تابعنا على

جور نار

العربيّة العُليا والعاميّة السّفلى

نشرت

في

د الطاهر الخميري

لكل شعوب العالم لهجاتها المحلية ولكل المهن والحِرف خطابها المخصوص ولكل عصر أثره في مجال تطوير اللغة باعتبارها كائنا حضاريا يتطور حسب نسق انفتاح متكلّميها على العالم من حولهم…

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

ولكن الشعوب والأمم تحرص دائما على صَوْن لغاتها الوطنية و”التدريب على تكلم لغة مُوحّدة وخاضعة الى قواعد معلومة وبالتالي تثبيت اللغة في طهوريتها التقليدية حماية لها من غزو اللغات المحلية والتأثّر باللغات الوافدة” كما يقول اللغويّون. ويبدو أنه في وضعنا نحن العرب والتونسيين بصورة خاصة تبدو الهوّة بين العامية والفصحى آخذة في الاتّساع المُريع خاصة لدى الشباب بما يُقلّص من إمكانيات الاستفادة من العربية الأصل واكتساب القدرة على تعاطيها شفاهة وكتابة.

عُدت إلى كتاب تونسي أعتبرُه مرجعا أساسيا في هذا المجال لصاحبه الدكتور الطاهر الخميري* “دراسات في اللغة والمصطلح” (نشر وزارة الثقافة 1998 تحقيق وتقديم الأستاذ حفناوي عمايرية) باعتباره كان من أكثر المُنادين حرصا على ضرورة التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة.

يقول الطاهر الخميري “كتب بعضهم عن رجل يخرج من بيته صباحا ويعود مساءً، كالآتي :  كان ينسلّ من كوخه مع الفجر قبل أن تذرّ ذكاء قرنيها من المشرق، ويعود إليه مع حُمرة الشّفق حين تصبغ المغرب بلون قان” (ورد ذلك في جريدة العمل،نوفمبر سنة 1956)، معتبرا هذه الجملة “عربية عُليا تُقبَل من بعض الشعراء في بعض الأحوال ولا تُقبل من غيرهم ، ثم يُضيف “وفي الشّهر نفسه سمعنا من محطة الاذاعة التونسية عدة تعابير من نوع الفرّادي والحْنَيْنات ووِلْد الآمّيمة وفي سْراه…وهي عاميّة سُفلى قد انقرضت طبقة المتكلمين بها أو كادت”.

ويميل الدكتور الخميري الى الحديث عن التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة لا “العامية والفصحى”، مستنجدا بأحمد أمين الذي يقول “ولعل من أهم المشاكل التي تواجه العالم العربي الآن استخدامه لغتين : عامية وفصيحة والفرق بينهما كبير يستعمل احداهما في البيت وفي الشارع وفي المجالس ويستعمل الاخرى في الكتابة والقراءة، ولم تنجح أي محاولة في التقريب بينهما وهذا ضعف في اللغة الفصحى لانها لم تكتسب الحيوية التي تأتي عن طريق الاستعمال اليومي وأضعَفَ اللغة العامية لأنها لم تستفد مما ينتجه الادباء والشعراء…”

وفي السياق التونسي، وتأكيدا على ما ذهب إليه أحمد أمين، فإن عربيتنا الفصحى (المُعربة) ظلت جامدة لا يُتقنها ولا يتكلّمها بطلاقة وألق يُحبّبان الناس في عذب كلماتها وموسيقاها إلا نخبة قليلة من الناس وبالتالي هي فاقدة للــ “حيوية التي تستمدها من الاستعمال اليومي” والعامية في المقابل زادت هجانة لأنها “تزدري الشعر والأدب وحرير الكلام” ويعتبر معتنقوها ذلك ضربا من الفكه والتّعالي و”الكلام بالفُقهي” الذي يستبطن احتقارا لعامّة الناس. وعليه فإن الطموح إلى رؤية المسافة تتقلص بين الفصحى والعامية مازال صعب المنال ومطلبا ستتعب لأجله الأجيال القادمة.

ولقد زادت الأزمة تعقيدا الحملات الإشهارية التي تكتب في أغلب الأحيان بعامية ساذجة وسوقية ممجوجة وكذلك المسلسلات التلفزية التي تنهل هي الأخرى من عامية القابادجية ولغة القجمي، أضف إليهما كلمات بعض الأغاني التونسية التي عمّقت أزمة الفصحى وعزّزت مكانة العامية المغرقة في حومانيتها.

