إيهيه، يذكركم بالخير ! أخيرا عاد مصطلح “المسرح” إلى معناه الأصلي الذي كدنا ننساه … ننساه أوّلا جرّاء هذه التشابيه الركيكة التي أصبح أيّ كان يطلقها على أيّ شيء … من هواة السياسة إلى متعصبي الكرة و حتى إلى وصّافي الحوادث و المحاكم، و جميعهم يطنب في تبادل هذه الصفة كالشتيمة، و في نعت أفعال الخصوم بالمسرحيات متقنة التمثيل أو سيئة الإخراج …
و يترافق ذلك مع نشل تفاصيل أخرى من جراب أبي الفنون، مهزلة، مأساة، حوار، ديكور، ستار، مشهد، قناع إلخ … و يقززك خاصة تحويل اسم “ويليام شكسبير” إلى بطل للتنكيت على غرار جحا العربي، حيث ينسب إليه كل تافه القول من فئة أنت متيقّن أنها لا تعرف من آثار الدراماتورجي العظيم و لو عنوانا لأحدها … العنوان فقط …
و كدنا ننسى هذا الفن أيضا بسبب تلك “الثورة” اللاثقافية التي اندلعت عندنا منذ ذلك العام الذي صرت أخجل من تكراره … الثورات عادة ما تطلق الألسنة و المواهب و عنان الخلق لتطير إلى حيث كانت ممنوعة من التحليق … نهضة أوروبا أتت بالمسرح الإليزابيتي، و المسرح الكلاسيكي، و قبلهما الكوميديا الإيطالية … ثورة فرنسا جاءت بالكلاسيكية الجديدة، و الرومانسية، و مسرح الشارع (البولفار) … كذلك تكررت طفرات الفن مع الثورة الصناعية، و الحربين العالميتين، و ما بينهما، و صعود الفاشية، و سقوطها، و حركات تحرر الشعوب و هكذا …
أما ما حدث لدينا في العشرية الأخيرة، فكان موتا لكل الفنون و أولها المسرح … فلا الحريات المطلقة ألهمت من كانوا يتباكون على الحرية، و لا الساسة “الثوريون” أبدوا اهتماما بأي فنّ عدا استظهارهم بصفاتهم النيابية و الوزارية لدخول المهرجانات بالمجّان … و يا ويل من يمنعهم أو لا يعطيهم البقاع الأمامية في مواجهة آلات التصوير.
المسرح البلدي أصبح لا يزيد عن مرمّة تنتهي اليوم ليعاد إغلاقها و نبشها بالمعاول منذ صباح الغد … و في الأخير جاء مجلس “منتخب” ليقرر الاستغناء عن هرم المكان الأعرق، فرقة مدينة تونس الحاملة لثلاثة أرباع تراثنا الدرامي … و هذا ما لم يفعله حكّام تونس طيلة ستين سنة خلت، بل و لم يحصل لتلك البناية منذ افتتاحها عام 1902 …
المسرح الوطني الذي أُحدث في بداية الثمانينات قبيل انطلاق أيام قرطاج التي نحن بصددها … المسرح الوطني تم التعامل معه مثل الريْع أو مثل الأوقاف التي كانت تسند للأولياء الصالحين و أعيان البلاد … مدى الحياة و حتى بعد الوفاة … جثم عليها محمد إدريس طوال أربع و عشرين سنة … و ها أن صديقه القديم الجعايبي يستلم التركة منذ سبع سنين، و قد يستمر إلى ما أكثر إذا طال به العمر، مد الله في أنفاسه …
و في الحالتين، لم تقدم هذه المؤسسة ما كان مطلوبا منها في البداية للمسرح التونسي فرقا و أفرادا و مصنفات، بقدر ما كانت حقل تجارب لمديرها و بنات أفكاره حصرا و دون سواه … تتحرك إذا تحرك، و تسكن إذا سكن، و ها أنها متجمدة منذ دهر في انتظار أن ينفتح باب العرش على قريحة صاحب المكان و الزمان …
و في أثناء ذلك، يعيش المسرحيون الآخرون رحلة تيههم في صحراء سيناء … الذي انتشلته مسلسلات التلفزة برهة من الزمن قبل أن يتحول المنتجون الجدد إلى تفضيل عارضي و عارضات الأزياء … و الذي صار قصارى همّه تقديم “وان مان شو” فقير مبنى و معنى، إلى درجة صار فيها هذا النوع من الفرجة العارية هو المسرح و المسرح هو … و الحال أنها نوع من الإسكتشات و النكت مما يقدمه في فرنسا “سماعين” و “جمال دبوز” و “إيف لوكوك” مع احترام المقامات و الفوارق الشاسعة ..
و البقية إما حالات اجتماعية تغرق في البطالة و الجوع و المرض في انتظار تأبين بنصف صفحة من وزير(ة) الثقافة … أو شلواشة لا يحتارون في تدبير عيشهم بشتى الطرق … و على رأسها التسلل إلى وسائل الإعلام لا كضيوف لهم إنتاج جديد يتحدثون عنه و يذهبون، بل على أنهم “زملاء” في الصحافة رغم أنفك و أنفي … و ها منهم مقدمون و كرونيكورات و كم سخطة أخرى تركناها لهم واسعة و عريضة …
تقول أنت و ما المشكلة في ذلك … إذ بين “الفن الرابع” و “السلطة الرابعة” مسافة كلمة نقطعها في ثانية واحدة، و لكن تعادل قرنا من الفوضى و انحطاط الشعوب.