حدث مرّ كريما هذه الأيّام، مع أنه على جلالة و دلالة … جلل لأنه يتمثل في ارتقاء ابن مستعمرة سابقة إلى حكم الدولة التي كانت تستعمر أجداده … و ذو دلالة لأن هذا يعني من بين ما يعني أن ديمقراطية الفرص المتساوية هي أمّ الديمقراطيات …
القصد طبعا هو تعيين “ريشي سوناك” ذي الأصول الهندية، رئيسا لوزراء بريطانيا العظمى … و في نظام تلك الجزيرة الباردة التي تسود العالم (بأشكال مختلفة) من 300 سنة إلى اليوم، فإن رئاسة الحكومة هي السلطة الفعلية زمن الحرب و السلم و ما بينهما … أقول “تعيين” و الأصح “انتخاب” بما أنه قبل ذلك اختاره حزب المحافظين ووراءه جيش من الأعضاء و النواب والناخبين و معظمهم من ذوي البشرة البيضاء و العيون الفاتحة و الدم الأزرق … اختاروه بمقاييس لا دخل للعاطفة أو العصبية أو الغرائز فيها، بقدر ما كان ذلك لشروط موضوعية كلها عقل عقلاء و حضارة متحضّرين …
لا نريد الإطالة في ذلك حتى لا يتحول الكلام إلى وصايا عشر … و لكن نظرة صغيرة على وضع تلك البلاد (المملكة المتحدة) ومواصفات السيد هذا، تكفينا لفهم ما حدث … بريطانيا تعيش هذه المدة على وقع أزمة اقتصادية و أخلاقية مقلقة … عندهم تحدي الانفصال عن أوروبا، و تحدي انفصال داخلي تهددهم به اسكتلندا، و تحدي مضاعفات الأزمة الأوكرانية خاصة في مجال الطاقة، و تحدي إدارة موجات الهجرة القادمة من دول الجنوب … أما أخلاقيا، فقد تراكمت الفضائح المالية و القانونية لعديد الوزراء و حتى رؤساء الحكومات بشكل لم تعرفه تلك البلاد التي تضع نزاهة المسؤول التامة في صدارة خصاله، و لا يمكن القبول بسياسي نصّاب أو كذّاب و لو كانت لديه عبقرية إسحاق نيوتن !
الأخ سوناك جاء من وزارة الخزانة (أي المالية) بعد أن أثبت فيها كفاءة و نظافة يد لا يُشكّ فيهما … كما أنه من عائلة ثرية و محترمة السمعة، و هذان المقياسان معًا لهما وزن في تلك البلاد … الثراء إذا كان خاصة نتاج حياة جهد و كفاح، يعطي ضمانا للعامة بأن ذلك المسؤول شبعان و لا يحتاج لسرقة مال الدولة … تماما كما كان سائدا عند أسلافنا في جمهورية قرطاج … أما السمعة الطيبة فهي تدخل بشكل حاسم في قرارات كهذه سواء كانت سياسية أو قضائية أو حتى جنائية … طبعا لا موجب للحديث ثانية عن الكفاءة، في بلد الجامعات العريقة و الثورة الصناعية و أزياء التلاميذ الموحّدة و الـ 136 جائزة نوبل …
اليوم صعد ريشي سوناك إلى المنصب الأول في الدولة، و بالأمس ثلاث نساء لنفس الخطة منذ مارغريت ثاتشر، و ألقى ذلك بتأثيره على المستعمرات السابقة أيضا … في الهند و باكستان و سريلانكا و بيرمانيا و تايلندا، و كذلك في أستراليا و نيوزيلندا و الولايات المتحدة التي ترددت في منح الرئاسة لامرأة سنة 2016 … لكنها انتخبت رئيسا إفريقي الأصل و اللون قبل ذلك و لمدتين متواليتين !
و هنا يكمن أحد الفوارق المثيرة بين النظام الأنكلو ـ سكسوني و النظام الفرنسي مثلا … إذ يخيّل إليك أحيانا أن فرنسا على ديمقراطيتها و تقدّمها، بلد متخلّف و استبدادي قياسا إلى جارتها وراء المانش … فقانون “ساليك” الذي يمنع على النساء تاج المملكة الفرنسية طوال العهد القديم هناك، يبدو أنه بقي نافذ المفعول حتى بعد ثورة 1789، و حتى بعد إعلان الجمهوريات من الأولى حتى الخامسة، و حتى في هذه الأيام … ورأينا مثلا سنة 2007 حين ترشحت الاشتراكية “سيغولين روايال” تحالف ضدها الجميع لكي لا تصل، بمن في ذلك أعضاء من حزبها و من أقرب أقاربها … أما عن الأقليات و أبناء المستعمرات فحدث و لا حرج … يضعون أحيانا رأسا أجعد أو رأسين، و لكن يبدو أن ذلك لمجرد الزينة أو لأغراض انتخابية قصيرة المدى و الأمد … بل أشنع من هذا و حتى في ما بين الفرنسيين الأقحاح، من يذكر مقيما واحدا في الإيليزيه … من المذهب البروتستانتي؟؟
و الله لا نحشمها … أصعد و أهبط منذ ساعة عن الأنكليز و الأمريكان و الهنودة و الفرانسيس و مالطة العورة، و أتناسى أين أنا و على أي سطح أقف و من أيّة شتلة جئت … نعم، “الخيال السياسي عند العرب” ما حاله؟ و تونس البيّة، من أين هذه البليّة؟ آه، أه، أه … كان الكلام من فضّة …