جور نار

العربيّة العُليا والعاميّة السّفلى

نشرت

في

د الطاهر الخميري

لكل شعوب العالم لهجاتها المحلية ولكل المهن والحِرف خطابها المخصوص ولكل عصر أثره في مجال تطوير اللغة باعتبارها كائنا حضاريا يتطور حسب نسق انفتاح متكلّميها على العالم من حولهم…

<strong>منصف الخميري<strong>

ولكن الشعوب والأمم تحرص دائما على صَوْن لغاتها الوطنية و”التدريب على تكلم لغة مُوحّدة وخاضعة الى قواعد معلومة وبالتالي تثبيت اللغة في طهوريتها التقليدية حماية لها من غزو اللغات المحلية والتأثّر باللغات الوافدة” كما يقول اللغويّون. ويبدو أنه في وضعنا نحن العرب والتونسيين بصورة خاصة تبدو الهوّة بين العامية والفصحى آخذة في الاتّساع المُريع خاصة لدى الشباب بما يُقلّص من إمكانيات الاستفادة من العربية الأصل واكتساب القدرة على تعاطيها شفاهة وكتابة.

عُدت إلى كتاب تونسي أعتبرُه مرجعا أساسيا في هذا المجال لصاحبه الدكتور الطاهر الخميري* “دراسات في اللغة والمصطلح” (نشر وزارة الثقافة 1998 تحقيق وتقديم الأستاذ حفناوي عمايرية) باعتباره كان من أكثر المُنادين حرصا على ضرورة التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة.

يقول الطاهر الخميري “كتب بعضهم عن رجل يخرج من بيته صباحا ويعود مساءً، كالآتي :  كان ينسلّ من كوخه مع الفجر قبل أن تذرّ ذكاء قرنيها من المشرق، ويعود إليه مع حُمرة الشّفق حين تصبغ المغرب بلون قان” (ورد ذلك في جريدة العمل،نوفمبر سنة 1956)، معتبرا هذه الجملة “عربية عُليا تُقبَل من بعض الشعراء في بعض الأحوال ولا تُقبل من غيرهم ، ثم يُضيف “وفي الشّهر نفسه سمعنا من محطة الاذاعة التونسية عدة تعابير من نوع الفرّادي والحْنَيْنات ووِلْد الآمّيمة وفي سْراه…وهي عاميّة سُفلى قد انقرضت طبقة المتكلمين بها أو كادت”.

ويميل الدكتور الخميري الى الحديث عن التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة لا “العامية والفصحى”، مستنجدا بأحمد أمين الذي يقول “ولعل من أهم المشاكل التي تواجه العالم العربي الآن استخدامه لغتين : عامية وفصيحة والفرق بينهما كبير يستعمل احداهما في البيت وفي الشارع وفي المجالس ويستعمل الاخرى في الكتابة والقراءة، ولم تنجح أي محاولة في التقريب بينهما وهذا ضعف في اللغة الفصحى لانها لم تكتسب الحيوية التي تأتي عن طريق الاستعمال اليومي وأضعَفَ اللغة العامية لأنها لم تستفد مما ينتجه الادباء والشعراء…”

وفي السياق التونسي، وتأكيدا على ما ذهب إليه أحمد أمين، فإن عربيتنا الفصحى (المُعربة) ظلت جامدة لا يُتقنها ولا يتكلّمها بطلاقة وألق يُحبّبان الناس في عذب كلماتها وموسيقاها إلا نخبة قليلة من الناس وبالتالي هي فاقدة للــ “حيوية التي تستمدها من الاستعمال اليومي” والعامية في المقابل زادت هجانة لأنها “تزدري الشعر والأدب وحرير الكلام” ويعتبر معتنقوها ذلك ضربا من الفكه والتّعالي و”الكلام بالفُقهي” الذي يستبطن احتقارا لعامّة الناس. وعليه فإن الطموح إلى رؤية المسافة تتقلص بين الفصحى والعامية مازال صعب المنال ومطلبا ستتعب لأجله الأجيال القادمة.

ولقد زادت الأزمة تعقيدا الحملات الإشهارية التي تكتب في أغلب الأحيان بعامية ساذجة وسوقية ممجوجة وكذلك المسلسلات التلفزية التي تنهل هي الأخرى من عامية القابادجية ولغة القجمي، أضف إليهما كلمات بعض الأغاني التونسية التي عمّقت أزمة الفصحى وعزّزت مكانة العامية المغرقة في حومانيتها.

