لا حديث تقريبا هذه المدة إلا عن مجلس القضاء الأعلى … يُحلّ، لا يحلّ، يحلّ، لا يحلّ إلخ … بل إلى أن سمعنا البارحة من رئيس الدولة عن مرسوم جاهز للغرض … و معرفة بأسلوب سعيّد في تداول الشؤون، فقد يستمرّ المسلسل أياما أخرى و أسابيع، و يعود الموضوع كحكاية الطفل المغربي ريّان قبل صدور البلاغ الملكي القاطع … و هاهنا نرجو الرحمة للولد كما نرجو مصيرا أفضل لبلادنا و ما فيها … و من فيها …
الغريب أننا اندلقنا جميعا في حكاية مجلس القضاء و كأنها أمّ حكاياتنا و مصباح علاء الدين الذي على مرمى حجر من أيدينا … و رحنا الذي يستشهد بابن خلدون و العدل أساس العمران، و الذي يعمم تهمة الفساد على كل القضاة، و يعمم دور القضاة على كل تصاريف الحكم، و يعمم دور الحكم في ما نعيشه شرّا أو خيرا … و الذي يتصارخ وامجلساه، و يصف ذلك اليوم (يوم الوعد بحل المجلس) باليوم الأسود، و يهدد بإيقاف عمل المحاكم في كافة البلاد … و اختلط في المساجلة صوت الذي يعود إلى مونتسكيو، بالذي يعود إلى جيفرسون، و أخيرا بالذي عاد بنا إلى مسكويه …
لنفترض جدلا أن مرفق أو سلطة أو وظيفة (كما يقول الرئيس) القضاء، هي الأهمّ في دنيانا … لنفترض ذلك … و لكن لم نفهم في الأخير هل أن مشكلتنا في بقاء أو زوال مجلس من اثني عشر شخصا، أم في منظومة العدالة ككل … فالمجلس الأعلى للقضاء هو هيكل له صلاحيات هذا صحيح، و لكنها محدودة مهما توسعت … و لكن على حد علمنا ليس فيها النيابة العمومية، فتلك لوزارة العدل … و ليس فيها مهمة التفقّد، فتلك أيضا لوزارة العدل … و ليس فيها مهمة انتداب القضاة، فتلك أيضا لوزارة العدل … و ليس فيها مهمة دفع أجورهم و التحكم في معيشتهم، فتلك كذلك لوزارة العدل … و ليس فيها بناء المحاكم و تجهيزها و توسيعها و تحسين (أو تعفين) ظروف العمل و استقبال المتقاضين، أو رقمنة هذا السيل الجرّار من القضايا، و تدوين الأحكام، و أحوال السجون …
هذه كلها و غيرها من اختصاص وزير (أو وزيرة) العدل أي الحكومة … و الحكومة تابعة للرئيس … و فيها وزير داخلية أعلن على رؤوس الأشهاد أنه أحال ملفات مهمّة إلى زميلته في العدلية فرقدت عليها … دون نعت آخر !
لذلك، دعونا من هذه الضجة الكبرى و كفانا استعراضا للحق الذي يراد به باطل … و كفانا افتعالا لمشكلة و معه افتعال لحلول … فلا المشكلة مشكلة، و لا الحلول هي ما نسمعه أو ما “يشبّه لنا” بأننا سمعناه …
من يريد إصلاح القضاء، عليه بأن يبدأ من أمام بيته، و من أمام حكومته، و من أمام وزارته، و من أمام إدارته للشأن العام … و ليس بإلقاء قنابل صوتية تتكشّف بعد انفلاقها و ذهاب دويّها و دخانها، عن قليل من غبار تذروه الرياح … و لا يبقى منه بعد ذلك أيّ أثر …