يقول المثلُ العاميّ “إذا نَصْحِك التاجر راهي شطر النصيحة ليه” وهذا القول ينطبقُ على تّجّار البضائع وأيضا وخاصّة على تُجّار السياسة.
فعندما أرى سامية عبّو تنصح الرئيس قيس سعيّد بإستعمال قانون الطوارئ ووضع عدد من الفاسدين (وتقصد منافسيها السياسيين) رهن الإقامة الجبريّة ينتابني الضحك، وعندما أرى زهير المغزاوي يشارك في الحوارات التلفزية ويؤكد انّ حركة الشعب ( وانا أرجوه أن ينشر عدد منخرطيها) قد نصحت الرئيس بعدم التفاوض مع الحزام السياسي للمشيشي ( وهي الأحزاب ذات الأغلبية البرلمانية) أكاد أقول “بجدّك ولاّ تفدلك يا الزُّو” ؟
وعندما أسمع زهير حمدي الأمين العام للتيار الشعبي ينصح الرئيس “بإعلان خارطة طريق لإنقاذ البلاد تكون بمثابة الأفق السياسي للشعب” وتزيل الغموض من حول رئيس الجمهورية الذي “نجح في تعطيل الكثير من مخططات حركة النهضة والمافيا المتحالفة معها ونجح في إدارة المعركة في جانبها الدستوري والقانوني” أفهم إن هذه النصائح هي في الحقيقة “تعمير” الرئيس على خصوم زهير حمدي الذين “غلّبُو عليه”.
هذه النصائح الكاذبة ذكّرتني بنصيحة صادقة سمعتها منذ أكثر من 45 سنة ولازلتُ اتذكّرها إلى الآن. فما لا يعرفه عني أصدقائي وأقاربي أنني كنتُ في زمن بعيد “أشرب سقاير” … كان ذلك أيام بداية دراستي الثانوية وتحديدا في السنة الثانية والثالثة ثانوي بالنظام القديم، حين كنت ادرس في المعهد الثانوي بباب الخضراء أيام كان مديره سي الدامرجي والقيّم العام سي صيود، قبل أن أتوجّه لشعبة الآداب بالمعهد الصادقي.
كنتُ خلال السنتين المذكورتين أتسلّم من الوالد رحمه الله 100 ملّيم يوميا لتناول كسكروت ولكنني كنتُ أشتري بثمنه علبة سجائر “خضراء” ووقيدة (تلك التي أعوادها ملتصقة بالغلاف) وأقضي النهار بين الدراسة والتدخين، وكان هناك مجموعة من الاصدقاء المشجّعين على “السواقر” ومجموعة أخرى تنهى عنه، وأذكر أنّ من بين أصدقاء الدراسة وقتها صديقي شكري المبخوت الاديب والروائي الكبير حاليا، ولا أتذكّر إن كان شكري من المدخنين أم من غيرهم آنذاك.
وصادف أنّ الأستاذ الشاعر الكبير الميداني بن صالح (رحمه الله) درّسنا مادة التاريخ والجغرافيا (كانت مادة واحدة مدمجة) خلال السنة الثالثة ثانوي، وتفطّن بذكاء أهل الجريد انّ عددا كبيرا من التلاميذ يدخّنون خارج المعهد، فخصّص إحدى الحصص لموضوع التدخين رغم انه كما أسلفتُ أستاذ تاريخ، وأذكر أنه روى لنا حادثة ( حقيقية أم إختلقها ) حيث روى لنا أنه في أحد مهرجانات الشعر العربي التى انتظمت بلبنان في الستينات، أصابته نوبة صحيّة حادة دفعت بهيئة المهرجان لنقله للمستشفى على وجه السرعة. وهناك وبعد الكشوفات اللازمة، عرض عليه الطبيب صورة بالأشعة تظهر من خلالها رئتان مهترئتان بسبب النيكوتين وقال له: الآن لك الاختيار بين الموت أو الإقلاع عن التدخين.
يقول أستاذي رحمه الله أنه نظر للطبيب وقال له أرجوك يا دكتور ناولني آخر سيجارة في حياتي، فضحك الطبيب وطلب له سيجارة من أحد العاملين بالمستشفى، فاخذها ودخّن نصفها ثمّ داس على النصف المتبقّي، وكانت فعلا آخر سيجارة في حياته حسب ما أخبرنا. يومها عدّل أستاذي نظارته وقال لنا: التدخين عدوّكم الحبيب، فأنتم تضعونه في جيوبكم وتأخذونه إلى حيث تذهبون فلا تشعرون بخطره إلاّ عندما يشارف على القضاء عليكم، وخطر السيجارة الواحدة كخطر علبة كاملة… والآن أنتم أحرار، من يريد مواصلة التدخين فله ذلك ومن أقلع عنه فقد فاز بجلده.
بقيت صورة الرئتين المهترئتين والنصيحة الصادقة التي لمستها ولمسها أغلب أصدقاء الدراسة وقتها من أستاذنا المرحوم الميداني بن صالح عالقة في ذهني إلى اليوم… ومن ذلك اليوم إنقطعتُ -وكذلك عدد من أصدقائي التلاميذ- عن التدخين واندثر ذكراه لديّ مثلما إندثرت من السوق سجائر “خضراء” و”أرتي” و”حلّوزي” و”حواء” و”الكواكب” و “الجيش” … فشتّان بين من ينصحك لمصلحتك، و بين من ينصحك وكلّ النصيحة له.