منذ اسبوعين اتصلت بي فرح: ماما، أرجوك، أتوسل إليك أن تتفرغي لبنجي يوم الاثنين من التاسعة صباحا حتى العاشرة، فأنا ووالده لا نستطيع ايصاله إلى أول حصة من درس السباحة…تظاهرت بأنني قبلت العرض بامتعاض من باب الدلال، علما بأنني سأضرب جدول أعمالي بعرض الحائط عندما استطيع أن اقضي ساعة مع بنجي…طفل غريب عجيب، حباه الله بروح النكتة وخفة الظل!…أتصلت أمه مرة أخرى أثناء الحصة الأولى: ماما، نسيت أن أقول أنني سجلت بنجي في صف “مبتدئ متقدم” لأنني لم أجد مكانا له في صف “المبتدئين”، ولذلك أعتقد أن المعلمة ستحس أنه لا يجيد السباحة، وقد تسحبه من الدرس!
فصحت بها: لا تقلقي، يبدو لي أنه أفضل واحد بين أطفال صفه…لقط بنجي عبارتي وتعلق بها كطوق للنجاة!
سألته أمه في البيت: كيف كان درس السباحة اليوم؟ رد بدون أدنى تردد: لقد كنت الأفضل!
عادت تسأله: كيف عرفت؟ قال: تاتا قالت ذلك!
ظل بنجي اسبوعين متعلقا بما قالته التاتا وفخورا به، ويكرر: أنا الأفضل! زارتهم جدته الأخرى، فتح لها الباب قائلا: أنا أفضل سبّاح، هذا ما قالته التاتا!
……….
اليوم أرسلت لي فرح رسالة على الموبايل: ماما أعزّيك، لقد رسب بنجي في صفه، ولكنه مازال مصرّا أنه الأفضل وأجبرنا على الذهاب إلى مطعمه المفضل كي نحتفل بكونه الأفضل!
وأرفقت رسالتها برسم كاريكاتوري لوجه غارق في الضحك!
……….
عادت بي قصة بنجي إلى يوم كنت في الصف الثاني الابتدائي… كان استاذنا علي حسن، رحمه الله، مشهورا بحبه للنوم… وكان كلما أراد أن يأخذ غفوة يطلب منا أن نتلهى برسم شيء ما.
إحدى المرات طلب أن نرسم تفاحة، ثم غرق في شخيره…
أفاق على صيحانا بعد وقت، وراح يتمشى بين المقاعد ويتفحص كل واحد على حدة..مرّ بجانبي، ثم نكزني برأسي (لعلمكم مازال مكان نكزته يؤلمني، فالرضوض النفسية لاتشفى) وقال: يا حمارة، عمرك شفتِ تفاحة بنفسجية؟؟
لا أعرف ما الذي خطر ببالي كي ألوّن تفاحتي بالنفسجي، قد تكون عفوية وبراءة الطفولة ليس إلاّ!
لكنه في تلك اللحظة قتل وإلى الأبد حبي للرسم، وقتل معه أية موهبة كادت تنمو!
لا أعرف حتى اليوم أن أرسم خطا مستقيما، وأتجنب ـ باللاوعي ـ كل مناسبة تذكّرني بفشلي هذا!
……….
قصة أخرى عشتها منذ سنوات أعادتني إلى تجربتي المؤلمة مع الاستاذ علي حسن…كنت أتمشى في شارع الشانزليزيه بباريس مع دليلي السياحي، فاقترحت علي أن تأخذني إلى فندق “الفصول الأربعة” لأنه متميز بطريقة ترتيب الزهور والورود في بهوه وفي مداخله…
لفتت نظري مزهرية وتسمرت أمامها لمدة طويلة…ليست أزهارها هي التي جذبتني، ولكن الطريقة الغريبة العجيبة التي رُتّبت بها تلك الأزهار…الفنان الذي صفها قرر أن يضع الأزهار في الماء وسيقانها خارج المزهرية في الهواء… تساءلت: ماهي نوعية البيئة التي تربى بها هذا الفنان، ليكون حرا في إبداعه إلى هذا الحد؟؟
لا شك أن استاذه لم ينكزه برأسه ويقول له: يا حمار هل رأيت في حياتك مزهرية تحوي أزهارا في الماء وسيقانها في الهواء؟؟؟
……….
الإبداع باختصار شديد جدا هو أن تكون حرا إلى حد أن تلون التفاحة بالنفسجي، وان تضع الأزهار داخل الماء وسيقانها خارجه…الإبداع يحدث عندما يقول لك أحدهم في طفولتك: أنت أفضل سباح، ولو كانت المرة الأولى التي تنزل فيها إلى المسبح!
……….
يقول بيكاسو: قالت لي أمي إذا أصبحت رجل دين ستكون بابا الفاتيكان، وإذا انخرطت في الجيش ستكون جنرالا…وبناء على قولها اخترت الرسم وأصبحت بيكاسو!
……….
أيضا يُقال: إن عمر بن الخطاب كان مشهورا بدرّته ـ الدرّة عصا ذات رأس مدبب ـ ، ومرّة ضرب بها طفله.
سألته زوجته: لماذا فعلت ذلك؟
ردّ: وجدته معتزا بنفسه فكسرتها فيه!
……….
لذلك، صار كلٌ من أحفاد بيكاسو بيكاسوا آخر…
وصار كلُ من أحفاد علي وعمر حمارا مكسورا مقهورا
……….
كتبت لابنتي ردا على رسالتها: لا تعزيني، بل هنئيني فقد صنعت من بنجي سبّاحا من الدرجة الممتازة..القضية قضية وقت ليثبت لك ذلك!
تأكدي أنهم وحدهم العظماء يرسون في القاع، ليتعلموا لاحقا فن العوم فوق الماء…
وتأكدي أن التشجيع الإيجابي هو من يصنع هؤلاء العظماء
……….
اللهمّ إني قد فعلت وصنعت عظيما، بعد أن كفرت باستاذي علي وبخليفتك عمر!