منبـ ... نار

السياسة في “عشريّة الهذيان”… الحال والمآل

” السّياسة جعلت الناس ،في جميع الأزمان، مجانين أو متوحشين أو خطرين، وبكلمة واحدة، فاقدي عقل..”

نشرت

في

جريدة الصباح نيوز - الحصانة البرلمانية..متى يتمتع بها نواب الشعب وما هي  إجراءات رفعها؟

   إذا كانت السياسة هي السّعي المنظم من أجل اِمتلاك السلطة وطلب الطاعة في تدبير الشأن العام، عن طريق هيْئاتٍ أو حركاتٍ أو أحزاب اِنضوتْ تاريخيا تحت بُنىً اجتماعيّة مختلفة بدْءًا بالعشيرة والقبيلة، مرورا بالمدينة والإمبراطورية واِنتهاءً بالدّولة الحديثة، فإن السياسة إذن كنشاط إنسانيّ قد “ملأت تاريخ الكائن البشري” ولم يخْلُ منها تجمّع إنسانيّ على الإطلاق، وهذا ما جعل أرسطو يُعرّف الإنسان باعتباره “حيوانا سياسيّا”.

<strong>توفيق عيادي<strong>

هذا الترابط التاريخي الوثيق بين كلّ نواة اجتماعيّة والممارسة السياسية، هو ما دفعنا لرصد أسباب انصراف القاعدة الشعبيّة عن الاهتمام بالشأن السياسي، متابعة ومشاركة، مما أفرز حالة من اللامبالاة بكل ما يمتّ للسياسة والسياسيين بـِـصِلةٍ في مستوى الانخراط أو المشاركة أو المتابعة. بحيث تعاظمت في أوساط العموم والمثقفين (بدرجة أقلّ) حالة من العزوف العامّ والاستهجان والسخرية من معظم السياسيين. 

    حالة العزوف العامّة عن الاهتمام بالشأن السياسي تعود في تقدير الكثيرين إلى تراجع مستوى الثقة في الناشطين السياسيين كأحزاب أو كجمعيات مجتمع مدني يتقاطع فعلها بالضرورة مع الممارسة السياسية في السياق العام للبلاد (النقابات مثلا)… وضعف مستوى الثقة يبقى مُبرّرًا لأن الناشط السياسي أو ناشط المجتمع المدني – في الغالب الأعمّ – ينخرط في الممارسة السياسية داخل الأحزاب أو الجمعيات أو المنظمات من أجل أن يُحقّق ذاته  (ونعني بتحقيق الذات على غير معانيها الإنسانيّة-الوجوديّة، بل على صيغ النفعية الانتهازية) … بحيث تنحصر أهداف هذا “الفاعل” السياسي أو المدني، في تحقيق تقدّم على مستوى مساره الشخصي لإحراز مكاسب أو مناصب يُعبّر من خلالها عن ذاته ويُحَـسّن انطلاقا منها مواقِعه في درجات سلّم الفعل والقرار… دون أن يكون معنيّا حقيقة بالمساهمة كقوّة دافعة للبلاد نحو التقدّم والازدهار والنماء… يكفي أن يتقدّم هو كفرْدٍ على طريق تحقيق المنافع الذاتيّة حتى يكون الحزب أو الجمعية أو المنظمة قد حققت مُبتغاها الذي أنشِـئتْ من أجله.

هذه الرؤى القاصرة والمحدودة هي التي تسبّـبت في انحسار رغبة المواطنين ، وفئة الشباب منهم بالخصوص، في الالتحاق بالأحزاب والجمعيات وممارسة النشاط السياسي ضمنها. وجعلت من الأحزاب مجرّد حوانيت فارغة، “خاوية على عروشها” إلاّ من ذواتٍ أناواتها متضخّمة، تفرض نفسها وتسمّيها كقيادة… وحوّلت الممارسة السياسيّة في ذهن المواطن التونسي إلى مجرّد “اِسْتدْرار” للوجاهة والثراء، وهي عقليّة عبّر عنها طيف واسع من التونسيين بـ ” عقليّة الغنيمة ” في سياق عشريّة الهذيان المعمّم.

