سجّل يوم 5 تموز (يوليو)، هذا العام، الذكرى الـ 30 لرحيل الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد (1929ـ 1994)؛ ليس من دون ظلال دامية وقاتمة على ما يشهده قطاع غزّة وسائر فلسطين من جرائم حرب يواصل ارتكابها الكيان الصهيوني، ذاته الذي كتب زيّاد عشرات القصائد في مناهضة مكوّناته العنصرية والاستيطانية؛ عبر القصيدة غالباً، وعضوية الكنيست بين حين وآخر، وفي كلّ مناسبة سنحت للشاعر من موقعه في رئاسة بلدية الناصرة.
وزيّاد نموذج معياري، على أكثر من صعيد: أولاً بين الفلسطيني ابن الـ 48 كما يُقال عادة على سبيل التصنيف الزمني الذي يُدرج جغرافيا فلسطين التاريخية أيضاً، والفلسطيني ابن الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة والشتات. وثانياً ضمن الحركة الشعرية الفلسطينية داخل الأرض المحتلة، التي تبلورت سماتها المتميزة والنوعية والفارقة وتلهف الوجدان العربي الجريح (خاصة بعد نكسة حزيران/يونيو 1967) على توحيدها تحت مسمى “شعر المقاومة”. وثالثاً ضمن صفوف تلك الشريحة الخاصة، الكفاحية تارة والإشكالية تارة أخرى، للفلسطيني المنتمي إلى “راكاح” والحركة الشيوعية الإسرائيلية، والحالم/ المؤمن بمآل أممي أو حتى بروليتاري في فلسطين التاريخية.
وفي سنة 1970 كان أحمد سعيد محمدية، صاحب “دار العودة” الذي ينشر من بيروت، قد اتخذ قراراً جسوراً وصائباً بإدراج مجموعة “شيوعيون” ضمن أعمال زيّاد الكاملة، التي صدرت يومذاك تحت عنوان “ديوان توفيق زيّاد” ضمن السلسلة الشهيرة ذات الغلاف الأحمر، والتي ضمّت عشرات الشعراء العرب. وأوضح محمدية في تقديم “شيوعيون”، أنّ الدار احتفظت بنفس العنوان الذي اختاره الشاعر “إيماناً منها أنه قد آن الأوان لفكّ الأسوار من حول ذهن المبدع العربي”، وأنه “من العار حتى هذه الفترة التي أعقبت حزيران أن تستمرّ القيود والوصايات والحجز على أفكار الكتّاب والشعراء وكلّ المبدعين”.
وكان جميع “شعراء المقاومة”، محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران أساساً، قد كتبوا قصائد صريحة التوجّه في منحى التضامن الأممي، على غرار ما فعل شعراء يساريون وشيوعيون أمثال لوي أراغون وبول إيلوار وناظم حكمت ولويس ماكنيس؛ ضمن مناخات شبه جماعية أشاعتها في تلك الحقبة تيارات الواقعية الاشتراكية، سواء مثّلها روائي من طراز مكسيم غوركي أو بيروقراطي ستاليني على غرار أندريه جدانوف. غير أنّ زيّاد كان الأعلى كعباً في هذا الخيار، ومجموعته الأولى “شيوعيون” تتغنى بالتيار السياسي والعقائدي الشيوعي ابتداء من العنوان، ثمّ القصيدة الأولى (“قالوا: شيوعيون. قلتُ: أجلّهم/ حمراً بعزمهم الشعوب تُحرّر”)؛ قبل أن تنتقل إلى قصائد تمتدح عمال موسكو، وتقف أمام ضريح لينين، وتسافر إلى أثينا ضدّ النازية، وعراق القائد الشيوعي فهد، ومصر 1951، وعبدان وأحرار إيران، ولا تتجاهل لومومبا في أفريقيا، وإضرابات ألما آتا في كازاخستان…
ولعلّ أفدح اختزال يمكن أن يُساق إليه زيّاد، والأشدّ تسطيحاً وتبسيطاً وابتساراً في الآن ذاته، هو حشر الرجل/ الشاعر في هذا الإسار الوحيد والأوحد؛ الذي كان ضيّقاً بالطبع، وأوهى من أن يُطلق شعريته على سراحها العريض الدافق. ولكنه في الآن ذات ظلّ يمهّد لما سيتكشف سريعاً من حيوية رفيعة في تشذيب النبرة الخطابية والتقريرية، والخروج (كما فعل بعدئذ، مراراً) بصياغات تركيبية بارعة تجمع عناصر لم يكن يسهل جمعها في تلك الأطوار: التزام سياسي وغنائية شفيفة وفولكلور محدَّث ورومانسية منضبطة.
هكذا كانت مجموعة زيّاد الثانية “أشدّ على أياديكم”، 1966، التي بدت أشبه بمراجعة جذرية للسمات التي طبعت المجموعة الأولى المبكرة، ولم يكن غريباً أنه استهلها بقصيدة حملت عنوان “رجوعيات”، تصادى فيها زيّاد مع غالبية عناصر شعره السالفة ولكن ضمن أنساق مَزْج تعددية أو حتى اختراقية؛ كما حين يقول:
“أحبّيني أنادي جرحك المملوء ملحاً، يا فلسطيني أناديه، وأصرخ: ذوّبيني فيه.. صُبّيني أنا ابنك: خلّفتني ها هنا المأساة عُنقاً تحت سكين أعيش على حفيف الشوق في غابات زيتوني وأكتب للصعاليك القصائد سكّراً مرّاً وأكتب للمساكين”.
وهذه سطور لا تسعى، في المقابل، إلى ترسيخ أيّ طراز من الوهم والاستيهام حول الموقع الإجمالي الذي شغله زيّاد بالمقارنة مع الثلاثي درويش والقاسم وجبران، إذْ إنه لم يكن الأقلّ بينهم اكتراثاً بفنّ الشعر واستحقاقات القصيدة فحسب؛ بل كان الأكثر، بما لا يُقاس غالباً، انشغالاً بالتعبير السياسي وحسّ الالتزام والتضامن الأممي والانضباط الحزبي، حتى حين كان خزينه الشعري الثرّ ينتصر للشعر في وجه النبرة الخطابية والتقريرية. بل قد لا تكون هناك غضاضة، وربما على العكس: من باب إنصاف زيّاد، أن يساجل المرء بأنه كان امتداداً طبيعياً لحركة شعرية فلسطينية كبرى سابقة، ضمّت أمثال إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، حسن البحيري، مطلق عبد الخالق، ومحي الدين عيسى.
خيار زيّاد، الحاسم كما يتوجب القول، كان الانقياد إلى الملح في الجرح الفلسطيني؛ والإنشاد، في آن معاً: “أنا ما هُنتُ في وطني/ ولا صَغّرتُ أكتافي/ وقفتُ بوجه ظلاّمي/ يتيماً، عارياً، حافي/ حملتُ دمي على كفّي/ وما نكّستُ أعلامي”.