بنات أفكار
الذات والموضوع، و “أصل الحكاية” … دراسة نقدية
نشرت
قبل 3 سنواتفي
ثمة علاقة جدلية يُفترض وجودها دائما، بين الذات ــ أىّ ذات ــ، والموضوع ــ أىّ موضوع ــ في جميع المصنفات الفنية، بكافة أشكالها ومذاهبها، وإن اختلفت في شدتها من عمل إبداعي إلى آخر.
ويرجع هذا الإختلاف (في درجة العلاقة)، على الأرجح إلى مايمكن أن نطلق عليه (تاريخ الموضوع في الذات) أولا، ثم (قيمة الموضوع عند الذات) ثانيا، فبدون هذا التاريخ، وهذه القيمة، يتحول فعل الإبداع إلى عمل ميكانيكى صرف، لاروح فيه، ويصبح مجرد إدعاء أيديولوجي أجوف خلو من أبستمولوجيا الموضوع، ومن ثم يفقد الجزء الأكبر من قدرته على الوصول إلى الناس أو التأثير فيهم.
وهذه الدراسة، محاولة قراءة لبعض جوانب العلاقة القائمة بين الذات في تفاعلها النامي مع الموضوع، بغرض اكتشاف أبعاد تلك العلاقة، وفهمها في سياقها التاريخي الخاص.
ولأن الذات التي نقصدها هنا، ذات شاعر مصري صميم، دماً وروحاً ولساناً، ولأن الموضوع الذي نعنيه هو الوطن، القيمة التي لاتعلوها قيمة، فلا عجب أن تلتف حوله وتعانقه كل قصائد ديوان (أصل الحكاية)، لشاعر العامية السويسي الكبير كامل عيد رمضان، في قداس إبداعي مهيب.
فالوطن بمعناه العام والخاص هو عشقه الأول الذي يباهي به ويفاخر، وينتمي إليه بلا حدود، يغضب إذا ماتغيرت ملامحه الأصيلة ويحزن إذا ما شوهت يد الفساد والإفساد جماله المادي أو المعنوى، أو إن هى ضيعت مفرداته، يغنى له ويتغنى به في كل الأوقات، في العسر كما في اليسر، في زمن الضيق والشِّدة والألم العظيم، كما في زمن الرخاء والدعة، ويؤمن أن بناء هذا الوطن لن يكون أبدًا بالكلام وحده، ذلك لأنه كما يصف نفسه في مقدمة الديوان “الذائب في هوى مصر متشوفاً ومتشوقاً لحياة زادها الكرامة في عالم انقلبت فيه المعايير…” ، وهو القائل عن الشعر: ” هو مدخلي إلى هذا التشوف وهذا التشوق، ذلك أن الشعر في منظوري هو دفتر أحوالي”، وعن القصيدة: ” هي أنا ، وأنا هو ذلك العضو المنتمي لمجتمعه، ذائبا فيه …”، هذا هو بحق كامل عيد رمضان، الإنسان، والفنان الذي أعرفه.
على هذا النحو، نحن إذن أمام حالة نادرة من حالات الإنطباق بين: (ذات وموضوع)، (شاعر وقصيدة)، (إنسان وفنان)، حالة أقرب ما تكون بعملة ورقية وضعت في وجه الشمس، فانطبعت ملامح الظهر الخفى فوق قسمات الوجه الظاهر في تكوين بديع مضىء تتعانق فيه كل الخطوط، وتتقاطع كل الدوائر، وتتمازج كل الألوان، حالة أكثر عمقا، وأبعد أثرا من ذلك الصدق الفني الذي يتشابه علينا في كل إبداع، إنها حالة ذات عاشقة لموضوعها، وموضوع ضارب بجذوره في أعماق هذه الذات ــ قيمة وتاريخا ــ معا ، وفي آن واحد.
تصدرت الديوان عبارة “أشعار بالعامية المصرية”، ربما عن عمد وقصدية، ذلك أن العامية عند (كامل عيد رمضان)، اختيار ، لغة حياة وليست لغة للنظم، لغة ممزوجة برؤية مستوعبة لكل تفاصيل الهواجس المختبئة وراء تجاعيد الزمان، وتضاريس المكان، والقابعة داخل صدور الناس، لغة متجاوبة في إيقاعها مع نبض من حمل على عاتقه مسئولية البحث عن “دليل” يفسر لنا غياب الحس الإنساني عند البعض من الذين لم يستشعروا المعاناة التي يعيشها أبناء مدينة مصرية تقع في مرمى مدافع الأعداء.
لعب الوطن الدور الأبرز في تشكيل وعى ووجدان (كامل عيد)، وتصوراته، وعالمه الشعري الخاص في وقت مبكر، وقد تجلت ارهاصات هذا الدور بوضوح منذ لحظة (المخاض الأول) في مشواره الإبداعي الذي امتد إلى مايقرب من نصف قرن من العطاء المتواصل، وليس من المبالغة القول بأن المقدمات الأولى لهذا الدور ربما تعود إلى زمن أقدم من لحظة المخاض الأول، هو زمن (التكوين الأول)، قبل أن يبدأ رحلته الطويلة مع الكتابة الفنية، ودعونا نتأمل ــ بعد أن ننحي قضية توظيف التراث جانبا ــ لكونها ليست موضع الإهتمام في هذه الدراسة ــ كيف فرض المخزون الثقافي العام نفسه على عدد ليس بالقليل من قصائد الديوان، وإلى أي حد كان الوطن ورموزه المتتابعة عبر الزمن مركوزًا في أعماق الذات عنده.