يبدو أن حالة العزوف هذه لا تحتاج إلى تأكيد ولا يختلف حولها مراقبان للشأن العام… ويمكن رصدها من خلال محاور عديدة، أوّلها قِلـّة المنخرطين وكثرة المغادرين لهذه الأحزاب، وثانيها انعدام (لدى بعض الأحزاب) وتراجع حادّ (لدى البعض الآخر) للأنشطة الحزبيّة التي تكتسي بُعدا شعبيا ووطنيّا وانحصار الفعاليات السياسية في ما يخصّ الإيديولوجيا الحزبيّة (مع تضييق المعنى في استخدام كلمة الإيديولوجيا)… أمّا ثالث محاور الرّصد فهو ضَعْف الإقبال الجماهيري على معظم الأنشطة التي تنظمها هذه الأحزاب وكيْفما كان نوعها أو هدفها، تكوينيا أو اِستقطابيا أو اِحتجاجيا، رغم ما يُرْصَدُ لها من جهد ومال ووقت.  وضعيّة الهذيان هذه أفرزت حالة من الإسهال الدائمة في تأسيس الجمعيات والأحزاب (أكثر من 240 حزب و24800 جمعية مدرجة بالسجل الوطني) حيث جاوز عدد الأحزاب مع مفتتح سنة 2023 مائتين وأربعين بعضها تناسل من أحزاب قائمةوّلها قِلـّة المن.

هذا العدد المهول من الأحزاب والذي لا يتناسب مطلقا مع التعداد السكاني ولا مع النموّ الاقتصادي ولا مع حاجات البلاد السياسية، حتى لو ربطنا هذا “السخاء” الحزبي بالمرجعيات الفكرية والإيديولوجية وتفصيلاتها الجزئية، سخاء يمكن تفسيره بمعطييْن اثنيْن، الأوّل أن قيادات بعض هذه الأحزاب مسكونة بوهْم الزعامة والرّيادة والقيادة، تحت وطأة السؤال الملحّ : لِما لست أنا الزعيم وأنا المقتدر؟ ويكون الجواب دائما ودون تنسيب: “أنا الزعيم” … ويبدأ عندها التأسيس، لِـتولدَ لديْنا أحزاب تحمل في طيّات ميلادها شهادة وفاتها واِضمحلالها، فلا يبقى منها سوى الاسم و”الزعيم” المؤسس وبعض مريدين … والمعطى الثاني هو أن قيادات هذه الأحزاب ومن فرط تضخّم أناواتها تُعطي لنفسها الحق التاريخي والأبدي في “الزعامة” وتختلِق لذلك حُجَجا ومبرّرات وإن تنوّعت أسبابها بين شرْعَنة هذا الحق بمـبادِرة التأسيس أو بالأسبقية الزمنيّة أو بالمسار النضالي التاريخي…

 وكلّها حجج تـُحِـيل على “عقل سياسيّ” يضيق بمفهوم التداول على المسؤولية والشراكة في ضبط الرؤية والحوار لوضع تصوّر لأفق سياسيّ حزبيّ… وذلك ما جعل من هذه الأحزاب بمثابة المنازل العائليّة، محكومة بعلاقات الأبوّة والبُنُوّة وتغيب عنها الممارسة السياسية المعقلنة… أو هي جزء من الملك الخاصّ تُوَرَّثُ وتوزّع المكاسب و المناصب فيها على الأبناء و الأنساب والأحباب… عقليّة الغنيمة والاستدرار هذه فتحت كل المنافذ أمام هذه الأحزاب على الفساد، فمارستْه وغضّت عنه الطرف وشجّعته وأخْلتْ سبيله وهذا الأمر بيّن جليّ من خلال فرض التعيينات وإبرام الصفقات وتمرير القوانين … وهكذا أصبح البرلمان مجرّد غرفة لتنسيق المصالح الحزبية الضيّقة أو حلبة صراع لتبكيت الخصوم- الأعداء وتعنيفهم، وهذا زاد من ترذيل الممارسة السياسية  وتحويلها إلى مجال للتندّر والسخرية والرّفض باعتبار حاصلها، الخداع في القوْل والعجز عن الفعل والضبابيّة في الرؤية والاستخفاف بمصالح عامّة الناس …

