لا يمكن مهما قلْت ومهما رغيت أن أصف لكم أفريكيا … ولا شيء يمكن أن يُطلعك على أفريكيا أبدًا، لا الكتابة ولا الأفلام ولا التصاوير، وإنما شيء واحد فقط هو الذي يستطيع أن يفعل ذلك، هو أن تأخذ ذيلك في أسنانك وتجري على أفريكيا!
هو مَنظر لو فاتك — يا عبد الله — رؤيته فأنت لم يُكتَب لك المرور على دنيا الناس! فلا أوروبا بجمالها ولا آسيا بأسرارها تستطيع أن تقف إلى جانب أفريكيا في معرض القارات!ستجد هناك جمالًا فشر جمال أوروبا، وألغازًا تصبح إلى جانبها أسرار آسيا مجرد فوازير ونكت بايخة! وناس أفريكيا ما أحلاهم وما أطيبهم وما أبسط وأجمل حياتهم! ولكَم تمنيْت أن أفرش حصيرة أفريكاني حلوة، وما أحلى الحصير الأفريكي وما أغناه، تمنيْت أن أفرش حصيرة أفريكي على الساحل وأتسلطح على ظهري لا أهش ولا أنش، إذا عطشْت أمد إيدي وأكسر جوزة هند في حجم البطيخة المجيدي الحلوة، أشرب وأتكرَّع وأتبغدد، وإذا جعْت فلا أمد إيدي ولا حاجة، أنتظر فقط حتى يسقط من على الشجرة قفص منجة ألفونس في حلاوة جاتوه أخونا جروبي، ألتهم القفص وأتبهنس! فإذا أردتُ أن أغسل يدي فالسماء كفيلة بكل شيء. ستمطر حتمًا إذا كنا في الصيف، وإذا كنا في الشتاء فلسوف تمطر أيضًا.
هذا إذن هو ساحل غانا الذي لا أستطيع وصْفه. الساحل الساحر الذي اكتشَفه يومًا ما ولد برتغالي صايع كان يتمخطر في عرض البحر بمركب جربانة، ولكن عليها مدافع جبارة، وفوق المَدافع علَم في حجم ملاية السرير مرسوم عليه صليبٌ مسنون ومدبب في كل ناحية من نواحيه الأربعة، كأن كل حافة فيه حربة!
ولكن قبل مجيء هذا الولد البرتغالي الصايع، مرَّت من قبلُ مراكب أخرى جبارة ولكن بعيدًا عن الساحل، تخترق بحر الظلمات في طريقها إلى عالمٍ مجهول ومسعور لم يصل إليه كائن حي من قبل. كانت سفُن البرتغال تُجرب حظها، تحاول الوصول إلى أرض الكنوز في الهند.
كانت البرتغال وقتئذٍ بلدًا فتيَّة مفتريَّة، لديها مراكب كما الصواريخ الآن في روسيا. وعلى المراكب مَدافع تُطلق النار فتُبيد الغلابا المنكسرين الذين يهجمون على الأسُود بسِكينة بصل ومطوة مصدية! وكان لديها بحَّارة ولا الشياطين الحمر، عليهم شقاوة ولا العفاريت الزُّرق، طَموحون اغتنوا وأغنوا بلادهم، مغامرين مات نصفهم في رحلات الكشف، ومات النصف الآخر في رحلات اللهْف والخطْف!
وعندما جاء الولد البرتغالي الصايع بمركبته كان شاطئ غانا هادئًا وديعًا كما قطة … أشجار جوز الهند ملفوفة كما بنات حلوين في ملايات حرير سودة. وأشجار الأناناس تتمخطر مع الريح كأنها أعلام ملك الغابة نشرها على الساحل في يوم عيد … وولدٌ أفريكي طيب يتسكع عند الشاطئ يصطاد سمكةً بحرية، ويقطف جوزة هند بخشبة زانٍ أطول من قلع المركب. وربما كان هناك قرد يصرخ وكلب يعوي ونسر جبار يُحلِّق في السماء السابعة بحثًا عن ميِّت فخيم يحطُّ عليه ويأكله!
المهم أن الولد البرتغالي الصايع دخل شاطئ أكرا وطوى قلوعه وألقى مراسيه وطقطق مدفعين من عنده تحيةً للشاطئ المجهول. ولكن المدفع — يا للهول على رأي يوسف وهبي — جعل النسر يُحلِّق في العلالي والقرد يشطح نحو الغابة، والولد الأفريكي الطيِّب يُسدِّد حربته التعبانة نحو المركب وينطلق يجري في داخل أكرا، وقد تأكَّد لديه أن القيامة قامَت، وأن المَدافع هي جرس إنذار لتستعد الناس وتتهيأ!
لم تكن القيامة قد قامَت ولا أي حاجة، وربما انتهى الأمر بالولد الأفريكي الطيِّب إلى الجنون أو الموت … لا يهم، فالمهم عندنا هو الولد البرتغالي الصايع الذي رسا على ساحل أكرا ذات صباحٍ جميل منذ خمسة قرون، عاش الولد على الشاطئ أيامًا، ثم عاد، ولكنه حمل معه في رحلة العودة ثمارًا وفواكه وحفنة تراب من أكرا وأحلامًا واسعة بالسيطرة على هذه الأرض. وبعد شهورٍ عاد من جديد في عمارةٍ بحرية شديدة الهول، ومعه مرسوم من ملك البرتغال بأن يكون كل ساحل غانا تابعًا لأملاكه. ولم لا وقد صار ملك البرتغال ملك زمانه وأوانه ووحيد عصره!
الأسطول المصري العظيم تحطَّم مع أسطول البندقية في معركةٍ بحرية ضد أسطول البرتغال. وعندما استقر حطام آخِر سفينةٍ مصرية في قاع البحر كان ملك البرتغال قد أصبح هو الحاكم بأمره، وأصبحَت كل الكرة الأرضية مِلك يدَيه لولا دولة أخرى تجاوره على الخريطة وتزاحمه في البحر هي إسبانيا، وهي قصة خلاف مؤسفة مُكسِفة — من الكسوف — جعلَت البابا شخصيًّا يتدخل في الأمر، فيحكم بأن نصف الدنيا جنوب خط عرض كذا تابع لملك البرتغال، ونصفها الآخر شمال الخط إياه تابع لملك إسبانيا،
ومن ذلك اليوم الأغبَر بدأَت أغرب وأعجب عملية نهبٍ عرفها التاريخ. لم يلبَث ساحل غانا أن سقط في يد شركة الهند الشرقية، ولكن ذلك اليوم لم يكن قد حان بعد عندما وفدَت عمارة الولد البرتغالي الصايع على شاطئ أكرا هدفها التجارة وهداية الناس السود إلى طريق الرب! ولذلك جاءت العمارة البحرية وعليها مَدافع، ومع المدافع حفنة من رجال الكهنوت! واستقرَّت البعثة عند الشاطئ في صمتٍ وفي هدوء. لا تتكلمُ مع أحد ولا يتكلم معها أي أحد. بدأ عهد التجارة الصامتة. البيع والشراء يتم على طريقة شارلي شابلن في أفلامه القديمة! العيال البرتغال يضعون خرزًا أحمر وأصفر ومطاوي مسنونة وسيوفا تلمع. ويأتي الأفريكي فيلهف ما تركه العيال البرتغال، ويترك مكانه ذهبًا وتوابل وأشياء أخرى يسيل لها اللعاب.