فمن “المخزون المصري القديم العميق في الذات”، يستدعي “إيزيس”، “رمسيس”، “كاموس”: (انظر أصل الحكاية الصفحات 25، 72، 28)، ومن “المخزون الديني العميق في الذات”؛ يستدعي “سليمان” (انظر “أحلام الكلام” ص31)، “لقمان” (انظر “أحلام عصرية” ص38)، و “عيسى”، “أيوب”: (انظر”أيوب السويس” ص59)، ومن “المخزون المعاصر العميق في الذات”، يستدعي “النديم” (انظر “ثلاث كلمات للحب” ص13)، “سيد درويش”: (انظر “كلام لسيد درويش” ص63)، وجميعا كما هو واضع رموز زائعة ومشهورة في ثقافتنا العامة، لابد أن تكون قد أدت دورها الفاعل في تشكيل تصورات “كامل عيد”، وصياغة قناعاته فيما يخص معنى الوطن وقيمته، ونوع الحياة التى يرضاها له، قبل أن يستخدم دلالاتها المختلفة لتأصيل مفهوم علاقته بالوطن، وتأكيده في السياق الشعري.
والمتأمل لقصائد الديوان، لن تصادفه عقبة ذات بال في سبيل تتبعه أبعاد تلك العلاقة بين الشاعر والوطن، ومراحل تطورها، ابتداء من مرحلة ماقبل يونيو 67 بكل مافيها من أحلام وهواجس، ومرورا بما تلاها من مراحل؛ تأمل الشاعر وهو يحلم بوطن انساني حر سعيد بما يكفي لاستيعاب كل أحزانه (انظر: “أحلام الكلام” سبتمبر 1965 أقدم قصائد الديوان) .. يقول: (بحلم بحب وغيط ــ وببلد ــ /ملهاش بيبان /بحلم بروح انسان /باحلم بصدر حنان /باحلم بكل مكان /دفن الآهات، وبيدفن الأحزان).
لكن هذه العلاقة ، لاتلبث أن تتطور سريعا إلى ماهو أكبر من مجرد الحلم، متخذة من الأبعاد ماهو أعمق أثرا وقدرة في تشكيل ذات (كامل عيد)، بفعل الأحداث الكبار التى عاشها الوطن، وألقت بظلالها الكثيفة على عالمه الشعري، انظر ذلك الإصرار (المبكر جدا) على الصمود والتحدى في مواجهة ماجرى، وتأمل لهجة خطابه الآمرة الواثقة وهو يحذر الشهيد عشية الهزيمة في 67، في (امبارح لأ: 9 يوليو 67)، يقول: “حمدان يا ابن امي وابويا /ألف رحمه عليك /حسك تدفن راسك في الوحل /حسك تتألم أوتخجل ـ اتطمن /الأرض بتترجرج غليان /الأرض امك بتضمك /وبتغسل شرفك م الأحزان”
بهذه القوة، صهرت وقائع يونيو وما خلفته من مرارة وألم (كامل عيد) في بوتقتها اللافحة، واستنفرت فيه الهمة القابعة في الذات العاشقة الغيورة على الوطن والأرض والعرض، وأمدته بمعين لا ينضب من المستفزات الملهمات، ورغم ما وقرته الهزيمة ــ آنذاك ــ من مشاعر اليأس والإحباط والإنكسار في نفوس الجميع، بقى هو، ومنذ اللحظة الأولى ، صلب العود ، شامخ العزة، رافضا أن يرى نفسه مجرد رقم في الطابور الطويل من المنهزمين والمنسحقين، حتى وإن كنا نلمح من وقت لآخر نبرة حزن منفلتة، أو عبرة ألم توشك أن تهزمه، تأمله وهو يخاطب زوجته في المهجر بعد شهور خمسة من النكسة، لتدرك كم كان الوطن متوغلا في ذاته حتى في ذروة الألم؛ يقول لها في (جواب من السويس: 24/10/1967): “حنِّي كفوفك حنه سويسي /ابكى سويسي /نزلى دمعاتك حنيهم غنوه حزينه /لو ضحك النوار في طريقك سامحيه /مسكين سارقاه السكينه”.
لقد تحول العصفور المغرد الحالم بالسعادة والحرية في (أحلام الكلام)، والمنتمي لكل الأشياء الجميلة في (الانتماء)، إلى محرض على البكاء والغناء الحزين في (جواب من السويس)، ولِمَ لا، فقد سقط الحلم الجميل أمام عينيه سقوطا مروعا ومفاجئا ، مخلفا وراءه آهة حارة متأججة، ألما على ما ضاع، وحزنا على ماجرى؛ انظر كيف (يبكي) على ماجرى للبلد في (السويس)، وما ألم بها في (غنوة سويسي: 15/11/1967)، يقول وقلبه يفطر دما: “آهين يابلد عمري /يا باب لبحر والمصنع /ولميتي الشبك بدري / أيا بلدي”.
