وهْجُ نار

الشعب التونسي بين سياسات الإلهاء … ووضعية “إهمال عيال” !

نشرت

في

الزعيم يلقي خطاب تهدئة إثر أحداث الخبز 1984

عشت مع أعظم رؤساء تونس على الإطلاق، وقد يختلف معي البعض في ما سأقول لأسباب سياسية او أيديولوجية أو حزبية أو حقدية، ولن ألوم أحدا عن اختلافنا فالاختلاف نعمة ولا يفسد للودّ قضية، كما أن الاختلاف ليس سببا أو مبررا للحقد، أقول عشت مع العظيم بورقيبة رحمه الله ولم أر في الرؤساء العرب زعيما يحب شعبه ويعمل من أجل ضمان مستقبله ومستقبل اجياله القادمة كبورقيبة، دون الحاجة لذكر أخطاء الزعيم، فلا أحد ممن حكموا العالم “معصوم” من الخطأ ولا أحد منهم سليل عائلة من الملائكة فلا أظنّ أن الملائكة في حاجة إلى حكم بلدان الأرض وهم من يعيشون في السماء…

<strong>محمد الأطرش<strong>

كما لم أر رئيسا وطنيا يريد خدمة بلاده وشعبه كالرئيس بن علي رحمه الله رغم ما قد يقوله عنه  من عارضوه أو من امتلأت صدورهم حقدا عليه لأسباب لا اراها كافية لتولد ذلك الشعور البغيض، فبن علي لم يترك مقابر جماعية كما تلك التي تركها بعض الزعماء العرب الذين يفاخر بهم بعض شعبنا ويرفعون صورهم في كل مناسبة يخرجون فيها للصراخ بشوارع العاصمة او غيرها من مدن البلاد…سيقول بعضهم الكثير من الكلام حول ما أكتبه اليوم، لكنهم لن يأتوا لي بدليل واحد يبرر حقدهم الدفين، غير رغبتهم في الاستحواذ على الحكم والتمتّع بغنائم الحكم…

بعضكم سيسأل ولم هذا الحديث اليوم عمّن حكموا البلاد وانقلب عليهم الشعب؟ سأقول الشعب لم يبحث يوما عن الانقلاب عليهم، ومعارضة بن علي لم تبحث يوما عن الانقلاب عليه بل جميعهم كانوا يبحثون عن الجلوس مكانه في الحكم، ويوم مكّنهم الغرب من فرصة الجلوس مكان بورقيبة وبن علي فشلوا وأوقعوا البلاد في ورطة ما نعيشه اليوم ولن يكون من السهل الخروج منها… سيقول بعضكم وهل نحن في ورطة مع من يحكمنا اليوم؟ أقول نعم نحن وخاصة بعد 25 جويلية نعيش أخطر مرحلة من تاريخ البلاد منذ هربت إلينا عليسة خوفا من بطش أخيها …اليوم سأحكي لكم عمّا فعله بن علي من أجل ألا يجوع بعض شعبه ممن لم تسنح لهم فرصة الحصول على مورد رزق قار…

بن علي كان هو أيضا يعلن عن حملات على الاحتكار والتهريب، لكنه لم يكن يقررها للتغطية عن فشل أو للتغطية عن عجز في التسيير… أو لتحويل وجهة الشعب من حدث على حدث آخر أقلّ تبعات على سلطاته وحكمه… أو للبحث عن مبررات أمر سيقرره…كما أنه لم يكن يقوم بها على كل من يرتزقون منها، بل كان يقاوم الاحتكار الحقيقي الذي يمس المواطن مباشرة في قوته، فهو لم يأمر يوما بحجز مخزون مخبزة حي أو قرية صغيرة في حاجة إلى أكثر من طن من الطحين يوميا، أو مخزون مصنع للمرطبات أو كمية من مخزون بائع مواد غذائية بالجملة… ولم يكن يلاحق المهربين الذين يرتبط تهريبهم بتوفير قوت صغارهم وعائلاتهم بل كان يغضّ الطرف عمن كان هدفهم العيش الكريم ولقمة عيش أطفالهم…

الرئيس بن علي كان يشترط ضمنيا ـ ودون أن يترك أثرا مكتوبا ـ على المهربين عدم المساس باقتصاد البلاد، بعدم تهريب بعض المنتجات التي تختصّ الدولة ومؤسسات الدولة بإنتاجها، وكان يمنع منعا كليا كل تهريب لمواد خطرة كالأسلحة والمخدرات وبعض العقاقير التي يقع استعمالها للتخدير، وكانت الدولة تغمض أعينها عن التهريب والتجارة الموازية التي لا تضرّ بالاقتصاد التونسي لتمكّن الشباب العاطل من توفير لقمة عيشه وعائلته…فبن علي رحمه الله كان يدرك أن الدولة ليست قادرة على تشغيل كل ذلك الكمّ من المتخرجين من جامعاتها، وكل ذلك الكمّ ممن لم ينجحوا في اكمال دراستهم الجامعية وانقطعوا باحثين عن مورد رزق، فكان لا يتشدّد مع من يمارسون التجارة الموازية التي لا تمس بالاقتصاد الوطني…فالتشدّد في ملاحقة المهربين ومن يمارسون التجارة الموازية له مساوئه وسلبياته أيضا… وقد يتحوّل إلى سبب في تجويع عشرات الآلاف من العائلات التي تعيش من التهريب والتجارة الموازية، وقد يصبح سببا مباشرا أيضا في انتشار عمليات “الحرقة” إلى شمال المتوسط، كما قد يتحوّل إلى عامل رئيسي في انتشار الجريمة، فالتجارة الموازية ومنذ أكثر من أربعة عقود تشغّل مئات الآلاف من سكّان المناطق الحدودية شرقا وغربا وتغطّي نسبة كبيرة من عجز الدولة في توفير موارد رزق للعاطلين عن العمل… وتساهم في تخفيض نسبة كبيرة من الاحتقان الاجتماعي في العديد من الولايات الحدودية…

