لم يكن هروب ستة أسرى فلسطينيين من سجن “جلبوع” الإسرائيلى شديد الحراسة مشهداً هوليوودياً مقتطعاً من شرائط سينما، بقدر ما كان تعبيراً حقيقياً عن إرادة شعب قابع تحت الاحتلال ينهض مرة بعد أخرى كالعنقاء من تحت الرماد ليؤكد حقه فى الحياة والحرية.
الرموز أهم من الوقائع والسياق يضفى عليها معانيها ورسائلها إلى المستقبل المنظور حيث يوشك الشرق الأوسط أن يدخل مرحلة جديدة بالانسحاب الأمريكى المتوقع من العراق.نحن أمام خرائط متحولة واتصالات واجتماعات تجرى لإعادة ترتيب الأوراق حتى لا تفلت التفاعلات على النحو الذى أعقب الانسحاب العشوائى من أفغانستان.
القضية الفلسطينية عقدة الموقف كله حيث يراد تحجيم إيران بالعودة إلى الاتفاق النووى أو بغيره وتمكين إسرائيل من التمدد بغير ممانعة كبيرة باسم أحاديث مخاتلة جديدة عن السلام والتطبيع وقدرتها على ملء الفراغ الاستراتيجى الذى يعقب الانسحاب الأمريكى بما يحمى مصادر النفط.
هكذا فإن حادث الهروب بتوقيته ومغزاه وتداعياته يتجاوز بكثير وقائعه المثيرة، وملف الأسرى نفسه، إلى مستقبل القضية الفلسطينية بكل ملفاتها المعلقة، القدس والمستوطنات وطبيعة الدولة المقترحة وحق العودة المنصوص عليه فى القوانين الدولية ولا يملك أحد حذفه بجرة قلم.
فى لحظة تأهب لإعادة ترتيب أوزان القوى فى الشرق الأوسط يؤكد الفلسطينيون الحقيقة الأساسية فى اللعبة كلها، أنه لا يمكن المضى فى ألعاب ترتيب الإقليم بتجاهل حقوقهم المشروعة.
أهم رسالة حملها الهروب الكبير “أننا هنا”، أصحاب قضية وأصحاب حق ولا يمكن تجاوز قضيتنا بسطوة القهر.
بالإصرار والدأب على حفر نفق فى زنزانة بملاعق طعام تمكن ستة أسرى من اكتساب حريتهم رغم المطاردات بالطائرات وحواجز التفتيش فى كل مكان والمداهمات التى لاحقت كل من يفترض أنه على علاقة بهم.
كان ذلك معنى رمزياً ملهماً لقدرة الإنسان على تحدى جبروت القوة.
” إسرائيل الآن غوليات والفلسطينيون ديفيد.. وأنا مع ديفيد!”.
هكذا واجه الموسيقار اليونانى “ميكيس تيودراكيس” إسرائيل بحقيقتها على صفحات جريدة “هاآرتس”، مستلهما القصة التوراتية الشهيرة.بصياغة أخرى، مستعيناً هذه المرة بالإرث الإغريقى، فإن إسرائيل المدججة بالسلاح تشبه أسبرطة تحارب شعباً أعزل، نساءً وأطفالاً.
لم يعد ممكناً الادعاء بأن إسرائيل المحاصرة تواجه عالماً عربياً لا يريد أن يعترف بحقها فى الوجود، الحقيقة الماثلة أنها من يقمع ويقتل، يتوسع ويهجر قسرياً، يمارس العنصرية داخل الدولة العبرية نفسها ضد مواطنيها العرب.
القضية الفلسطينية اكتسبت زخمها من عدالتها، وقد جسد “تيودراكيس”، الذى رحل قبل حادث الهروب بساعات قليلة، رمزيتها فى مواقفه المناصرة، فوحدة المصير الإنسانى تلهم أحرار العالم.
فكرة المقاومة داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة تكتسب مشروعيتها من القوانين الدولية رغم فوارق القوة مع سلطات الاحتلال.
بقوة الرموز والمعانى بدا الفلسطينيون فى الضفة الغربية وغزة وخلف الجدار والمخيمات والشتات موحدون وجدانياً مع الأسرى الستة الذين اكتسبوا حريتهم بالأظافر، يوزعون المشروبات والحلوى فى الشوارع احتفالا بالحدث ومغزاه، لا يحفلون كثيراً إلى أى تنظيم سياسى ينتسبون، فهم فلسطينيون أحرار من حقهم الحرية.