لكن الذات العاشقة أبدا لا تستسلم، تحاول بإصرار أن ترتفع على الألم والحزن، تبحث عن نغمة بديلة من الأمل والتفاؤل، تفتش عن ضحكة حقيقية فلا تجدها ، فلكي تعود الضحكة لابد لها من شروط، يعلنها (كامل عيد) في (ضحكتي وش البلد: أكتوبر 1969):” أبتدي أضحك بحق /لما أشوف الراية مصري زاينه سينا /واما نبقى كلنا في الحرب صحبه /نتقتل .. نقتل .. نموت”
وإن كان الشاعر قد أطلق (لاءه) الأولى في قصيدته (امبارح لأ: 1967)، فقد تلاها بـ (لاءات) أخرى كثيرة في قصائده التالية: لا للسكوت ونعم لإسترجاع الحق بالقوة (العهد، ريس البحريه: 1968)، لا للهزيمة ونعم للتطلع إلى النصر (كلام لسيد درويش: 1968)، لا للإستسلام ونعم للقتال وللجندى المقاتل صانع الصباح من العدم (بيان مصري، تسلم لنا: 1969)، لا للرضوخ للأمر الواقع أو قبول الهزيمة ونعم للإصرار على رفض الصبر وأخذ الثأر (أيوب السويس: 1969)، لا للخوف من الحرب ونعم للإصرار على خوضها مهما كان الثمن (الفجر عا الطريق: 1969)، ثم لا للا سلم واللا حرب ونعم لفتح النيران لتصحيح الخارطة، والمطالبة بالثأر من مغتصبي الأرض، وميتمي الأطفال، (انظر: “ثلاث حواديت من الجبهه: 1971”) يقول: “يا أمينه يا بنت حسين مسعود /مع إني أبوكى حسين و باعزك /لكن أبدا ماحسامح /ولا تبقي بنية أبوكى صحيح /إن شب وليدك (أحمد زين الدين عثمان) /يعرفش الحق /أو مين خلاه من صغره يتيم /لو شب الواد ولا خدش بتار الأرض؟”.
هكذا، ظلت قضية تحريرالأرض تشغل المساحة الأعظم في عمق الذات، فلم يتوقف اهتمام (كامل عيد) بها لحظة واحدة ولست سنوات كاملة هي عمر الهزيمة، توالت خلالها قصائد مناجاة المعشوقة المستباحة (سيناء)، والتي طال انتظاره لها، وما أن انطلقت إشارة العبور الأولى، وحانت لحظتها المرتقبة الحاسمة، حتى انطلق هو الآخر يسجل في دفتر أحواله تلك اللحظة المقدسة في الآن ، (انظر : مشهد العبور من أوبريت “السويس حبيبتى : 16/10/1973” ) يقول: “دفعتنى الروح بالروح جدفت /وصلت الشط /م الفرحه حضنت الأرض /حنيت بترابها إيديا عزفت / ياحبيبتى يامصر”.
لم تكن لحظة العبور عند (كامل عيد) مجرد موضوع للإبداع، أومناسبة لنظم الشعر وإلقائه فى المحافل والندوات، وإنما كانت بالنسبة له؛ لحظة العناق الطويل بين ذاته المتشوقة، وموضوعها الملهم، بعد سنوات الاغتراب الطويلة، والبطيئة، والثقيلة بآلامها وأحزانها.
لقد استمر هذا العناق طويلا، وبلا توقف، ربما لسنوات، دون أن يفقد حرارته الأولى، (انظر: “خرزه في عقد حب: ديسمبر 1974” )، (أذكركم في عيد النصر: 1975 )، (كلمه لمصر: 24/10/1976)؛ كم كان الوطن بالفعل ، وبحق ، متوغلا فى عمق ذات (كامل عيد)، حين قال في (مواويل المواويل: 30/6/1980): “من قبل مانتولد مكتوب نقابل بعض /أنا زرعه في ضفتك وانت المدد والرد /ده انا اللى شربت وأكلت من خيرك /وحاربت بيك يانيل حرب الشرف والعرض”.
لكن العلاقة بين الذات، والموضوع (متمثلا في الوطن) لا تتوقف عن هذه النقطة، بل تكتسب بعدا إضافيا عندما تتجاوز المفهوم العام والمجرد للوطن إلى نطاق أكثر تحديدا ـ رغم رحابته ـ هو النطاق المادي الواقعي له متمثلا في عنصرى المكان والناس.
انطلاقا من هذا الفهم، يصبح من الممكن تمييز هذا البعد (الإضافي) في علاقتين فرعيتين ينبثقان من ذلك البعد الأساسي المجرد، هما علاقة (الذات /المكان)، وعلاقة (الذات /الناس)، باعتبار أن المكان، والناس هما (الموضوع) المادي في العلاقة الأولى، والواقعي الحي في الثانية.
أما العلاقة الأولى (الذات /المكان)، فيمكن استجلاء ملامحها في ديوان أصل الحكاية عبر وفرة من الشواهد الشعرية التي تدلل على ما للمكان من أهمية ـ تاريخا وقيمة ـ في ذات (كامل عيد)، الذي يستخدم مستويات بلاغية ثلاثة للمكان،
المستوى الأول: اشاري صرف، كما في عناوين عدد ملحوظ من القصائد؛ نذكر منها: كلمة لمصر، أغنية للسويس، حدوتة مصرية، جواب من السويس، غنوة سويسي، أيوب السويسي، من مفكرة راجل سويسي، ثلاث حواديت من الجبهة، كلام للسويس، أوبريت السويس حبيبتي، السويس تغني.
