في شكلها الموروث عن السبعينات، أي تصدير الخامات والأيدي العاملة والشواطئ وبعض المنتجات الفلاحية بثمن بخس، واستيراد كل شيء وبأرفع ألأسعار … حتى في الثقافة والإعلام …