الطرح الجهوي من نوع هذا ساحلي و الا صفاقسي و الآخر زيرو ويت و الا “كا جي بي” و الا صحراوي و هذا بلدي و هذا من الريف وهذا ولد العرش الفلاني و غيره ولد المنطقة الفلانيّة …
كل هذه الأساليب من الوصم أرفضها و أحاول أن أعوّد نفسي على رفضها رغم أني لا أنكر على أيّ كان شعوره بفخر الانتماء إلى جهته لكن دون أن يبلغ درجة الثلب و التشويه لغيرها من المناطق و تكريس مشاعر الغبن و المظلوميّة بين أبنائها ..
هذه النّزعة الجهوية التي كلما حاولنا وأدها عادت من جديد و أطلّت بفتنتها عبر الرّياضة و السّياسة و حتى العمل و الزّواج و كم من قلوب تحطّمت و علاقات دُمّرت بسبب الجهويات …
لا أنكر أنيّ مثلي مثل غيري عند إعلان نتائج الباكالوريا أشعر بفخر الانتماء إلى صفاقس التي حافظت و تحافظ على تصدرها لنسب النجاح الوطني منذ الستينات و لكنّه فخر لا ينسب ذلك التفوّق إلى كون الصّفاقسيّة أذكى من باقي الشعب أو أنّ في جيناتهم انزيمات التّفوّق، و لا يحقّر من الجهات الأخرى و لا من نتائج أبنائها.
بل هو فخر يدعو إلى البحث و التفكير في أسبابه خاصة عندما نتابع خارطة الولايات المتصدرة للترتيب سنويّا فهذا التفوّق لجهات أغلبها جهات ساحلية يستدعي من المختصين دراسات نفسيّة و اجتماعيّة و اقتصاديّة و ثقافيّة و أنثروبولوجيّة و بيئيّة و ديموغرافيّة وحضاريّة للتعرّف على أسباب التفاوت … ثمّ إنّه من الضروري أن نبحث أيضا عن أسباب هذا التفاوت بين معتمديات الولاية الواحدة فإذا كانت النتائج باهرة و نسب النجاح تتجاوز الثمانين بالمائة في عديد المعاهد بمركز الولاية و معتمديات صفاقس المدينة مثلا فإنّ النّتائج في باقي معتمديات صفاقس أقل بكثير من معدّل النتائج بصفاقس عموما و من المعدّل الوطني و لا تختلف كثيرا عن معدلات النتائج في الولايات التي تتذيّل الترتيب الوطني …
بل أكثر من ذلك فإنّ هذا الفخر سرعان ما يتلاشى حين أفكّر أوّلا في معاناة شباب صفاقس و ما يعيشونه من حرمان من الحياة بمعناها الحقيقي فلا مسارح و لا دور سينما ولا مدينة رياضيّة و لا متاحف و لا أماكن للترفيه … إلى جانب الضغوط النّفسيّة المسلّطة عليهم من العائلات حيث أصبح التميّز الدراسي مصدرا من مصادر فخر الأسرة و تباهيها و وجاهتها في مجتمعها المضيّق و داعيا من دواعي الضغط على الأبناء و تحميلهم مسؤولية قد تفوق طاقتهم حين تخصّص أغلب موارد الأسرة لدراستهم، و ما ازدهار سوق الدروس الخصوصيّة و نشاط مراكز اللغات و الدّعم و المراجعة إلا خير دليل على ذلك فصار هدف أبناء صفاقس النّجاح و التفوّق من أجل تحقيق الحلم الأسري من جهة و من أجل تحقيق الحلم الفردي من جهة أخرى، فلا هدف لأبنائها غير التفوّق من أجل مغادرتها و العيش و الدراسة بعيدا عنها ….
و حين أفكّر ثانيا في وضع صفاقس المهمّشة و ما يعانيه سكّانها من صعوبات معيشيّة جمّة فالبنية التّحتيّة لا توحي بأي تفوّق و هي تتدهور من عام إلى أخر و لا أحد يصدّق أنّ صفاقس هي المدينة الثانية بعد العاصمة بعد أن صارت ريفا كبيرا لما تعيشه من إهمال يبدو متعمّدا في أحيان كثيرة، و جميعكم يعلم مشكل الزّبلة في صفاقس الذي لم يحلّ منذ سبتمبر الماضي … هذا فضلا عن الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي و انقطاع المياه المزمن الذي يعاني منه حوالي نصف سكان الولاية … فبماذا أفادها هذا التصدّر للنسب الوطنيّة ؟ و ما الذي حققه لها من إضافة ؟
و حينها قد أجد مبررا لبعض الصفاقسية في فخرهم المبالغ فيه بهذا التفوّق الذي يحققه أبناؤنا في الباكالوريا باعتباره نوعا من إثبات الوجود و انتزاع الاعتراف و نوعا من الانتفاض على واقع الولاية المتدهور …