فهذا شبابنا المدرسي وحتى الجامعي أصبح يتكلم لغة لا تجدها لا في لسان العرب ولا في أساس البلاغة ولا في معجم تهذيب اللغة ولا في مختار الصّحاح… لغة مستهجنة تؤثّثها مصطلحات مُستعجنة من قبيل مريقل ويعكْعكْ حالّة معاه ويسلّكها في الامتحان ومفوّلة ومطفّيها ويعملّو كمّوسة ومشّي دنّوس ويقحّف … زادتها طراوة نهديّات السيدة واو المتضمنة لــ500 نهديّة شعرية و”حشمت كيفاش باش يشوف الحرقة اللي في ساقي بالكشي تزوغبو” للسيدة الفازع.

في الشعر والموسيقى : صُوَر تُخاطب القلب والعقل والوجدان وأخرى تستدعي ما نشترك فيه تماما مع الحيوان.

عندما نقرأ ما كتب الشاعر أمين الجندي الحمصي:

وَمِلتُ لِرَشف مَبسَمِه فَنادى (لاحظوا التعفّف باستعمال ضمير المذكّر)

ألسْتَ بِصائِمِ فَأَجَبتُ لالا

رَأَيت هِلال وَجهِكَ قَد تَلالا

فَكانَ بِهِ اِسم مُفتي حِمص فالا

أَصوم وَقَد شَهِدتُ هِلال عيدي

فَكَيفَ يَصوم مِن شَهد الهِلالا  ؟

أو ما غنّى مارسيل خليفة :

أحبك حب القوافل واحة عشب وماء وحب الفقير الرغيف.

أو ما وهبه لسان الدين بن الخطيب للفنانة العظيمة فيروز :

جاءت معذبتي في غيهب الغسق كأنها الكوكب الدُّري في الأفق، فقلت نورتني يا خير زائرة، أما خشيت من الحُرّاس في الطرق؟ فجاوبتني ودمع العين يسبقها : من يركب البحر لا يخشى من الغرق.

 أو ما أتاه الروائي المغربي محمد الشّركي في كتابه “العشاء السفلي”: “في تراب جسدها يعرش النعناع البري للكلام”

وكذلك: أمرّ باسمك إذ أخلو إلى نفَسي كما يمر دمشقيّ بأندلسِ – هنا أضاء لكِ الليمون ملح دمي وها هنا وقعت ريح عن الفرَسِ لسيد الكلمات محمود درويش.  

عندما نقرأ كل هذا وغيره، وهو موغل في الحب والرغبة والشّغف والعشق ولكن بكثير من أناقة الحرف وبدعة الأسلوب ونُبل المشاعر، نكتشف حجم الهوّة السحيقة بين السجلّيْن والتي لن تُجسَّر قبل عدّة عقود أو قرون أخرى…لأن الضفّة الأخرى جعلت من قاموس “الزبلة في بوبالة” و”يشاطي ويباطي” و” عطرك فوّاح وتفاحك ياسر لوّاح” و “ما تلعبشي معانا لعب الخرشف مع البهايم” و “أمان أمان يا ددّو…” الخ… السّقف الأعلى الحاضن لكل إبداعاتها.

العديد من شبابنا المتأثّر بالهيب هوب ومناخات الراب لا يُدرك بشكل جيد أن فجاجة اللغة (تماما كما السلوك والهندام والمواقف) هي عامل مُنفّر في عالم الصداقة والودّ مقارنة باللغة الوسيمة والتي لا تُكتسبُ خارج دوائر الثقافة المُضنية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. الطاهر الخميري (1899- 1973): أديب و باحث و مترجم تونسي من كبار الرواد، من مؤلفاته:

بالإنكليزية : “زعماء الأدب العربي الحديث” 1930 –  “كتابات حول تونس وليبيا” 1947 و الإثنان صدرا بلندن.

بالألمانية : “مفهوم العصبية في فكر ابن خلدون” 1936 (أطروحة دكتوراه) – قاموس ألماني-عربي (بالاشتراك).

بالعربية : مرآة المجتمع – مكافحة الثقافة- تحقيق إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان- منتخبات من الأمثال العامية التونسية – قاموس العادات والتقاليد التونسية، ترجمة مسرحية هاملت، عطيل الخ…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version