جور نار

القوة الخشنة … و القوة الناعمة (سابعا وختاما)

نشرت

في

تضاربت الأقوال في ما يخص قطاع السياحة … فبين من يعتبره ركنا اقتصاديا مهمّا و تصديرا على عين المكان، و بين من ينظر إليه على أنه قطاع هش تطير فوائده مع أوّل إرهابي و أول فيروس و أوّل إشاعة … مسافة فارقة و لكن يمكن أن تكون علامات مشتركة مع أي نشاط آخر …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

الزراعة محسوم أمرها منذ آلاف السنين، فمهما حصل لها من تطوير و مكننة و سيطرة على الآفات و التخصيب و الري و الوفرة و تحسين السلالات … يبقى سرها مرتهنا دائما بمشيئة السماء و الأحوال الجوية التي ما لأحد سلطان عليها … الصناعة أيضا يمكن أن تصيبها هشاشة أو ركود أو إفلاس حتى … و هي رهينة بتقلبات السوق و مصادر الطاقة و نزوات المواد الأولية و خاصة صروف الدهر و السياسة … و ها نحن نشاهد ما يحدث في الشمال الأوروبي البعيد، و “فالز” الخطف و النتر مع الغاز الروسي، و ما يمكن أن تصير عليه صناعات عريقة في ألمانيا و فرنسا و السويد و بريطانيا لو أغلق الرئيس بوتين حنفية هواء، مجرد هواء !

و ما يصح على السياحة من تأثر بوضع أمني أو وبائي يصح على البقية … و عمنا الكوفيد يسلم علينا و هو يبتعد و يذكّرنا بأمواجه الهادرة كم جرفت من عباد و عتاد و أقفلت مرافق العالم لمدة سنتين ستبقيان تاريخا … لذلك فمن الأحسن النظر إلى قطاع السياحة بشكل خال من الشيطنة المطلقة أو التأليه المطلق … السياحة مورد اقتصادي مهمّ، و مهمّ جدّا في عصر تكاد فيه القطاعات الأخرى تستنفد كل ما لديها و تتزايد كلفتها يوما بعد يوم… في حين أن اقتصاد الخدمات (و منه السياحة) هو الأقل كلفة و الأعلى مردودا، و بمسافات ضوئية عن غيره …

ثم دعنا من همّ الاقتصاد فله أصحابه،  و لكن أصحاب السياحة عندهم رأي و فيه وجاهة لو استمعنا إليه … منذ سنوات كان لي حديث مع أفضل وزير سياحة عرفته تونس حسب رأيي و هو محمد جغام … نعم، و لا داعي للتنقير حول ما هو بائد و ما هو غير بائد فتونس هي الباقية و الرجال أفعال … سألت السيد جغام عن تعريفه للسياحة في كلمة فأجابني: “صورة” … و الصورة هي لبلادك وسط أكثر من مائتي دولة … كلها يرفع رايته و يذود عن وجوده و يُعلي صوته فوق الأصوات … و حتى الدول الصناعية الكبرى، بل خاصة الدول الصناعية الكبرى، تولي سياحتها و ثقافتها و معالمها و صورتها مكانة في الخطاب تلامس التقديس …

مرة وقعت جريمة مروّعة في اليابان و انتشر خبرها بسرعة في كل أنحاء الدنيا … ما الحادثة؟ رجل ياباني يقتل صديقته و يمثل بجثتها و يأكل بعضا من لحمها … فظيع … و في لمح البصر سُحب الحكم على كافة اليابانيين بأنهم قتلة و أكلة لحوم بشر (كانيبال) و يا ويلك إن حطت بك الطائرة في طوكيو … و هنا وقف كل شيء تقريبا في الجزيرة المصنّعة البعيدة و لم يعد لحياة أهلها من معنى … و تجنّد رئيس حكومة و وزراء و سفراء و مبعوثون بالمئات إلى كافة أصقاع الأرض … لا، نحن لسنا هكذا، هي جريمة بشعة يأباها المجتمع الياباني السليم، و هي حالة فردية منعزلة ارتكبها شخص مختلّ لا يمثلنا قطعا … و أنتم أيضا في مجتمعاتكم لكم شواذ و لكننا لا نقيسكم بهم …

حملة استغرقت أشهرا و أنفقوا فيها أموالا طائلة و حفلات خيرية و أشرطة وثائقية عن كرم الشعب الياباني و سماحة خلقه و طيب حضارته … مع دعوات مجانية و استضافات سخية لوفود إعلام و تأثير و دعاية لرفع اللبس عن بلد الشمس البازغة و إزاحة الغمامة العابرة عن تلك الشمس …

صورتنا هي حياتنا، شرفنا، بطاقة دخولنا إلى نادي الأمم المحترمة … فهل أصدرناها نقية رائقة اللون و الطعم و الرائحة، أم تركناها حطاما ملطّخا بالأبيض و الأسود، لا يكاد يظهر منه سوى السواد و صفرة البلى و الموت؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version