المستوى الثاني: دلالي، باستخدام المكان (كدال) بما يثيره من معنى فكري أو وجداني أو عاطفي (كمدلول) كما في (ثلاث كلمات للحب ـ كلام مصري ـ 1968)، يقول: “بحبك سواقي /بتسقي الشراقي /يموت القلق /بحبك مصانع /مداين جناين /بعقد وحلق” .،
المستوى الثالث: تصويري، فالمكان من منظور (كامل عيد) أبعد من هذا وأعمق، فهو لا يعبر فقط عن الصورة العيانية الساكنة للوطن (مستوى الاستخدام الإشاري للمكان)، أو حتى عن المعنى المخبوء وراء الرمز المكاني (مستوى الاستخدام الدلالي للمكان)، إنما يتخطى حدود هذين الاستخدامين إلى استخدام المكان كعنصر رئيسي في الصورة الشعرية، واعتباره كيانا حيّا يتأثر بالأحداث وينفعل لها، (انظر مثلا “بيان مصري ـ 1969”)، يقول: “اضرب، اضرب، اضرب /صحى تراب سينا الغليان”. وانظر أيضا (ثلاث حواديت للحب ـ فبراير 1971 ) ، يقول : “وش السما أحمر /وش السما دخان /وش السما غايم /قلب البلد أحزان /لكنه مش نايم”. وفي (خطابين للشعب ـ السوق ـ 24/10/1974)، يقول: “على قد ما تألمت والنصر أحياني /شفتك يابلد (الغريب) م الغربة بتعاني /على قد ما لفيت ورجعت بمعاني /شفت السويس بتئن”
.
أما العلاقة الفرعية الثانية (الذات /الناس) فهى نهاية المطاف، وغاية الغايات في علاقات الذات بالموضوع، فيها يمثل الناس ــ حسبما تؤيده الشواهد الشعرية في أصل الحكاية ــ الجوهر الأصيل العميق الذي تحوطه وتحتضنه وتتوحد معه ذات (كامل عيد)، إنهم دنياها وعالمها الرحيب، هم كينونتها وصيرورتها، بقاؤها وفناؤها، تحيا بهم ومن أجلهم، تحلم لهم ومعهم حلم الحياة الأجمل في بساطته، والأروع في مثاليته، تؤرقها همومهم، وتشقيها أحزانهم وآلامهم، إنها ذات عاشقة للناس، مؤمنة بقضاياهم وبلا حدود.
تمضي رحلة الذات في علاقنها مع الناس عبر شواهد شعرية لا حصر لها ويمتلىء بها ديوان (أصل الحكاية) ابتداء من (غنوة سويسي ــ 15/11/1967)، والتي تتجلى فيها حميمية تلك العلاقة، يقول: “نسجت بقلبي موالك وغنيته /مع الشغيله في المصنع /مع البمبوطي في المينا وعا المركب /مع فلاحك الضاحك على كتفك /وسار يتحاكى با مجادك”.
وتستمر الرحلة الطويلة دون توقف: فيتأسى للناس الذين يتعرضون لقصف العدو في (جواب من السويس ــ اكتوبر 1967 ـ ص 53)، ويمسح دمعات المطحونين في (سؤال ــ مايو 1968 ـ ص 84)، ويؤكد حبه لمصر عبر العامل والفارس والدارس والشاعر في (كلام مصري ـ 1968)، يقول: “أحبك عروسة /في إيد بنت عامل /بيبني البلد/بحبك حصان /بيرقص بفارس /وطالع سبق /بحبك مدارس / ودارس وشاعر /ورنة وتر ”
ويستمر (كامل عيد) في عشقه للناس، فيدعو بالسلامة لذوي الهمة، وراوي الحبة، والمدافع عن الحق في (تسلم لنا ـ فبراير 69 ـ ص 83)، ويعلق ضحكته بفرحة الناس وسعيهم في اطمئنان في (ضحكتي وش البلد ـ اكتوبر 69 ـ ص 65)، ويشيد بصناع السد وعماله في (صناع السد ـ ديسمبر 70 ـ ص 85)، ويغني للإنسان والناس الذين يتبادلون الحب والمرابطين على خط القناة دفاعا عن الوطن في (الشاعر والقضية ـ مارس 70 ـ ص 71)، وينقش بروحه النياشين للسهرانين من عمال البترول في (كلام للسويس ـ فبراير 71 ـ ص 91)، ويتألم من أصحاب الفكر المخضرمين الذين أخافوه من أن يبدع بحرّية في (حكايات السفر الطويل ـ مارس 73 ـ ص 87)، ويحفز العامل على انجازه ويباهي بفنه.
