أصبح مألوفا أن تجد فوق كل مكتب في إدارة، جهاز كمبيوتر … وكذلك وراء كل شباك خدمات، وأمام كل مذيع في إذاعة أو مقدم في تلفزة … دائما هذه الشاشات البلورية وخلفيتها المحتوية على مرجة خضراء أو باقة زهور أو صورة طفل يضحك ملء شدقيه …
ومع الكمبيوتر أصبحت الهواتف ذات الشاشات تملأ الأرض والسماء … حتى في المقاهي لم يعد هناك تقريبا من يحملق في المارة ذاهبين وقادمين، بل عشرات العيون إما مرشوقة في الفرجة على مباريات “بي اين سبورت” كرة على مدى 24 ساعة … وإما خاصة خاصة في سمارتفون به آخر لقطات برامج البارحة المسجلة من هذه القناة أو تلك … وهناك طاولات بكاملها، أحصيت مرة ما لا يقل عنثمانية شبان متجالسين دون تبادل كلمة واحدة … بل الكل منهمك في تفحص التلفون الذي بين يديه، ولا تسمع سوى طلقات رصاص خارجة من هناك وأحيانا صيحة انتصار من هذا القاعد أو ذاك … إنهم يلعبون جماعيا لعبة من آلاف الألعاب التي هناك، كما كان أسلافهم يلعبون الشكبة أو الرامي …
طبعا ستعلق بأن هذه هي لغة العصر وهذا هو مجتمع المعلومات … جميل، جميل … وإذا افترضنا أن مجتمع المقاهي هو تقريبا ومع استثناءات، هو نفسه مجتمعنا الذكوري فأين تجدهم بعدها، أي بعد أن يخرجوا من قهوة قدور وقبل ارتيادها؟ … الجواب أنهم إما يكونون في مواقع العمل، أو في مواقع المتعاملين مع من يعمل … و”المتعاملون” هنا هم كافة الطوائف بمن فيهم العاطلون عن العمل … وتعامل هؤلاء مع من يعملون يبدأ من البحث عن شغل وينتهي بالبحث عن مصروف، من جيب الوالدين أو من جيب الدولة لا يهمّ …كما أن كل هذه الفئات لها علاقة مباشرة بما يقدم من خدمات، سواء كمنتجة أو كمستهلكة …
في تلك المواقع، تختفي تماما لغة العصر وينقرض كليّا مجتمع المعلومات … فرغم توفر وسائل الاتصال الأكثر حداثة، تنقطع مثلا مياه الشرب عن أحياء بكاملها وبشكل متكرر وفي أي وقت دون سابق إنذار … وكذا يكون مع الكهرباء والإنترنت والطرقات، بسبب أقل مطرة وغالبا دون سبب معروف … وفي إحدى المرات أجابتنا إحدى موظفات بن عروس بأن علة الانقطاع هي موجة سرقة الكوابل التي أفرط فيها أبناء حينا … وعلى أهلكم جنت براقش … طيب، وما دخل الكوابل (و”الكبابل” حاشى السامعين) في قطع البث عن القناة الوطنية الثانية فجئيا لعرض اختتام مهرجان أيام قرطاج المسرحية؟ … كانوا يبثون ذلك في القناة الأولى وبغتة جاءت أخبار الثامنة (ومعها نشاط الرئيس) فعملوا “سويتش” وانتقلوا بسرعة من قناة لقناة … تاركين البشرية كلها مفغورة الأفواه …
ثم ما حكاية انقطاعات التلفزة التي لم تفارقها منذ يوم تأسيسها سنة 1966 إلى هذه الساعة؟ … لا والله في السابق كانوا يعتذرون بأدب وابتسامة من وجه الراحلة نزيهة المغربي، أما اليوم فلا اعتذار ولا من يعتذر … مع فارق آخر أنهم في الزمن الماضي كانوا يضعون أغنية يقطعونها بدورها حين ينتهي عطب البث، أما اليوم فصاروا يملؤون فراغاتهم بشريط عن فلسطين، نفس الشريط … كان اسمها فلسطين، صار اسمها فلسطين … نفس الشريط ونفس الجمل ونفس الصور حتى حفظناها، وللأسف حتى مللناها … ولك الله يا شعب الجبّارين فلقد أصبحت مأساتك ملهاة تسدّ بها تلفزتنا فراغ أعطابها …