لمْسُ نار

بورصة الاستفتاء

نشرت

في

فتحت مذياع السيّارة ذات جولة مسائيّة فانطلق صوت حليّم شاديا بأغنيته نعم يا حبيبي نعم …  فانتقلت إلى قناة ثانية لأجد صفيّة شاميّة تترنّم بطقطوقتها  “لأّ لأّ ما انحبّكشي”  فأغلقت المذياع مسرعة خشية أن أنتقل إلى محطة أخرى أجدهم يتغنّون فيها بالمقاطعة أو أن يعترضني عدويّة مغنّيا ” اسّح ادّح امبوه ادّي الواد لأبوه ” فيطالبنا بإعادة الدستور إلى أبويه محفوظ و بلعيد

<strong>عبير عميش<strong>

قلت في قلبي  ” هاربة من عركة (النّعم) و(اللّا) نلقاهم يتبّعوا فيّ وين ما نمشي”

هذه العركة التي قسّمت العائلات و فرّقت بين الأصدقاء و وتّرت حتى علاقات الأزواج  رغم يقين الجميع بأن الاستفتاء – إن تمّ –  ستكون فيه الغلبة لجماعة النّعم وفاء منّا لعاداتنا و تقاليدنا العربية و تجسيدا لمفهوم الأمة الإسلامية التي لا يخرج فيها الحاكم عن المحكوم …

سيصوّت الكثيرون بنعم ،  لا حبّا في قيس سعيّد و لا انخراطا في مقارباته و لا إيمانا بمشروعه (هذا إن افترضنا أنّهم اطلعوا على الدّستور برمّته)  لكن شماتة في الآخرين …

شماتة في من وعد و لم يفِ … شماتة فيمن استكرشوا و استثروا بفضل أصوات النّاخبين… شماتة في من استغلّوا مناصبهم لأغراضهم الشّخصيّة ..  شماتة في من لا يظهرون أمام المواطنين  إلا فترة الانتخابات و “يحلّولهم في الجنّة ذراع” ثمّ و بمجرّد وصولهم إلى المجلس ” يحلّوا في الجنّة ذراعات” لأرواحهم …  فيغيّرون أرقام هواتفهم و عناوين منازلهم وماركات سياراتهم و حتّى زوجاتهم أو صديقاتهم … شماتة في البانديّة و عديمي المنطق و المتلوّنين و المتسلّقين  ممن رذّلوا العمل السّياسي و شوّهوا صورة النّواب و الوزراء و المستشارين

سيصوّتون بنعم لأنّ الفشل الدّيموقراطي  طيلة عشر سنوات – رغم أنّ ما عشناه لم لم يكن ديموقراطيّة بل كان تمكينا باسم الديموقراطيّة – جعل الكثيرين يحنّون إلى دكتاتوريّة الفرد و تحكّمه في رقاب “الرّعيّة” علّ الأوضاع تنصلح ….

فرغم  أنّ تجربة  سعيّد بعد سنة كاملة من الحكم الفردي لم تكن ناجحة و لم تتحسّن ظروف المواطنين و أوضاعهم خاصّة من النّاحيتين الاقتصاديّة و الاجتماعيّة  و لم يحرز تقدّما في أي ملف من الملفات التي يتحدّث عنها فمازال إلى اليوم لم يكشف لنا عن المتآمرين … و مازلنا إلى اليوم لا نفهم أين الإشكال في مسالك التوزيع التي طالما تحدّث عن ضرورة  إصلاحها  و لا سبب فقدان العديد من الموادّ  الأساسيّة و لا كيف سيعالج نسق التضخّم الجنوني و لا كيف سيحلّ مشاكل العاطلين عن العمل و لا إن كان سيستجيب لشروط صندوق النّقد الدّولي  و لا نعرف مدى التقدّم في المشاريع الكبرى التي تحدّث عنها (المدينة الطبيّة بالقيروان مثلا)  ، فإنّ الكثيرين سيصوتون بنعم لأن البديل مفقود ، فهم يرفضون كلٍ الوجوه السياسية التي أثّثت العشرية الماضية (رغم أن سعيد نفسه هو نتاجها و جزء منها) و في ظل غياب هذا البديل يبحثون عن الاستقرار خوفا من القفز في المجهول و في تجربة جديدة لا يعلمون عواقبها بمنطق ” شدٍ مشومك لا يجي ما أشوم مِنُّو “

سيصوت الكثيرون بنعم لأن المفسرين أقنعوهم بأن التصويت بـ “لا” يعني عودة البرلمان المنحلّ و دخول الغنوشي إلى قصر قرطاج في مغالطة قانونية و تاريخية واضحة

بورصة النعم هذه الأيّام  مؤشراتها – على الأقل افتراضيا – طالعة في انتظار نتائج الواقع

طالعة بفضل تناسل الصفحات الممولة sponsorisées  دون أن نعلم من وراءها و من يدعمها و يمولها

طالعة بفضل الهجومات التي يشنّها الذباب القيسوني على كل من يدعون إلى المقاطعة أو إلى التصويت بلا

طالعة بسبب انقسام المعارضة إلى فئتين و عدم اتفاقها على رأي واحد إما بمقاطعة تامة رافضة للمسار الفرداني أو بالذهاب بكثافة للتصويت بلا و قلب المعادلة

طالعة لأن بعض من تورطوا في مساندة الرئيس مساندة مطلقة و غير مشروطة لم يعد بإمكانهم التراجع رغم إقرارهم بوجود إخلالات و نقائص في أبواب الدستور و رغم عدم موافقتهم على بعض الفصول

طالعة لأنّ المفسرين و منسقي حملات المساندة لا يحدثون المواطنين عن فصول الدّستور المقترح بل يحثونهم على التّصويت بتوزيع مطويات و ملصقات الـ”نعم” مردّدين : قولوا نعم لقيس سعيّد !  فتحوّلنا من منطق الاستفتاء على مشروع الدّستور إلى منطق المبايعة لصاحب المشروع  و الفيديوهات التي نتابعها على شبكات التّواصل الاجتماعي تؤكّد  ذلك  

طالعة لأنّ المساندين يمنعون المعارضة من عقد اجتماعاتها و من الترويج لمواقفها

طالعة لأنّ المقاطعة لا يمكن احتسابها عدديّا

طالعة لأنّ المشرّع لم يفرض نسبة مائويّة أو عتبة لا يمكن مرور المشروع دونها …

هذا دون أن ننسى أنّ الهيئة العليا “المستقلّة” للانتخابات تعيش على وقع الخلافات و التّجاذبات بين أطرافها و هي هيئة معيّنة ولاؤها لصاحب المشروع و عديد الأحزاب و المنظمات عبّرت عن فقدان الثقة في الهيئة و في المسار الذي اتبعته، و ندّدت بوجود إخلالات بل قدّم بعضها شكايات إلى المحكمة الإداريّة

و لكنّ هذا الصعود و النزول في بورصة النّعم و اللا و هذا الإصرار على مرور المشروع بقوّة، لا يمكن أن يؤدّيا إلا إلى مزيد انقسام الشعب و إلى تصاعد منسوب العنف و التوتّر بين أفراده … فلعلّ الجميع يهتدي إلى الحلّ المناسب مادام الوقت يسمح بذلك

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version