كما يسعد بعودة الناس إلى مدينة السويس للمشاركة في فرحة النصر والعودة في (السويس تغني ـ سبتمبر 74 ـ ص 97)، ويتألم من صاحبه الذي باعه بثمن زهيد، ومن الكدابين والغشاشين والمشغولين بالعرش، كما يتألم من جرح الأصحاب الأندال، ومن الغربة والأغراب في (حكايتين للشعب: السوق ـ اكتوبر 74 ـ ص 101، 103)، ويؤكد في (بكره إيه ـ اكتوبر 74) أن تحقيق حلم الغد المنتظر لا يمكن أن يكتمل بدون يقظة الناس، يقول: “بكره لجل ما يبقى أخضر /مش كفايه الحلم بيه /بكره عايز ناس ماتهدا /ألف ألف وألف عين /إيد حديد تقطع الإيد اللي تنهب”. ويلقي تحية الصباح على العامل (الأسطى)، ويدعو للحب والعمل في (سلام بالحب ـ 75 ـ ص 108 ، 109)، ويذكرنا بما قام به الناس لإستعادة الأرض في (أذكركم في عيد النصر ـ 1975)، يقول : “أنا المكتوب على قلمي هنا با املي حكاية العمر أحكيها / حكاها الدم من قلبي نسجها الدان /كتبها الناس بضوافرهم على الإسفلت والجدران /كتبها عليوه وابو خاطر وعم سويلم البقال أبو العيال / وناس مجهوله أساميهم في دنيتكم كما في دفتر الأحوال” . ويعبر عن ألمه بسبب ضيق الرزق وبسبب تراخي البعض عن أداء واجبهم اعتمادا على الآخرين في (الربيع والناي ـ مايو 77 ـ ص 32)، ويؤكد أن الشعب حى وسيظل في (في ذكرى ماجرى ـ يناير 77 ـ ص 120)، ويتأسى على ما آلت إليه أحوال الناس وتحكم المادة فيهم، ويتساءل عن سبب دموعه فيعرف أنها داء الغلابة الناتج من الأنين والسكات، ويوضح رأيه في الغربة بأنها ليست غربة السفر، وإنما هي غياب الأهل والناس في ( موواويل الموواويل ـ يونية 80 ـ ص 121)، ويتساءل في (البكاء للداخل )، يقول: “يا هلترى هجرتني روحي المؤمنه /بالحب والناس البساط /واللا أنا عفت الحياة بالغربة مزروعة بآهات”.
ولا غرابة، إن طالت رحلة الذات مع موضوعها الجوهر (الناس)، وليس ثمة تعليل يبررها سوى ماقاله (كامل عيد) نفسه في (ثلاث كلمات في الحب ـ 1968) إذ يقول: “ولإني بحب الناس /والناس بالناس تتحب /خطيت بالقم الحرف، كتبت الشعر” .
تصفح أيضا
بنات أفكار
المعمار الشعري وفضاء الرؤيا… في ديوان “أحاديث الكباش”
نشرت
قبل 7 أشهرفي
10 مايو 2024من قبل
التحرير La Rédactionالشعر هو فن التشكيل لنص العالم بجماليات اللغة، من خلال إبداعات القصائد التي تبحث في جوهر الوجود، وتُفصح عن كينونة الإنسان، حيث تستلهم في محبة صادقة روحه الصافية وأحلامه العذبة، وتنسج بمغزل من القلب المكلوم أوجاعة المضنية، وربما لم تعرف البشرية عبر العصور صورتها الحقيقية إلّا بفضل المبدعين من الشعراء .
يتشيّدُ المعمارُ الشعري للنصوص في ديوان “أحاديث الكباش” للشاعر حسين القُباحي من المشاهد القادمة من وحي الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأساطير والحكايات بكل تجاربها وأشكالها و ظلالها، وصفاتها وتعددها وتباينها، من أجل افتتاح نافذة للرؤيا في اتصالها بالعالم تكشف عن غموضه وأسراره وتشكيلاته،
كما تفتح بوابات النصوص على نداء قادم من أقاصي الحلم يضاعف من طاقتها على الاستشراف وقراءة الآتي والغامض والماورائي.
“لم يكن غيرُ ظلي
وبقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين
تذهلُ عما يدور
بائعةُ الخبزِ لم تنتبه للرصيفِ
حين تلاشى
ولا العصافيرُ طارت حين أهالوا عليها التراب
كيف رستْ مسلّةُ على كتفي
وأنا أهرولُ
دون أن أدري
وكيف يطيرُ ظلي في الفضاء
والقدمان خائفتان من نظرِ النوافذِ للطريق
بينما شمسُ المدينةِ ترتمي
في حِجْرِ قريتِنا العجوز “
ينتمي الشاعر إلى الأقصر – موطنه الأصلي- وهي “طيبة” عاصمة الحضارة الفرعونية، فكيف يرى الحاضر الآن؟!
تتبدى في استهلال النص إدانة واضحة للحاضر، حيث تغتال المكان قشرة من المدنية الزائفة: تطول الفرد فتنطمس هويته “لم يكن غير ظلي”، وتستولي على المكان فيتوغل مرغمًا في الاغتراب “بقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين” وتخضع الأرصفة لقانون السوق “بائعة الخبز”.
غير أن الماضي لا يموت، ففي لحظة صاخبة، يستعيد المكان ذاكرته الخالدة ومجده التليد، وينزع عنه ثالوث الخضوع والمذلة والاستكانة فيفجّر البراكين، ويدفع بالأعاصير، فتجتاح الفضاء هالة من التغيير “البيوت تذهل، الرصيف يتلاشى، العصافير تتجمد من الخوف، الظل يطير، القدمان خائفتان”، فتنقشع المظاهر الكاذبة، ويستعيد المكان رمزه الشامخ (المسلّة) التي تصطفي الشاعر “الفنان”، و تنتصب على كتفه “كيف رست مسلة على كتفي”، فهو الابن البار لحضارته العريقة، التي تعود تزهو بحضورها الأصيل في القرية “شمس المدينة ترتمي في حضن قريتنا العجوز”.