سياسة هذا حالها، فكيف سيكون مآلها ؟

بدأ المآل يتشكّل من خلال اِنتشار شعار : “حِلّ البرلمان ..” . وكان “الحلّ” عبارة عن بداية مرحلة سياسية جديدة تمّ خلالها نقل مركزة السلطة من الغرفة البرلمانية بـباردو إلى قصر الرئاسة بقرطاج… وقد اِسْتحْسن معظم التونسيين هذه الخطوة، ربّما لـوشائج تاريخيّة بين المواطن التونسي ومفهوم “الرئيس”…  سياسة الرئيس الجديدة عبّرت عن نفسها من خلال جملة من المحاور الأساسية على المستوى الداخلي والخارجي، أهمّها على الإطلاق داخليّا، أوّلا وضع حدّ لتغوّل حركة النهضة وعنجهيّة ائتلاف الكرامة وانتهازيّة حزب قلب تونس، ولم يكن من السّهل إزاحتهم إذ لا يخلو الأمر من مجازفة… وثانيا تعديل الإستراتيجيات الصحيّة في التعاطي مع جائحة “كورونا” بما ضمن أكثر توفير اللقاحات وحفظ صحّة التونسيين و التونسيات.

هذه المحاور كانت متلازمة مع الكثير من التفاصيل الأخرى وعلى أهمّيّتها وحساسيتها لدى المواطن التونسي ( غلاء الأسعار/مقاومة الفساد/ التهريب / الاحتكار ) وما اعْتراها من انتكاسات، بقيت مجرّد تفاصيل واِستأثرت المحاور الكبرى وحدها بتمثيل زاوية تقييم التونسيين لِسياسة الرئيس، وقد ظل دائما متقدّما على خصومه… أمّا خارجيّا، فإن الإعلان عن عودة الدولة التونسية إلى مُعْـتادها في اِنتهاج سياسة خارجية تنأى بها عن الانحيازات والكُـتل إقليميا ودوليّا، في مستوى الخطاب على الأقلّ. فكانت مسألة السّيادة الوطنيّة موضوعا دائم الحضور في تدخّلات الرئيس وغير قابل للاطّراح حسب رأيه مع عديد الأطراف الخارجية.

  لكن هذا الحياد في علاقة بالقضايا  المطروحة على المستوى الدولي لم يمنع تونس من التعبير عن موقفها وبلورة رؤية إزاء السياسة الدوليّة بصورة عامة، عبّر عنها الرئيس في واشنطن بمناسبة فتح نقاش حول إمكانية بناء “إفريقيا مزدهرة”، في كلمة تضمّنت الكثير من المعاني الإيجابيّة والإنسانيّة والآمِلة، والتي ليس بمستطاعنا إلاّ التقاطع معها ودعمها في ما يخص توصيف حالة النظام العالمي الراهن، والذي لا تخفى خافيته عن كل ذي عقل، من حيث بنية هذا النظام المحكومة بجشع الدول الكبرى في الحِيازة والاستثمار والاستئثار بمعظم خيرات العالم… ومن حيث مؤدّاه الذي أفضى إلى مزيد من التفقير والتداين والتجويع، لمعظم شعوب الدول الإفريقية… كما تضمّن خطاب الرئيس أيضا دعوة صريحة للقوى العظمى المعنيّة أكثر بروح هذا النظام (أمريكا) إلى إعادة التفكير في بناء نظام عالميّ جديد قوامه العدالة والتشاركيّة والديمقراطية التي “يعمّ أثرها الجميع”… فنكون عندها أمام اجْتراح طريق جديدة للسياسة العالمية، “… طريق جديدة نُعبّدها معا، وهذه الطريق لا يُمكن أن تـُـرْسَمَ من جانبٍ واحدٍ بل يجبُ أن نرسُمها مجتمعين.”…