أحد الأسباب الإضافية للاحتفاء الفلسطينى بالهروب الكبير هو كسر هيبة المنظومة الأمنية الإسرائيلية وإثبات عجزها أمام إرادة الحياة والحرية بذات قدر كسر هيبة منظومتها الدفاعية أمام صواريخ المقاومة الفلسطينية أثناء الحرب الأخيرة على غزة.
المعنى أنها ليست قوية إلى حد الاستهانة بحقوقنا ووجودنا نفسه، وأننا لسنا عاجزون إلى حد الانصياع لما تقرره.
الحقائق الفلسطينية أكدت نفسها بوحدة وجدان جماعى تشبه ما جرى أثناء الانتفاضة التلقائية دفاعا عن المسجد الأقصى أمام محاولات اقتحامه من جماعات المستوطنين، كما فى “الشيخ جراح” دعماً لأهله ضد محاولات تهجيرهم قسريا.كان ذلك دليلاً مستأنفاً على “وحدة الشعب والقضية” رغم الشقاق والانشطار بين “فتح” و “حماس”، فالقضية أكبر من الفصائل، ولا يمكن تجاوزها بالتدليس والتخاذل.
بدا لافتاً أن الأسرى الستة ينتسبون إلى جنين صاحبة التاريخ المجيد فى المقاومة والتصدى لآلة الحرب الإسرائيلية، قد تجرى ضغوطاً على السلطة الفلسطينية للتعاون الأمنى فى الوصول إلى الأسرى المحررين.
إذا ما حدث ذلك فإنه عار تاريخى لا يمحى.
هم الآن فى حماية شعبهم حتى يصلوا إلى حيث تتأكد سلامتهم، فحادث الهروب يكتسب كامل معناه من البحث الفلسطينى الطويل عن العدل والحرية.
وقد كانت رحلة طويلة ومضنية استبيحت فيها كل حقوقه بقوة السلاح والاغتصاب الاستيطانى والاستخفاف بأية قوانين دولية.
المعانى الرمزية لا تأخذ مداها إلا فى السياق الذى تجرى فيه الحوادث.فى هذه اللحظة بالذات تتواتر من جديد إشارات واجتماعات واتصالات تستهدف إحياء عملية التسوية السياسية دون أن يكون واضحا: على أى أساس؟.. ووفق أية مرجعيات؟
يصعب التعويل على أية تنازلات يمكن أن تقدمها “حكومة نفتالى بنيت”.
إذا ما أقدمت على أية تنازلات تقتضيها أية تسوية مفترضة، فإنها سوف تنهار فورا بالنظر إلى هشاشتها السياسية وتناقضات بنيتها الداخلية.
إن لم يكن ممكناً وقف التوسع الاستيطانى وسياسات التهجير القسرى، فما معنى التفاوض وما قيمة أية تسوية إلا أن تكون إقرارا بالهزيمة النهائية وضياع ما تبقى من حقوق فلسطينية.
التسوية أيا كانت طبيعتها غير مطروحة على جدول الأعمال الإسرائيلى، ما هو مطروح بالضبط المضى قدماً فى تطبيع العلاقات مع الوطن العربى، دولة إثر أخرى، وإحكام الحصار على إيران وطرح نفسها بديلا يملأ الفراغ الاستراتيجى الذى يخلفه الانسحاب الأمريكى المتوقع من العراق.
بمعنى آخر، يقارب الأوهام، تطرح إسرائيل نفسها قوة عظمى إقليمية تعمل فى إطار الاستراتيجية الغربية، تتعاون مع حلف “الناتو”، ودول عربية عديدة باسم التصدى لـ”العدو الإيرانى المشترك”.
هكذا فإن العودة إلى مسار التسوية محض قنابل دخان لا تتجاوز أهدافه حدود تخفيض التوتر دون أدنى تنازلات إسرائيلية.مرة جديدة: سلام بلا أرض ــ بتعبير المفكر الفلسطينى الراحل “إدوارد سعيد”.
قد تختلف ــ هذه المرة ــ المقاربات وتتحول لغة الخطاب من الخشونة المفرطة التى انطوت عليها أطروحات “صفقة القرن” إلى مراوغات تصل إلى نفس النتائج.
نحن أمام عودة محتملة لأحاديث مخاتلة عن السلام دون أن يكون هناك فعل يؤكدها على الأرض، بما يشبه عملية التفريغ للقضية بعوامل التعرية والتجريف والتيئيس.
عند الصدام بالحقائق فإن الأوهام كلها تتبدد، فلا إسرائيل تملك مقومات القوة الإقليمية العظمى، ولا وجودها فى الإقليم طبيعى، ولا العنقاء الفلسطينية مستعدة لرفع الرايات البيضاء.