“ماذا لو اقتنعت الحديقةُ
بجدوى مروري
فحوّلت أشجارها قليلًا
وباعدت بين الحشائش
ويداً بيد
قادني الحارسُ الكهلُ
للمنعطف
حيث الحصى يحبسُ الشوك
والرملُ لا يستحلُّ النُّعاس”
يتشوق الشاعر إلى المكان الحُلم حيث ينفتح النص على تساؤل جمالي لأيقونة الخضرة والبهاء “ماذا لو اقتنعت الحديقة” يعطي للشاعر حرية الحركة “حوّلت أشجارها، باعدت الحشائش”، حيث تتشكل منظومة من السلام الأرضي“الحصى يحبس الشوك”، والطمأنينة الناعمة “الرمل لا يستحل النعاس”،
“على الأطلال
طال وقوف من حولي
ويشغلني صفائي عن توترهم
وعن سهر الرسائل
والكلام
لأبعد من هناك
ومن هنا
طارت مُخيّلتي
وأقدامي تخلت عن تواضعها
فاقتربت إليّ
وامتدت حواراتي”
يسترجع الشاعر زمن أجداده من فحول الشعراء “على الأطلال”، لكنه ينفلت من حزنهم المقيم وأوجاعهم المضنية، وتمزقهم مع الجموع، حيث يتوحد بذاته المتصوفة “ويشغلني صفائي عن توترهم”، وتبدأ الأنا رحلة الصعود مع الفضاء الكوني “طارت مخيلتي”، وقد انسلخ الجسد من جاذبية الأرض “وأقدامي تخلت عن تواضعها”، لتمتد النجوى أو ينفسح للكلام كل المعمورة.
” والنخلُ لا يتحمل البوح المفاجئ
في الصباح
أحلى وأعلى من رجوع المبعدين
مواكبُ البسطاء
غمغمة العجائز بالعديد
قلق به السكرانُ لا يخشى فصاحته
فيحدّث الوادي
ويبتدر المسالك بالغناء”
ينغرس النخل بحضوره الأصيل فريدًا في تربة الاستهلال، وهو رهيف القلب “لا يتحمل البوح المفاجئ”، واستطالته باذخة الحنين “أحلى وأعلى من رجوع المبعدين”، لكنه لا ينعزل في عليائه، حيث يتنزّل جماليًا على بقعة الوادي تستظل به “مواكب البسطاء”، وتأمنه “غمغمة العجائز”، ويطمئن “قلق السكران”، ويحاور الوادي كي يشق مسارب الفرحة والطرب “يبتدر المسالك بالغناء”
” كنت أريدني صقراً خرافياً
جناح دجاجة
خالاً على خدّ
قدماً تسير إلى البعيد المختفي
نارًا بها يستدفئ الفقراء في ليل الشتاء”
يقع الشاعر في حلبة الأمنيات بين الفوز بالأنا عبر التحليق في طبقات المُثل العليا، والهبوط الاضطراري إلى الأرض وملامسة الواقع.
ففي الحالة الأولى تتبدى الرغبة في القوة الأسطورية “صقراً خرافياً” والوداعة الحالمة “جناح دجاجة”، والجمال الناعم “خالاً على خد”، والقَدَم السحرية “تسير إلى البعيد المختفي”
أمّا في الحالة الثانية فهو يجنح الي عالم الواقع، إذ يرغب في أن يحترق من أجل الحياة، من أجل مِلح الأرض وهم البسطاء “نار يستدفئ بها الفقراء في ليل الشتاء”
عازفُ الليل العجوزُ
ـ مستندا إلى عبق الصبا ـ
يرتاح من أيامه الأولى
ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد
مازال في عينيه فيضُ غواية
وصبا يخالطه الخريف
أصداءُ روح فاترة
شربتْ عصارته السنون ولم يزل
ريّان تستهويه أنفاسُ النساء إذا احترقن
ولا يبالي إن فررن إلى الجنون
متلفّعاً ألوانه الأولى وخشيته من الفرح المفاجئ
يستظل بحزنه ويسير
لا يُلقي إلى الأحداث بالاً
لا ينيخ حمولهُ
إلاّ وقد بزغ الصباح
يُطلق على الرجل المُسنّ في اللغة الفصحى لفظ الشيخ بينما يُطلق على المرأة المُسنّة لفظ العجوز، لكنّ الشاعر يستملح اللغة الدارجة (العامية) تقّرُبًا إلى البيئة الشعبية، تلك التي تساوي بين الذكر والأنثى بلفظ العجوز.
يشتغل الفعل الشعري بطاقته الدرامية والسردية وبحساسية فنية عالية التركيز على شخصية منتخبة، حيث ينفرد العجوز/الذكر بقلب الحكاية، وهو فنان أصيل لا يعترف بغير زمن وحيد، هذا المساء الذي يلّفُ العالم بغلالته السحرية، ويقع وصف الشخصية بين حالتين متناقضتين: مغامرة جسورة في معترك الحياة، ومغالبة قاسية من تيارها.
ففي الحالة الأولى: تتجسد الشخصية في الاستهلال كخلود جماليّ خارج الزمن، لا يرضخ تحت وطأة الكهولة الغاربة، وإنما يتدفق بحيوية صارخة “مستندًا إلى عبق الصبا”، وفحولة راسخة “عينيه فيض غواية، ريّان تستهوية أنفاس النساء”، كما يشارك الصوت/النغم في الاستهلال وينسرب شجيًّا في شريان المتن “ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد”
أمّا في الحالة الثانية فالجفاف يتسرب إلى كيانه “شربت عصارته السنون”، والجمال يتصدع في وجهه “صبا يخالطه الخريف”، والحزن يعرقل حركته “يستظل بحزنه ويسير”.
لكنه بشموخه الوافر وإرادته الصلبة يقود هذا المساء الجميل إلى إشراقة جديدة “لا ينيخ حموله ، إلا وقد بزغ الصباح”.
