ما شاهدناه منذ 25 جويلية الماضي يشبه كثيرا أفلام الدرجة الثانية في ستينات السينما الأمريكية و الأوروبية … إعلان صاخب صادم شبيه بإعلان حرب، لقطات دعائية الساقط فيها أكثر من الواقف، صور لنجوم الفيلم ينطقون بجمل حاسمة و هم في أوضاع ملحمية … و في الأخير و عندما تتفرج على العمل، لا تجد سوى قصة تافهة من قصص لصوص الدجاج الذين يطاردهم بطل مفرد ينجح في تخليص قرية نائية …
لم يبق أحد في العالم تقريبا لا يعرف مشاكل تونس … ضياع مؤسسات، تلاشي حدود، دخول و خروج عصابات إرهاب و تهريب و نهب، عمليات شنيعة ترتكبها هذه، انتشار ذلك نحو البلدان المجاورة و غير المجاورة، تخصص بلادنا في تصدير القتلة و استيراد قمامات الأرض، ثم تخصصها بعد ذلك في فنون الشحاذة بعد أن أفلست من فوق لتحت و من تحت لفوق، قدوم الفيروس الكوروني على استحياء و حينما وجدها جنة أمراض رتع و استقر و طاب مقامه إلى درجة صرنا بؤرة موبئة لا نزور و لا نُزار … إلخ.
وسط هذا، و حين يخرج إلى الشارع آلاف يهتفون و يكسرون و يحرقون، و حين يكون الهتاف و الكسر و إضرام النار مستهدفا الفئة الحاكمة بالأساس، و يحمّلها مسؤولية خراب السنوات العشر … وقتها، عليك و على العالم كله أن تتوقعا اتساع الرقعة في الزمان و المكان … فتونس ظهر جليا أن تأثيرها (الشرّير خاصة) أكبر بكثير جدا مما كنا نظنّ، و أن بها زناد تفجير مدمّر لكل من حولها … لذلك يهرع كل يوم أشقاء و أصدقاء لإغاثة هذا البلد، و يحاولون ذلك منذ مدة و على رأس كل منهم مظلة واقية و في جيبه دعاء السفر و سورة ياسين و كتيّب الحصن الحصين فمن يدري؟ …
إذن خرج الناس مزمجرين في اليوم الأول، و كان يمكن أن يكون هناك يوم ثان و ثالث و رابع، و كان يمكن ألاّ يبقى لدينا يابس و لا أخضر … و جاء منتصف تلك الليلة، و طلع الرئيس على العامّة بتلك الكلمات التي لم نفهم ثلاثة أرباعها، فالفصل 80 شُغل محترفي قانون بينما شعبنا اختصاصه خرق القانون في أصغر أجزائه … لم نفهم تفاصيل عدة، و لكن ما وصل إلى أفهامنا و عقولنا الصغيرة و قلوبنا أن الغمة انزاحت … كل مستهدفي النقمة الشعبية ليلتها نالوا حظهم من العقاب … برلمـــــان الغنوشي و مخلــوف و عبير؟ آوت … هشام المشيــــشي؟ آوت … القضاء المتواطئ؟ آوتين …
لن نعيد بالصور البطيئة ما وقع ليلتها، و لكن المفيد أن الناس أحست بأن الأمل عاد و النفق جاءت نهايته… كيف و بماذا و إلام و حتّام؟ يعمل الله … المهم أُغمِدت السيوف و انتهى الاحتجاج و تنفس أجوارنا الصعداء، و من الغد توافد المراسيل و المهنئون و الواعدون و حطت الطائرات محمّلة بكميات غير مسبوقة من لقاحات كوفيد 19 … و أصبح قيس سعيّد شبيها بكلينت إيستوود محرر المدينة التي عاثت فيها عصابة الأشرار، و أصبح المرشح الوحيد لنيل جميع جوائز الأوسكار …
ساندناه هذا حاصل و مطلوب، و لكن في القلب بقي نوع من التوجّس لأسباب كثيرة نعرفها و لا نعرفها … فالرجل يتكلم كثيرا، و يفتح من الأبواب ما لا نقدر ـ و لا يقدر ـ على إحصائه … و وسائله ـ كما وسائلنا ـ محدودة و معروفة و أقلّها وسيلة الوقت، فخراب عشر سنين، يضاف إليه خراب ما سبقها، هل يمكن تعميره في ظرف شهر شهرين ثلاث؟ و واحد مثل محمد عبو أعطاه 4 أشهر، و آخرون ضعفها، و لكن بأي منهج؟