واليوم ونحن نعيش حربا شاملة على كل من يتحرك من أرباب التجارة الموازية والاحتكار هل فكّرت الدولة في تبعات ما تأتيه وفي من ستحرمهم من مورد رزقهم الوحيد؟؟ فإن حجزت الدولة بضاعة تقدّر قيمتها بالمليارات من أحد المهربين فلتعلم أنها بذلك حرمت مئات العائلات من مورد رزقهم الوحيد الذي لم توفره لهم الدولة بل هم من نجحوا بوسائلهم ومعاناتهم في توفيره وتطويره…وسيصبح بعضهم غدا مجرما … قاطعا للطريق… وقد يصبح عبئا على بعضنا الآخر… وقد ينحرف ليكون عنصرا خطيرا نلاحقه  شمالا وجنوبا وبين الجبال درءا لما قد يفعله بالبلاد وبخيرة رجال أمننا وجيشنا الوطنيين…وإن نجحت الدولة في حجز مواد أساسية بحجة الاحتكار فعليها أن تعلم أيضا، انها تحرم بما أتته عشرات العائلات من مورد رزقها الوحيد، وقد يتحوّل بعض الفاقدين لمورد رزقهم ذلك إلى لصوص أو إلى خارجين عن القانون أو حتى إلى إرهابيين يريدون الثأر من دولة حرمتهم من أبسط حقوقهم…والسؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذا الوضع الذي نعيش هل حقّا نحن في حاجة إلى هذه الحرب المعلنة ضدّ كل من يتحرّك في قطاع التجارة الموازية والاحتكار والتهريب، فقط لمجرّد التغطية عن فشل فظيع وواضح للعيان في شأن من شؤون الدولة ومما وعدنا به الشعب ؟

أظنّ أن الشعب اليوم وأكثر من أي وقت مضى يعلم أن البلاد في مأزق قد لا تخرج منه سريعا، وقد يكلفنا غاليا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وأنها أيضا على حافة الإفلاس رغم تعنت من يجلسون على كراسي الحكم في الكشف عن حقيقة الأوضاع الاقتصادية…وأظنّ أن الشعب ليس في حاجة لمن يكشف له أسباب هذا الانهيار الاقتصادي والسياسي بالبلاد، فهذه الأوضاع التي تمرّ بها تونس اليوم لم يألفها الشعب بهذا الحجم سابقا، لذلك على من وعد وخطب وصرخ مفاخرا بما انجزه والحال أنه لم ينجز شيئا أن يخرج ليقول حقيقة ما نحن فيه وعليه أن يلملم بعض شجاعته ليقول “أخطأت” فالخطأ ليس عيبا ولا جريمة فجميع من حكموا البلاد أخطؤوا وتجاوزوا الخطأ الذي وقعوا فيه بالعودة إلى ما ينفع البلاد والعباد…

كل من حكموا البلاد بعد خروج بن علي رحمه الله يقولون عن هذا الشعب “شعبنا” وبعضهم يفاخر بقول “أبنائي” وغير ذلك من تعابير القرب واستجداء أصوات هذا الشعب المخدوع… فهل بما يأتونه من قطع أرزاق بعض هذا الشعب يحقّ لهم غدا طرق باب هذا الشعب طمعا في أصوات بعضه للبقاء جالسين على كراسي الحكم والسلطة؟ هؤلاء يعتبرون البلاد ملكا لهم يفعلون بها ما يريدون و كيف يريدون …ويعتبرون الشعب عائلتهم والشباب من جملة أبنائهم، هكذا هم اليوم يخطبون في شعبهم حسب قولهم…فهم يعدونه بالأمن والأمان… ويبشرونه بالقضاء على البطالة… وبالخروج من الفقر والخصاصة …هكذا هم يقولون ويصرخون ويخطبون… أليست البلاد كالزوجة بالنسبة لمن يحكمها؟ أليس حاكمها هو من يتكفل بإعاشتها وبالسهر والعمل من أجل تحقيق كل ما تريده وتطمح إليه؟ أليس الحاكم بمثابة الأب لكل أبنائها وبناتها؟ ألا تستحق الدولة التي هي بمثابة الزوجة لمن يحكمها النفقة والرعاية الكاملة في كل شؤونها وشؤون أبنائها من زوجها؟ ألا تشمل النفقة تكاليف الغذاء والمسكن واللباس وتوفير مورد رزق لكل أبنائها دون تمييز والعلاج ومصاريف العلاج، بالإضافة للعديد من المصاريف الحياتية الأخرى؟ ألا تعدّ النفقة من بين الآثار المترتبة عن الزواج أو عن الوصول إلى كرسي الحكم في حالتنا هذه؟ فالشعب انتخب رئيسا ليحكمه، لكن أيضا ليكون الساهر والمسؤول الأول عن توفير كل احتياجاته وحمايته من كل نوائب الدهر.

 فهل يصبح الحاكم في صورة التقصير في أداء واجباته مع زوجته وأبنائه محلّ شبهة وعرضة للمؤاخذة؟ وهل يحقّ للشعب أن يرفع قضيّة بحاكمه بتهمة “إهمال عيال”؟ أم هل نطالب أمّنا برفع قضيّة في الطلاق قبل موعد الانتخابات؟ فالحرب على الاحتكار والتهريب لا يجب أن تنقلب إلى غزوة لقطع الارزاق؟ وهل أصبح الحصول على “كيلو فارينة” أمّ معاركنا وهدفنا الأسمى؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version