____________________________________
الهوامش :
1 – دراسات نقدية في الأدب الحديث : عزيز السيد جاسم
2 – إشكالية التعيير الشعري وكفاءة التأويل : د. محمد صابر عبيد
3 – ديوان أحاديث الكباش : حسين القباحي
أصدر الصديق الدكتور بلقاسم صبري كتابا عنوانه “طبيب المصعد الاجتماعي” عن دار نظر للنشر وسيقام حفل توقيعه خلال يوم الخميس القادم بمعرض الكتاب.
وقد كان الدكتور بلقاسم صبري من اوائل الأطباء الشبان الذين رسموا تحولا هاما في برامج و توجهات قطاع الصحة العمومية نحو الميدان الوقائي… ويمكن ان نعتبر انه و الفريق المرافق من أطباء خلال الثمانينات اذكر منهم واعتذر للبقية الدكتور فرزة و الدكتور عبد الكريم الزمزاري و الدكتور المرحوم على القراوي، كانوا مناضلين حقيقيين من جنود الخط الأول لمنظومتنا الصحية… وقد عمل الدكتور صبري مديرا جهويا لكامل ولايات الشمال الغربي مجتمعة (الكاف، جندوبة، باجة، سليانة) في أول الثمانينات. كما تم اختياره مسؤولا إقليميا بالمنظمة العالمية للصحة وشغل أيضا خطة كاتب دولة.
لقد سنحت لي فرصة الاطلاع على هذا الكتاب الذي فرض أهميته بفضل المواقف الإنسانية والوطنية لدى الدكتور صبري بالإضافة إلى سردية الذكريات الجميلة والنوستالجية احيانا و المصاعب و الأحداث خاصة بجامعة هارفارد الأمريكية حيث تحصل على أعلى شهائدها كذلك نلمس عبر الكتاب تمسك الدكتور بلقاسم صبري بقواعد الديونتولوجيا الطبية بدقة عالية خاصة بجانبها الإنساني.
كتاب مهمّ يعد محظوظا من يحصل على نسخة منه خاصة ان ريع مبيعات الكتاب سيتبرع به المؤلف والناشر لأشقائنا الفلسطينيين عن طريق الهلال الأحمر التونسي.
إنّ وَصْفَةً واحدةً لمجموعة تقنيّة حديثة تتطلّبُ قرابة ستّة ملايين مرْجَع، أي مائة مرّة ما يتوفّر عليه مُعجم لغةٍ ما. وإنّ تعقيداتِ الحياة وحدَها هي ذاتُ سِعَة لا تُقارن: بين خمسة ملايين وخمسة وثلاثين مليون نوْعٍ من الكائناتِ الحيوانيّة والنباتية، حسب تقديرات (التسعينيات). فالتقنيّة تعني أننا إزاءَ لغة مُفرطة، تتخثّر داخلها أنصافُ مفرداتٍ، تمثّل بدوْرها حصُوناً لغوية. إنّ اللّغات التقليديّة الثلاثة آلاف، المُتكلّم بها على الكُرة الأرضية هي في حالة انقراضٍ، وعشراتٍ منها فقط، معترفٌ بها عالميًا، وبالتالي تراجُع الأخرى إلى المستوى الثاني. وفي هذا الوقت فإنّ اللّغة (المصطلح) التقنية تعرفُ انفجارًا هائلا، بفعلِ تعدّد الاختصاص.
يعتقدُ الباحثُ الفرنسيُّ جُورج ريُو Georges RIEU مُدير أبحاثٍ في المركز الفرنسي للبحث العلمي CNRS والمتخصص في التكنولوجيا الدقيقة وعلم الذرّة لمدّة تفوق الثلاثين عامًا، أنّه نجحَ في وضْع أساسٍ للغةِ المُستقبل، بعد سنواتٍ من التفكير والبحث، وتدخلُ ضِمن “اللغات المُخادعة” كتلك التي ابتدعَها جورج أورْويل في روايته الشهيرة “1984”. وتتمثل هذه اللغة الجديدة في ابتكار أبجديّة من 5000 حرفٍ، تمثل رُموزًا وصُورًا بسيطة قادرةً على تحقيق التّواصل بشكل أسرع، وأنّها “لغةٌ دون كلماتٍ، أو نَحْوٍ. سريعة وقويّة وخلاّقة؟”
هي اللغة الفِطرية في دماغِنا. أطلق عليها اسم “فلاشْ برين Flash Brain”، أو اللغة الذّهنيّة ذات الطّبيعة السمعيّة والبصريّة.ويقرّ ريُو أنّ تصنيفَه تعسّفيّ بعض الشيء، وأنه سيواجهُ غضبَ اللغويين واللسانيين، ومع ذلك، فإنه يشدّد على ضرُورة وجُود أداة رائعة للمنبُوذين لغويّا: “هو نظامٌ عالميٌّ يتيحُ لكل فردٍ في العالم أن يستخدِم شبكة الإنترنت على سبيل المثال. إنها ميزةُ الإبداع والخيال، إنّه يُربّي الدّماغ”. وحتّى يواجه جُورج ريُو أيّ نفُورٍ أو رفضٍ لفكرته
يقول “يمكنُ مثلاً للفرنسيين أن يضحكُوا، لكنّني على الأقلّ فعلتُ هذا من أجل الأطفالِ والصمّ والبُكم”.إن حروبًا تبدُو صامتة، لكنها أكثر ضرَاوة عندما يتعلقُ الأمر بالسيّادة اللغويّة والهُوية الثقافية، ذكرتُ بعضها في هذا المقال ليدرك النّاس أنّ التفكير السياسي يتراجع كثيرًا عندما يشعر الساسة أنّ المجتمع مهدّد في وجوده الثقافي واللغويّ. من ذلكَ أنّ الشّيء الذي لم ينتبه إليه الناسُ هو ما تشهدُهُ الولايات المتحدة من نقاشٍ حول مكانة اللغة في المُجتمع الأمريكي، إذ أنّ حربًا تدور بعيدًا عن عيُون السّاسة، يخوضُها المفكرون خاصة. فالأصواتُ ترتفع للمطالبة بدسترَة اللغة الإنكليزية، كلغةٍ رسميّة، في ظلّ الصّعود القوي للإسبانية، وحتى للغات الجاليات الأخرى.