 وكالعادة تعاطت المعارضة مع الخطاب بكثير من السخرية (رغم إدراكهم لمقبوليّته لدى عموم الشعب)، واستكثروا على الدولة التونسية أن يكون لها موقف من سياسة أمريكا للعالم (العولمة)… فهذا الشعب على فقره وتدايُنه وقلة حيلته، من حقه أن يأملَ في عدالة وديمقراطية “يعمّ أثرها الجميع” حتى ولو على سبيل الموقف والفرضيّة من أجل بناء نظام تتوزع فيه الأعباء والخيرات بالتساوي… النقطة المهمّة الثانية في محاور السياسة الخارجية للرئيس، هي كيفيّة تعاطيه مع صندوق النقد الدولي وإبدائه لمقاومةِ فرض الإصلاحات وضبط الخيارات السياسية والاقتصادية على الدولة التونسية من لدن الدول المانحة… وهذا الموقف رغم الضريبة التي دفعها الشعب في مستوى فقدان بعض المواد الأساسية والطاقيّة والتضحيات التي قدّمها الفقراء من أبناء الشعب، فإن ناتجُ هذه المقاومة لسطوة الصناديق الاستغلالية، تنضاف إلى رصيد الرئيس الذي قال “لا” لإملاءات الدّول المانحة، على عكس خصومه الذي أذعنوا وراهنوا على المانحين وارتهنوا لإملاءاتهم ورهنوا الشعب والدولة في مديونيّة مجحِفة.

محور آخر من محاور الفعل السياسي الذي يحظى باهتمام شديد لدرجة تعقيده وتقاطعه مع مجالات مختلفة، سياسية واقتصاديّة وأمنيّة وحقوقيّة، هو ملفّ الهجرة الذي أربك ضفّتيْ المتوسّط وحفّز أوروبا على مزيد الاهتمام به بدرجات متفاوتة… وقد أبدت تونس موقفا حاسما بخصوص هذا الملف وفي علاقة بنقطتيْن أساسيّتيْن هما رفض إعادة التوطين للمهاجرين أوّلا ورفض تحويل تونس إلى قاعدة إيطالية خلفية تحرس الحدود وتؤوي المهاجرين والمرحّلين، ثانيا…. موقف تونس هذا (ويُمثّله الرئيس) يحتاج إلى إسناد داخلي وإقليمي من أجل معالجة هذه “المعضلة” خارج حدود البعد الأمني المعتاد فقط …

    لقد أصبحت الساحة السياسيّة مجال فعْل  ومبادرة للرئيس، ومجال تدارُكٍ وردّ فعل -عدائيّ في معظم الأحيان- بالنسبة لخصومه… وهذا ما زاد من عزلة الأحزاب السياسية وعجزها ونفور الناس منها، وقد اِعتبرها الرئيس مجرّد أجسام وسيطة على كثرتها، وأقنع عامة الشعب أو كاد، بأن كثرة الوسائط هي فقط ترفيع في التكلفة. وصار مآل السياسة مع هذه الأحزاب  مآلا تعِسا  باعثا للشفقة والنكتة في الآن نفسه، حيث صارت قيادات بعض الأحزاب تصاب بحالات إغماء متكرّرة ( ترمي الدهشة)، وقيادات أحزاب أخرى استفحلت فيها الوعكات الصحيّة، وأحزاب أخرى، كلّما تكلّمت قياداتها غـمْغَمتْ وثرثرتْ دون أن تقول كلاما مفهوما ومعقولا…

  نصيحتي لهذه الأحزاب، كفّوا عن السلبيّة، فالأوطان لا تبنى إلاّ بالفعل الإيجابيّ …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الفلسفة بالمعاهد التونسية

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version