و آية هذا الزمان الصحف، قال الشاعر … لكن ذلك كان من ستين سبعين مائة سنة، أي في المدى المنظور لأمير الشعراء، و ليس اليوم طبعا … و لكن الثابت أن الإعلام بتطوراته المختلفة من ذلك الوقت حتى اليوم، يبقى آية الزمان و صاحب الأمر …
قلناها سابقا و نعيدها، الموجود في وسائل الإعلام هو الموجود عند الناس و لو كان وهما … و الغائب عن الإعلام لا معرفة به و لا اعتراف، و لو كان حقيقة الحقائق … لذلك فالحقّ ليس بالضرورة ما نراه على الشاشة أو نسمعه في راديو السيارة أو نقرؤه في المواقع … و قد استفاد الأقوياء من هذه البديهة، و الأقوياء هم من يملكون وسائل الإعلام أو يؤثرون عليها أو يحكمون في رقاب أهلها … دول، أجهزة، لوبيات، مافيات، شركات عملاقة، أمراء حرب، تجار سلاح، باعة دين، سماسرة أخلاق، أدعياء تنجيم … كل هؤلاء و غيرهم لهم باب قار في ميزانياتهم لإيصال الحقيقة كما يرونها و كما يجب حتما أن يراها الجمهور و يؤمن بها بيقين لا طعن فيه …
و حتى لا نبقى في العموميات، لننزل على الأرض … أرض المعركة أو قل ساحة الحروب … نتذكر جميعا حكاية أسلحة الدمار الشامل التي لُبِّسبت للعراق ذات سنة … لقد تم أثناء ذلك و بعده الاعتراف بأنها كذبة بلقاء، و لكن أوّلا ما حصل حصل و البلد الشقيق ذهب شظايا و لن يعيده أسف و لا تكذيب معتذر … و ثانيا، ما يزال كثيرون جدا (خارج المنطقة العربية و حتى بعض العرب) مقتنعين بأن تلك الحرب عادلة و أن العالم و العراق أصبحا أفضل بعد تلك الحرب …
نعود أكثر إلى الوراء و من باب القياس … القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما، و تلتها أخرى، و قتلتا معا أكثر من 150 ألف إنسان مدني في دقائق معدودة، فضلا عن تبعات ذلك على الباقين من السكان و الخراب الذي لحق بمساكن و مستشفيات و مدارس و رياض أطفال … تلك العملية تم التسويق لها على أنها كانت لإنهاء حرب عالمية أكثر دمارا و أوقفت زحف النازية على كوكب الأرض … في حين تبيّن أنها مجرد افتتاح لحرب عالمية جديدة، و لكن ليس ضد هتلر و لا موسوليني، بل ضد الحليف السوفياتي القوة الناهضة بعد حرب هتلر، و الحاملة فكرا و مشروعا أمميا على النقيض من المشروع الغربي … و لكن منذ سنوات معدودة و قبل وفاته بقليل، قال قائد الطائرة (بول تيبتس) التي رمت بالقنبلة الماحقة: “لم أندم على ما فعلت، لقد أنقذنا الإنسانية من شرّ أكبر” … و هناك نسبة طاغية من مواطنيه تؤيد رأيه …
و قد شاهدنا ذات مرة شريطا وثائقيا عن دور هوليوود أثناء تلك الحرب و على غرارها باقي الحروب … كبار المخرجين و الممثلين و كتّاب السيناريو و تقنيي فبركة الصور و تركيبها، وقع تجنيدهم طوعا و إكراها لخدمة حملات تشرف عليها المخابرات العسكرية … و بتمويلات أشبه بالخرافة … و من اعترض منهم أو تردد أو ناقش أو لم يبدِ تحمّسا، وجد نفسه أمام لجنة الكونغرس للأنشطة المعادية لأمريكا برئاسة النائب سيء الذكر “جوزيف مكارثي” … و قد راح ضحيتها أدباء و فنانون كبار حكّموا ضمائرهم أمام صناعة الكذب، و أشهرهم الأيقونة شارلي شابلن الذي غادر الولايات المتحدة و لم يضع قدميه فيها لعشرين سنة …
هذه الأيام، نشرف على حرب عالمية باردة من مرحلة أخرى … نفس العدوّ الشرقي و نفس الأدوات و نفس الحملات و نفس ماكينة الدعاية التي عادت لتشتغل بأقصى طاقتها … و هات ننظرْ إليها من زاوية طريفة و لكن ملموسة … و هي تقزيم صورة الخصم و تصويره اقتصاديا في شكل منتج ريْعي متخلّف لمادة واحدة ممكن الاستغناء عنها … عراق الأمس حصروه في البترول رغم كمّ العلماء و المصانع و المزارع التي كانت تعيل العراقيين و تم استهدافها بالتدمير سابقا و لاحقا … و اليوم يحصرون روسيا في إنتاج الغاز و كأنها دولة تواكل من دولنا العربية القاصرة … رغم أن هذا البلد الكبير هو الأوّل في الصناعة العسكرية، و الأسلحة المتطورة جدا، و الطائرات، و التكنولوجيا الفضائية، و التكنولوجيا النووية بما فيها الاستخدام الطاقي … و الأمم الغربية تتعلم منها كل هذا و تستورده، قبل استيراد الغاز و النفط و صوامع القمح … و لكن …
تذكرت لقطة من مسلسل “فرقة ناجي عطا الله” على لسان الراحلة سهير الباروني في دور عجوز مقعدة … و هي تنصح ابنها حول تعامله مع رئيسه في العمل: “إن قال لك رح شمين تروح شمين، و إن قال لك يمال رح يمال” (أي اتبع كلامه يمينا أو شِمالا) … و نحن أيضا انعقدت ألسنتنا و تتعقد كلما فتحنا شاشة “سكاي نيوز” أو “سي ان ان” أو “بي بي سي” أو نسخها العربية و تابعاتها كالجزيرة و العربية إلخ … و ها نحن نتبع الجوقة و معنا شعوب و بورصات و أسواق و سياسات و اتحادات رياضية وصلت إلى استبعاد المعوقين الروس من الألعاب البارالمبية … و لا من مستنكر.
خلاصة القول: عزيزنا فلاديمير، ألم يكن غزو الفضاء أسهل من غزو أوكرانيا و أقل كلفة و صداعا … فلماذا التعب؟