جور نار

تحية لرجل محترم

نشرت

في

هناك من الفنانين من يوحي إليك بالوجاهة والهيبة وعلوّ النفس حتى لو لم يقل عن نفسه أنا وأنا، حتى لو لم تتجند لتبخيره أجواق من المريدين، حتى لو لم يستعرض ويستعرضوا عنه سمعة خارجية ومشاركات دولية وجوائز عالمية ...

<strong>عبد القادر المقري<strong>

هناك إذن من لا يقف في صفوف هؤلاء “العباقرة” الذين تمتلئ بهم للأسف بلدتنا الخاوية، ولا يتكلم مثلهم عن نفسه ولا يكلف من يتكلمون عنه تعظيما من الإثنين إلى الأحد (أرفض تكرار لوبانة صباحا مساء ويوم السخَطْ) … استثناءات قليلة من عندنا تستكفي بنفسها وتمارس الفن دون تطاوس ولكن بجدّ … ومع ذلك ينبع الاحترام منها دون تكلّف، وتجدك ترفع لها القبّعة على كل ما تقدّمه، ويقترن طهورها أمامك أو سماعك اسمها بكل التقدير والتوقير … من هؤلاء القلائل أذكر مثلا فنان الموسيقى عدنان الشواشي، وأيضا فنان التمثيل عبد الغني بن طارة، الذي غادرنا منذ يومين …

وإذا كنت قابلت أكثر من مرة صديقي عدنان وكنت ومازلت أرى فيه عنوانا للأناقة بكل معانيها، فإن ذلك لم يقع مطلقا مع الممثل القدير عبد الغني بن طارة ورغم ذلك … رغم ذلك كانت إطلالته المهنية على جميع مشاهدي فنه، إطلالة ارتياح وثقة وإحساس بأنك أمام فنان بمعنى الكلمة … أي بمعنى معرفة قدر الفن وقيمة الفنان ورفض النزول أو التنازل عن ذلك القدر مهما كان صغر أو كبر الدور الذي يتولى تقديمه … وأنا كسائر جمهورنا العزيز، لا أفرق كثيرا بين شخص الممثل والشخصيات التي يمثلها … سلوك ساذج أعترف بذلك، ولكنه يجد تبريره في حسن اختيار الممثل لأدواره أولا، وفي تقمص الدور إلى درجة ينسيك تماما أنه يمثل …

وهذه لعمري مشكلة الفنون الدرامية والركحية عندنا … فقاعدة الرجل غير المناسب للمكان غير المناسب ليست سائدة في حياتنا السياسية الفاسدة فقط … بل سرت عدواها إلى عامة مجالاتنا ومنها الفن، والفن الدرامي تحديدا … لكل ممثل خصائص وهبتها له الطبيعة كي يتفوق في دور دون دور، وشخصية دون شخصية، مهما تبجّح المتبجّحون … حتى شارلي شابلن لم بسلم من هذه القاعدة بدليل أنه ما نجح خارج شخصية الصعلوك المتشرد … نفس الشيء لممثلينا التونسيين والعرب … فباستثناء الثالوث السحري (أحمد زكي، نور الشريف ومحمود عبد العزيز)، من الصعب جدا أن تعثر على ممثل 4X4 ينتقل باقتدار بين أكثر من شخصية مختلفة الخصائص … صعب، صعب جدا … اللهمّ إلا إذا تعسّفنا على الطبيعة وأردنا تخليق أشكال شائهة لقيطة كما يحصل في كثير من أعمالنا ولا فائدة من الأمثلة …

سي عبد الغني كان يعرف هذه القاعدة ويحترمها ويقدم أعماله وفقها … فهو ببنيته الجسدية الضخمة بعض الشيء، ووسامته اللائقة بعلية القوم، ونبرته الحازمة قليلا، ونظرته الواثقة، تجده إما رجل أعمال، أو من أهل المناصب العليا، أو من أبناء الذوات وهكذا … وهذا ما أكسبه مصداقية في الأداء وفرضه كرجل محترم في بيئة فنية غير محترمة، بتاتا، بتاتا …

رحمه الله …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version