فهذا شبابنا المدرسي وحتى الجامعي أصبح يتكلم لغة لا تجدها لا في لسان العرب ولا في أساس البلاغة ولا في معجم تهذيب اللغة ولا في مختار الصّحاح… لغة مستهجنة تؤثّثها مصطلحات مُستعجنة من قبيل مريقل ويعكْعكْ حالّة معاه ويسلّكها في الامتحان ومفوّلة ومطفّيها ويعملّو كمّوسة ومشّي دنّوس ويقحّف … زادتها طراوة نهديّات السيدة واو المتضمنة لــ500 نهديّة شعرية و”حشمت كيفاش باش يشوف الحرقة اللي في ساقي بالكشي تزوغبو” للسيدة الفازع.

في الشعر والموسيقى : صُوَر تُخاطب القلب والعقل والوجدان وأخرى تستدعي ما نشترك فيه تماما مع الحيوان.

عندما نقرأ ما كتب الشاعر أمين الجندي الحمصي:

وَمِلتُ لِرَشف مَبسَمِه فَنادى (لاحظوا التعفّف باستعمال ضمير المذكّر)

ألسْتَ بِصائِمِ فَأَجَبتُ لالا

رَأَيت هِلال وَجهِكَ قَد تَلالا

فَكانَ بِهِ اِسم مُفتي حِمص فالا

أَصوم وَقَد شَهِدتُ هِلال عيدي

فَكَيفَ يَصوم مِن شَهد الهِلالا  ؟

أو ما غنّى مارسيل خليفة :

أحبك حب القوافل واحة عشب وماء وحب الفقير الرغيف.

أو ما وهبه لسان الدين بن الخطيب للفنانة العظيمة فيروز :

جاءت معذبتي في غيهب الغسق كأنها الكوكب الدُّري في الأفق، فقلت نورتني يا خير زائرة، أما خشيت من الحُرّاس في الطرق؟ فجاوبتني ودمع العين يسبقها : من يركب البحر لا يخشى من الغرق.

 أو ما أتاه الروائي المغربي محمد الشّركي في كتابه “العشاء السفلي”: “في تراب جسدها يعرش النعناع البري للكلام”

وكذلك: أمرّ باسمك إذ أخلو إلى نفَسي كما يمر دمشقيّ بأندلسِ – هنا أضاء لكِ الليمون ملح دمي وها هنا وقعت ريح عن الفرَسِ لسيد الكلمات محمود درويش.  

عندما نقرأ كل هذا وغيره، وهو موغل في الحب والرغبة والشّغف والعشق ولكن بكثير من أناقة الحرف وبدعة الأسلوب ونُبل المشاعر، نكتشف حجم الهوّة السحيقة بين السجلّيْن والتي لن تُجسَّر قبل عدّة عقود أو قرون أخرى…لأن الضفّة الأخرى جعلت من قاموس “الزبلة في بوبالة” و”يشاطي ويباطي” و” عطرك فوّاح وتفاحك ياسر لوّاح” و “ما تلعبشي معانا لعب الخرشف مع البهايم” و “أمان أمان يا ددّو…” الخ… السّقف الأعلى الحاضن لكل إبداعاتها.

العديد من شبابنا المتأثّر بالهيب هوب ومناخات الراب لا يُدرك بشكل جيد أن فجاجة اللغة (تماما كما السلوك والهندام والمواقف) هي عامل مُنفّر في عالم الصداقة والودّ مقارنة باللغة الوسيمة والتي لا تُكتسبُ خارج دوائر الثقافة المُضنية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. الطاهر الخميري (1899- 1973): أديب و باحث و مترجم تونسي من كبار الرواد، من مؤلفاته:

بالإنكليزية : “زعماء الأدب العربي الحديث” 1930 –  “كتابات حول تونس وليبيا” 1947 و الإثنان صدرا بلندن.

بالألمانية : “مفهوم العصبية في فكر ابن خلدون” 1936 (أطروحة دكتوراه) – قاموس ألماني-عربي (بالاشتراك).

بالعربية : مرآة المجتمع – مكافحة الثقافة- تحقيق إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان- منتخبات من الأمثال العامية التونسية – قاموس العادات والتقاليد التونسية، ترجمة مسرحية هاملت، عطيل الخ…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار