عندما تقوم في الصباح و تجد ـ حاشاك ـ قمامة بيتك منشورة أمام الباب و على الرصيف و جزء من الطريق العام، لا يمكن أن تلوم القطط على نبشها كما لم يلمها القرمادي على فعل آخر فوق قبره … و لا تلومنّ أعوان البلدية الذين لم” يكهّبوا” على تلك المنطقة منذ خمسة أيام … و لا تؤاخذ رئيس البلدية الذي يقتصر فهمه للحكم المحلّي، على نوع السيارة التي يتجول بها مغتصبا إعجاب ناخبيه … و لا تعتب على وزير الشؤون المحلية و البيئة الذي انفرجت أساريره حين أقيل والي القصرين و دفع ضريبة كشك الخشناوي بدلا عنه … و لا تحقد على رئيس الحكومة الذي ورث دولة جائعة تعدادها مليار و نصف من البشر، لا عشرة ملايين كما يدّعي معهد الإحصاء …
على من ترسل زفيرك إذن؟ على من ستعيّط يا شريّط؟
على الهواء طبعا … و إذا كانت مشكلتك أنت تقف عند حاوية مقلوبة أو كيس مزّقه حيوان أليف، فلغيرك قضايا موت أو حياة … عاطلون على عمّال على رجال أعمال على فلاّحين على أرامل أمنيين على فنانين معوزين على مرضى على مسنّين على معدمين على مشرّدين على تلاميذ على مدرّسين على سكان جهات على رعاة تحت الشعانبي على جمعيات كرة تمّ حلّها على مستهلك وكّال يؤكل لحمه و جيبه في كل يوم … على، على … دون نسيان ضحايا كوفيد الذين هم اليوم بالآلاف، و غدا يكونون بعشراتها في الحاصل، و بالملايين في الاحتمال …
كل هؤلاء و غيرهم يتوجّعون من مصاعب و مصائب تكاد تقطع عنهم التنفس، إلى درجة صار يضيق معها صدر أي مذيع يفتح هاتف برنامجه المباشر فينهي المكالمة بأسرع مما بدأها … و لكنك ترى منهم جميعا أصابع تتجه إلى مالك السلطة و السلطان و الإدارة و التسيير و التخطيط في البلاد … هل هؤلاء كلهم على خطإ؟ … بالقطع لا، و كم صارت مفضوحة تلك الحيلة التي يلجأ إليها كبار المسؤولين و صغارهم حين يحاصرهم سؤال لا جواب لهم عنه … و هي حيلة ما يسمونه بمسؤولية المواطن … أي مواطن تعني يا بشر؟ هل سنجنّد فرق تفتيش تقتحم البيوت التونسية من أقصى بنزرتها إلى أقصى تطاوينها مثلا؟ هل عندك سجن يتسع لمتساكني 24 ولاية؟ هل ستملأ الأرض مشانق و مقاصل كما قال الآخر؟ أيّهما أسهل عندما تخيب النتائج: طرد 25 لاعبا أم التخلي عن مدرّب واحد؟
الملك هو الملك، و الرئيس هو الرئيس كما يقول المثل … هناك أناس قبلوا بمسؤوليات لها امتيازات و وجاهة و مرتّب أكثر من محترم، و لها أيضا عمل و التزام بنتيجة يكرم المرء بعدها أو يهان … رئيس الحكومة ملتزم بطرد أي وزير سجّل فشلا في مجال اختصاصه … وزير الحكم المحلّي ملتزم (لو كانت الدنيا دنيا) بحلّ أي مجلس بلدي متهاون في مرافقه العامة … رئيس البلدية ملتزم بمحاسبة عامل التنظيف الذي تبقى قاذورة واحدة في المنطقة التي يعمل بها … العامل ملتزم بإنجاز شغله و يجازى أو يعاقب بحسب المنجز و غير المنجز … و هذا مجرد ضرب مثال من مئات آلاف في أي مجال، حتى لا يقال ما لك أمسكت بالعامل البلدي و لم تعتقه منذ ساعة و ربع …
و هنا ينهض لك أكثر من متعجّب أو تتحرك في الهواء أكثر من يد بإشارة سخرية أو يأس … ففي هذه البلاد تعوّدنا أن نرى الطبيعي على أنه غير طبيعي، و الشاذّ على أنه هو المقرّص و هو المعجون … و تفسير ذلك بسيط، و نعود إلى سلسلة العامل البلدي و رئيس الوزراء … الخدّام لا يخشى عقابا لأن وراءه نقابة أو حزبا يخشاهما أو يتواطأ معهما رئيس البلدية … رئيس البلدية لا يخشى الوزير لأن بين يديه قانونا يعفيه من المساءلة … الوزير لا يخشى رئيس الحكومة لأن وراءه حزبا يحكم أو جهة متنفّذة، و سنرى ذلك بعد انتهاء الموجة الأولى “المستقلة” للمشيشي و العودة إلى نظام المحاصصات … رئيس الحكومة لا يخشى رئيس الدولة لأن نظامنا برلماني، أو “برمائي” مثل الضفدعة … على أقلّ صوت أو خطر مستراب، تنجو بنفسها و تقفز سالمة إلى الغدير …
في البلاد الديمقراطية حقا، هناك قيمة أساسية اسمها الرأي العام، المواطن، الفرد، الناخب، دافع الضرائب … هذه القيمة يخافها كل من في الدولة و يقرأ لها حسابا، لأن بفضلها يصعد حُكّام و عند غضبها يسقطون و ربما يحاكَمون و كل مؤسساتهم مبنية على هذا … أما في تونس، فالمواطن كمسؤوليات المسؤولين، ككرة الشاطئ، متقاذَف بين الأرجل و الأيدي و الرؤوس … و لا دور له في تنصيب هذا أو إسقاط ذاك، أما صوته فهو مضمون محسوم لا خوف منه … تريد مثلا نتائج انتخابات 2024 من الآن؟ ليس أسهل من ذلك صدّقني …