مهما تعلل المستسلمون عمدا أو ترديدا، فإنه لا علاقة لقوة دولة بين الدول بحجمها الجغرافي أو بعدد سكانها … فهنالك بقاع صغيرة جدا حكمت العالم و تحكمه فقط بإرادة شعبها أو نخبتها والأمثلة موجودة … لعل أشهرها “أنكلترا” التي مساحتها (130 ألف كم2) أقل من مساحة تونس (163 ألف كم2)، و مع ذلك سيطرت كونيّا من القرن 17 إلى حدود منتصف القرن العشرين، و ما تزال إلى اليوم إحدى الأمم العظمى و لها مقعد دائم في مجلس الأمن، و يتكلم لغتها ـ رئيسيا أو ثانويا ـ كل سكان المعمورة … عدا أهالي المغرب “الفرنسي” الكبير الثلاث، طبعا !
المثال الثاني و لكنه أكثر امتدادا في الزمن هو اليونان … دولة أقل منّا مساحة وسكّانا، و اقتصادها هو الأضعف تقريبا في أوروبا، و مع ذلك هاهي تقود بفكرها الموروث و سبقها الفني و العلمي، جميع الحضارة الإنسانية منذ 25 قرنا إلى اليوم و بلا انقطاع … و لم تقم أية نهضة في أي مكان طوال هذا الزمان، إلا و كانت متّكئة على السند الإغريقي الذي لا يكاد ينضب … سواء كانت تلك النهضة رومانية أو عربية إسلامية أو أوروبية أو أمريكية أو أسياوية … بل إن منطقة ضئيلة من اليونان (مقدونيا) سيطرت زمنا على ثلاث قارات بحجم نصف كوكب الأرض، بفتوحات الإسكندر و أيضا معلّمه أرسطو … و قد قامت القيامة في تسعينات القرن الماضي حين تفكك المعسكر الاشتراكي و أرادت إحدى مكوّنات يوغسلافيا السابقة أن تعلن نفسها مستقلة باسم مقدونيا … فاحتجّت اليونان بشدّة و معها الغرب كلّه قائلين: إلاّ “ماسيدوان” … فهي إغريقية أو لا تكون …
و قريبا منّا، هناك من لا تعجبه دولة قطر الميكروسكوبية أو يسخر منها خالطا بين سياسة نظامها وحقيقتها ككيان و شعب، و ينعتها بالدويلة أو بالمعتمدية أو حتى بالعمادة … و لكن هذه “الدويلة” هي التي ستنظم بعد أشهر كأس عالم لكرة القدم، عجزت دول أكبر منها و أعرق (مصر، المغرب، تونس في ملف كاريكاتوري مشترك مع ليبيا) عن تنظيمها … فضلا عن نفوذ قطر الإعلامي و الدبلوماسي الذي جعل منها شريكا رئيسيا في أكثر من مفاوضة دولية جنبا لجنب مع كبار العالم القليلين … أعيد: لست مع سياسة قطر و المؤامرات المنسوبة لنظامها، بل أقف ضد ذلك تماما مثل بقية الخلق … هذا في منطقنا التونسي والعربي المتضرر ضررا فادحا مما يحاك في الدوحة بدءا من سموم قناة الجزيرة … و لكننا هنا بصدد وصف قوّة مقارنة لم نصل إليها، تماما كما كنّا في معرض الحديث عن “أنكلترا” القوة الاستعمارية الغاشمة، وصاحبة وعد بلفور و الاعتداءات المتكررة بحقنا كعرب …