شعب؟ أي شعب هذا الذي تكيلون له المديح آناء الليل وأطراف النهار؟ وهو يتثاءب بفم واحد من المحيط إلى الخليج.
اسلقوه بألسنتكم أيها الشعراء والكتّاب والقوّالون.
العبي برقابه أيتها السياط.
انهبي أمواله أيتهاالامتيازات.
قرّحي أجفانه أيتها الدموع.
فتتي أكباده أيتها البلهارسيا.
أتلفي أعصابه أيتها المهدئات.
مزّق رئتيه أيها السعال.
افتك بأحشائه أيها الجوع.
شقق شفاهه أيها العطش.
وأنت يا أنظمة اليمين واليسار والوسط، فيما شقيقتك الأنظمة الأخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية يجهد كل منها بمفرده وعلى هواه لتسلّق شعبه، والتحايل عليه بترخيص الأسعار وتخفيف إجراءات السفر وتلوين المجلات وتزويق الانتخابات، والإطناب بدوره في النضال والكفاح من أجل الحرية والأمن والاستقرار في العالم، كوني أنت كتلة “واحدة” متماسكة كعضلة المحارب في تماثيل الإغريق، وألقي بشعوبك وراء ظهرك ولا تبالي.
لا تزفّتي شوارعها ولا تضيئي قراها ولا تستخرجي بترولها وثرواتها.
سدّي الطرقات عند سفرها.
زفّتي الأنهار عند عطشها.
لوّثي الهواء عند تنفّسها.
أطلقي المنبهات عند قيلولتها.
وانشري البعوض في مواسم اصطيافها.
عطّلي سيارات الإسعاف حتى لا يسعفها أحد.
اقطعي أسلاك الهاتف حتى لا تتصل أو يتصل بها أحد.
اقطعي عنها رواتبها واحرميها من التعويض العائلي والضمان الصحي والرواتب التقاعدية وعجز الشيخوخة. وألقي عليها حتى أعقاب لفائفك من الأدوار العليا، فليس لها عندك أي حق في تذمر أو شكوى أو عمل أو ذهاب أو إياب أو مأوى.
أأنا أتحامل على شعبي لأنني أكرهه وأحقد عليه؟
أبدا. أنتم مخطئون أيها السادة. فأنا لا أحبه فقط، بل أعبده: أعبد جبنه وغروره وتردده وفظاظة حديثه وسماجة غزله وتجشؤه بصوت مرتفع وطريقة مبالغته في الكلام وترويج الشائعات ونميمته على أصدقائه، واختلاقه النكت على حكامه وتظلمه من ظروفه، وشكاواه من أمراضه، وشماتته بكل حدث يصيب سواه، أو إطراقته الأبدية في غرف الانتظار.
لأنني كنت أعرف أنه ما انحط إلى هذا الدرك، وما تدهورت صحته وسمعته وتبدلت طباعه إلا لأنه كان مسلوب الإرادة طول عمره، ولا يملك من حقوقه عبر التاريخ، سوى أن يراها بأمّ عينيه تنتقل من تحت خُفّ هذا الزعيم إلى خفّ ذاك الوزير إلى خفّ ذاك السلطان … وما تبقّى منها انتهى واستقر أخيرا تحت أحذية بيار كاردان.
ولهذه الغاية، درست الحقوق وانتسبت إلى نقابة المحامين وأعددت قائمة شاملة بهذه الحقوق موثقة بالأرقام والتواريخ وأقوال الشهود لاستصدار أمر قضائي باستعادتها من أعلى هيئة قانونية في العالم: من محكمة لاهاي الدولية نفسها وهي: حرية القول والكتابة والتفكير والمعتقد والتنقل والإقامة وإبداء الرأي في السلم والحرب والعلمنة والاختلاط والتعبير غير المشروط في الصحف والإذاعات والتلفزة والمسرح والنحت والتصوير وحرية التجمع والتظاهر، والانتخابات وتأليف الأحزاب والجمعيات (لقد سئمنا جمعيات سكنية وخيرية وتأليف وفود تعزية وتهنئة وتأييد واستنكار).
وبطائرتي الخاصة التي يعمل محركها بإرادة الشعوب أقلعت من مدرج إحدى كليات الحقوق العربية وأنا ألوّح بيدي ووثائقي للجماهير المتثائبة التي زحفت لوداعي، وأنا أكرر على مسامعهم المرة تلو المرة: انتظروني ولا تبرحوا مقاهيكم ودوائركم أو تفوّتوا دقيقة واحدة من مسلسلاتكم ومبارياتكم، إلى أن أعود ومعي ذلك الأمر القضائي العتيد.
وما إن بدأت الطائرة بالصعود حتى أخد كل شيء في التلاشي والغياب: الجماهير، البيوت، الأشجار، الأغنياء، الفقراء، الانتصارات، الهزائم، الخلافات، الوساطات،الاتفاقيات. ولم يبق أمامي سوى المهمة التي أنا بصددها وسط هذا السديم الأزرق الامتناهي.
طبعا في بداية الرحلة واجهتني بعض التيارات الهوائية والمطبات العقائدية ولكنني تجاوزتها وتغلبت عليها بنجاح بفضل براعتي وخبرتي الطويلة في التحليق فوق أرض الواقع. وبعدها لن لأتعرض لأية مفاجآت غير متوقعة.
ولكن، ما إن أخذت أحلق فوق جبال الألب والبيرينيه، وفي خلوة رومانسية بين الغيوم سمعت وشوشات وتمتمات. وعندما خففت من سرعتي فوجئت بسفينة فضاء سوفياتية وقمر صناعي أمريكي غارقين في قبلة طويلة محمومة، و”خذ على تأوهات وتنهدات وعتاب وبث أشواق…” ولكن، ما إن شعرا بوجودي حتى انفصلا عن بعضهما مذعورين مرتبكين وراحا يشتمانني ويدعيان أنها محرد قبلة علمية لا أكثر. فقلت لهما: يجب أن تعلما ويعلم العالم أجمع بأن الشعوب العربية لن تدع أحدا يهنأ بشيء، لا في الأرض ولا في السماء، ما لم تسترد كل حقوقها المسطورة في هذا الملف.
ولوّحت لهما مودّعا وأنا أطوي الجبال والوهاد والبحار والبحيرات والنوافير والقارات حتى بلغت رحلتي نهايتها. ولأنني وصلت في ساعة متأخرة من الليل فقد أيقظت أعضاء المحكمة من نومهم وقلت لهم: حقوق شعبي ضائعة وأريد استردادها. وها هي كل الوثائق والمستندات التي تطلبها محكمتكم الموقرة.
فسألوني وهم يفركون عيونهم:
ـ منذ متى ضاعت حقوقكم هذه؟
ـ منذ بدء التاريخ.
ـ ولم تطالبوا بها من قبل؟
ـ كلا.
ـ والآن، وبعد قرون جئتم تطالبون بها؟
نعم.
آسفون يا بني. لا حقوق لكم. اسأل أكبر القضاة والمشرّعين.