عقلاء البلاد ـ و لا أتحدث عن أدعياء “الانقلاب” فأولئك مجموعات و أفراد ممن يخشون على مصالحهم المهددة ـ عقلاء البلاد قالوا له ضع خارطة طريق فيها الأهمّ ثم المهمّ ثم الأقلّ و هكذا … و مجانين البلاد ـ و منهم أنا ـ قلنا له بل ابدأ بالأسهل فالأقل سهولة فالأصعب وصولا إلى المستحيل … مثلا، قمت برفع الحصانة عن النواب و فيهم أسماء كبيرة عليها أحكام باتة، فعلى الفور نفّذ عليها تلك الأحكام و قد صارت بيدك النيابة العمومية و لا يلومنّك أحد … 60 نائبا صدرت فيهم أحكام و كانوا تحصّنوا بالغطاء النيابي و أنت رفعت عنهم الغطاء فماذا تنتظر؟
بعد ذلك عندك أبحاث جارية و تهم خطيرة وجّهتها دائرة المحاسبات لأهمّ حزبين في السلطة (موضوع التمويلات الخارجية) … هذه تتطلب منك منع المعنيين من السفر و تحديد إقامتهم بالقانون و قانون القانون، دون تعسف … فماذا تنتظر؟
بعد ذلك عندك قضايا أخرى و ملفات ثقيلة بإمكانك اختيار عدد قليل منها و تكليف القضاء بأن يتناولها في أفضل الظروف … القطب القضائي فقير قليل العدد و العُدّة، مركون في بناية ضئيلة (المجلس الاقتصادي و الاجتماعي) لا تصلح حتى لمحكمة ناحية … بإمكانك تكثيف عدد القضاة و نقل مقرّ القطب إلى بناية التجمّع السابقة، نعم “عمارة الوطن” حيث راق لوزارة أملاك الدولة أن تمدّ ساقيها منذ أن دخل المبنى في اختصاصها و بدل تسجيله في أملاك البلاد استولت هي عليه … تعيد الوزارة الصغيرة إلى مقرها الصغير بشارع باريس، و تضع “عمارة الوطن” على ذمة القطبين القضائيين (المالي و الإرهاب) … و لو لزم الأمر، تضعهما في أعلى الطوابق و تعطّل المصعد في وجوه المتهمين حتى يذوقوا شيئا مما أذاقوه لنا !
على كل، و سواء كانت مقترحات عقلاء أو مهابيل، فإن السيد الرئيس لم يأخذ بهذا و لا بذاك و لا يبدو عليه أي حرص على الوقت … فكبار الجناة ما زالوا يسرحون و يؤلبون علينا الأنصار و الدول و وسائل إعلام الدنيا … و فيهم من وجد الوقت لإتلاف أدلة إدانته، و فيهم من هرب إلى الخارج، و فيهم من يستجمع قواه و يعكس الهجوم، و فيهم من يستغل أخطاء إجراءات إيقافه و فيهم و فيهم …
و بدل ما كان يُنتظر من إيقافات صحيحة، و فتح ملفات موثّقة، و إجراء سريع، دخلنا في متاهات و مطاردات عقيمة، و في اختصاص القضاء العسكري من عدمه، و في اعتقال على تدوينة أو شتيمة أو كلمة نابية … فيما تركنا القضايا الكبرى الخطرة على الرفّ … و عدنا إلى لغة الزقفونة و الـ “أعرفهم” و مطاوي التاريخ و خزندار و بن عياد …
لا تعنيني و لا تعني الشعب الكريم حكومة جديدة، و لا برلمان يعاد فتحه و هو في عطلة صيفية، و لا آجال دستورية أو غير دستورية، و لا حرية أحزاب أو ديمقراطية جلباب، و لا خارطة طريق … خارطة الطريق الوحيدة التي يطلبها منك الناس هي الواصلة بين قبة باردو و حبس المرناقية … و أيضا تلك التي تكون سالكة بين التونسيين و كرامتهم المهدورة و حقهم الضائع … أما دون هذا، فهراء و بيع للمراكب الهواء …