أفرَد المُفكر الأمريكي صامُويل هانتنغتون، جزءًا كبيرا لأزمة اللغة في الولايات المتحدة، ويُبدي تشاؤمًا صريحًا بشأنها، كونها تشكّل عنصرًا حاسمّا في بناء الهُويّة “البيضاء” كما يصفُها، فيقدّم نقدا مُباشرا للهجراتِ اللاتينية الأمريكية و”السّماح بتدريس اللّغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسميّة في العديد من المُدن في الولايات الأمريكية”، خاصّة أنهم يمثلون 12% من تعداد الشّعب الأمريكي، (والإحصاءاتُ تقول بأنهم في حدُود العام 2050 سيكونُون الأغلبيّة) فضلاً عن ارتباطِهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. ولا يخفي هنتنغتون قلقَه “الذّاتي” تجاه من ينادُون بإقرار اللّغة الإسبانية لغة ثانية رسميّة، ويرَى في ذلك أحد أخطر التّهديدات الموجهة للهُوية الأمريكية لأنه ينذرُ بتحوّل أمريكا لبلد ذي هُوية لغوية ثنائية إنكليزية-إسبانية. فهو يرَى أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي تسّببَ في عدَم تبلوُر عدوّ جديدٍ للولايات المتحدة يُسهم في التفافِ الأمريكيين حول هُويّتهم الوطنيّة، كلّ هذا أدّى إلى تراجُع مصادر الهُوية الأمريكية الرئيسَة، وهي الإثنيّة البريطانية والعِرق الأبيض والدّين المسيحي والثقافة الانكليزية – البروتستانتية.
فحسب هنتنغتون، كما جاء في مقال لعلاء بيُومي، سيكُون مستقبل أمريكا مع هُويّتها، إمّا بـ:
– فُقدان للهُويّة وتحوّل أميركا إلى مُجتمع متعدّد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القِيم السياسية الأساسية.
تحوّل أمريكا إلى بلد ثنائيّ الهُويّة (إنكليزي-إسباني) بفعل زيادة أعدادِ ونفُوذ الهجرات اللاتينية الأمريكية.- ثورة الأمريكيين البيض لقمْع الهُويات الأخرى، وهو احتمالٌ قائم.
– إعادة تأكيد الهُويّة الأمريكية من قبل الجميع، والنظر لأمريكا كبلد مسيحيّ تعيش به أقلياتٌ أخرى تتبعُ القيم الأنكلُو-بروتستانتية والتراث الأورُوبي والعقيدة السياسية الأمريكية كأساس لوحدةِ كافة الأمريكيين.
هذه الهواجسُ، التي عبّر عنها هنتنغتون بلغة صريحة، وبطرح رُؤية لا تراعي أدنَى محاذير التنوّع العرقيّ واللغويّ والدينيّ، من ضرُورة العودة إلى سيطرة البيض على مقادير الولايات المتحدة، كحقّ استعماري (..)، فقد أصدر المعهد الملكي الإسباني (إلكانُو) تقريرًا مفصلا عن مُستقبل اللغة الاسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، إنْ كانَ حوارًا أم صراع ثقافات، وهل أنّ اللغتان الانكليزية والاسبانية تتنافسان على المستقبل، فيعتبر هذا التقريرُ أنّ الاسبانية هي اللغة الثانية بعد الإنكليزية. إلاّ أن هذا الوضعَ لا يعني أنّ الأمر عاديّ، فهناكَ أسئلة جريئة تُطرحُ مثل: “هل ستختَفِي اللّغة الاسبانية كلغةِ تخاطُب؟ هل ستحافظ على وجُودها كلغة مزيجَه؟ أم هل سيأتي يومٌ تكون فيه اللغة الاسبانية إلى جانب الانكليزية في مُجتمع أمريكي مُزدوج اللغة والثقافة؟”.
ويخلُص التّقرير الذي نشرتْه صحيفة الزّمان في 2004 إلى أنّه “كلّما كان الوُجود الاجتماعيُّ للشّعب الناطق بالاسبانية، في الولايات المتحدة، أقوىَ، تكون الإمكانات أفضل لصالح حُدوث المزيج بين اللغتين والثقافتين”، وقد أُطلق اسم (هيسبانغليشHespan-english) أو Spanglish. على هذا التمازُج اللغويّ. فمن يجرؤ على إيقاف غليانِ اللغة؟.
هذه بعض الأفكار، استقيتُها من كتابي “انتحار الأبجدية: من بُرج بابل إلى أبراج مانهاتن”
(من كتاب أبوليوس يهرب من ظله)
صن نار
- ثقافياقبل 3 ساعات
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 3 ساعات
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 14 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يوم واحد
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