تجاورت أنصاف الحقائق على نحو غير مسبوق في الأزمات الدولية حتى كادت سلامة النظر تغيب خلف سحب الدعايات الكثيفة … في المشهد الأوكراني روايتان متناقضتان للحوادث الدامية وأسبابها، إحداهما تصف الأخرى بـ”امبراطورية الشر” ــ قاصدة روسيا.. والثانية تصف الأولى بـ”امبراطورية الكذب” ــ قاصدة الولايات المتحدة .
بإيحاء الألفاظ فإننا أمام أزمة يصعب الرهان على أنها قد تتوقف قريباً . لا روسيا مستعدة أن تتراجع خطوة واحدة عما تسميه حقها الشرعي بالدفاع عن أمنها الاستراتيجي عند حدودها المباشرة .ولا الولايات المتحدة مستعدة أن تفلت خصمها التاريخي من الحصار الدبلوماسي والسياسي والمالي والرياضي غير المسبوق، الذي ضربته حولها .برواية الرئيس الأمريكي “جو بايدن” فى خطاب حالة الاتحاد فإن نظيره الروسي “فلاديمير بوتين” شن حرباً غير مبررة على أوكرانيا، رفض الحلول الدبلوماسية، وانتهك القانون الدولي بالعدوان على أراضي دولة أخرى،
“لكننا كنا جاهزين” .أراد أن ينفي أية اتهامات لإدارته بالضعف في إدارة الأزمة، فقد توقعت غزو أوكرانيا واستعدت مع حلفائها الأوروبيين لمواجهته بتضامن وفاعلية وقوة حتى تكون كلفته مؤلمة … كانت تلك رسالة أولى للرأي العام الأمريكي لترميم صورته قبل أي استحقاق انتخابي منتظر، حيث تشير أغلب استطلاعات الرأي العام إلى تراجع شعبيته بأثر أزمة الطاقة المتوقعة .وأراد أن ينفي بالوقت نفسه عن موسكو أية أحقية سياسية وأمنية أو أخلاقية في تصعيد الأزمة، التي كان يمكن حلها بالوسائل الدبلوماسية لولا رفض “بوتين” .
كانت تلك رسالة ثانية للرأي العام العالمي بدواعي التعبئة والتحشيد لإحكام الحصار على روسيا إلى آخر مدى ممكن حتى يمكن عزلها .ناهضت موسكو تلك الرواية دون أن تتمكن من عرض قضيتها على الرأي العام بعدالة وإنصاف … لم تكن الفرصة متكافئة على أي نحو، أو بأي قدر، بين الطرفين المتصارعين .احتكر طرف واحد التحدث باسم الحقيقة، مارس الحد الأقصى من الضغوط لـ”شيطنة” الطرف الآخر، فهو أصل كل الشرور، الذي يعتدي ويغزو ويروع، دون سبب أو داع !
استخدمت كل الأسلحة، المشروعة وغير المشروعة، الحقيقية والمصطنعة، فيما حُرمت وسائل الإعلام الروسية مثل “سبوتينك” و”RT” بالمصادرة والمنع من أن تصل إلى المشاهد الأوروبي ليحكم بنفسه .كان ذلك نفياً لأبسط قواعد حرية الصحافة والإعلام والتفكير، التي تنص عليها الدساتير والتقاليد الغربية .في إدارة الأزمة استبيحت كل المحرمات !ثم كان مأساوياً في جهود إغاثة النازحين من لهيب النار في أوكرانيا إلى دول الجوار ما جرى من تمييز عنصري ضد أصحاب البشرة السمراء من مواطني العالم الثالث، العرب والمسلمين خصيصاً .
بأية معايير حديثة فإن الإنسان هو الإنسان ومعاناة اللجوء والتشريد واحدة بغض النظر عن الجنس والدين واللون … التمييز العنصري وصمة عار لا يمكن إنكارها .كان مثيراً للالتفات ما أبدته إسرائيل باسم الإنسانية المعذبة من تضامن مع أوكرانيا، فيما تمارس في فلسطين المحتلة أبشع أنواع الفصل العنصري !
كما كان مثيراً للالتفات المدى البعيد الذي ذهبت إليه جميع المؤسسات الدولية بلا استثناء واحد في فرض الحصار على موسكو دون أن يعهد عنها أي استعداد لأية مواجهة مع إسرائيل وغير إسرائيل فيما يتعلق بمستقبل العالم العربي وحقه في الحرية والعدل . ازدواجية المعايير من أبرز سمات النظام الدولي، الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية .الازدواجية ذاتها تطرح نفسها الآن بتوظيف الأزمة الإنسانية لمقتضى مصالح واستراتيجيات غربية دون التزام حقيقي بحياة الأوكرانيين، الذين أصبحوا رهائن لصراعات القوى الكبرى، التي تتجاوز أوكرانيا إلى مستقبل النظام الدولي كله …
بتلخيص ما فإننا قرب نهاية نظام دولي استهلك زمنه وطاقته على البقاء دون أن تتضح معالم نظام جديد يوشك أن يولد .في أحوال الانتقال الصعب من نظام دولي إلى آخر لا يريد القديم أن يخلي مواقعه ومراكز نفوذه، يقاتل بأكبر درجة من التحشيد والتعبئة للدفاع عن مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية خشية ما تسفر عنه التحولات من حقائق جديدة تصنع عالماً غير العالم الذي تمدد فيه نفوذها … جرت محاولات ترميم للشروخ والتصدعات في التحالف الغربي تحت عنوان “وحدة الموقف” في مواجهة الخطر الروسي، لكنها لا تصلح لإبقاء ما استهلك زمنه على قيد الحياة لفترة طويلة …