لمْسُ نار

تونس المتسوِّلة

نشرت

في

تجتاح شمال أوروبا و خاصة ألمانيا و بلجيكا و هولاندا فيضانات عارمة تسببت في قتل و تشريد المئات و تدمير البنية التحتية مما جعل المجتمع الدولي يتضامن مع هذه البلدان و يوجّه إليها إعانات مختلفة.

<strong>عبير عميش<strong>

و قد استغل الكثيرون في بلادنا هذه الوضعية و خاصة أهل السلطة منهم ليوجهوا لومهم إلى الشعب الذي أخجلته الإعانات التي أرسلتها مجموعة من الدول الصديقة إلى تونس من مستشفيات ميدانية و معدات طبية و تجهيزات صحية و فرق طبية و تلاقيح و حتى أطنان من الأسماك الموريتانية، إذ عبّر المواطنون التونسيون عن ألمهم من تردي الأوضاع في تونس و احتياجها إلى المساعدات بطريقتهم الساخرة المعهودة، تلك السخرية السوداء التي تفيض مرارة و هم يرون بلدانا كنا نخال أنفسنا أكثر منها تقدما و رقيا تبادر إلى مآزرتنا و مساعدتنا…

هذا الألم تفطنت إليه و عبرت عنه جريدة libération الفرنسية في مقالها ليوم الخميس 15 جويلية تحت عنوان ” تونس : الفيروس يخدش الكرامة الوطنية ” ” Tunisie : Le virus contamine la fierte nationale ” أقول إذن بأن أهل السلطة كانوا يضحكون و يتسابقون نحو الصور و هم يستقبلون هذه المساعدات و يتباهون بها و كل فريق ينسبها إلى نفسه و يفاخر الطرف المقابل بقدرته على توفيرها و يهزأ منه لعجزه عن إتيان أمر مماثل، بل يعتبرونها أمرا عاديا و مظهرا من مظاهر التضامن الدولي أثناء الكوارث لا علامة عجز و إفلاس و يستشهدون بطلب إيطاليا للإعانات في الموجة الأولى للوباء في مارس 2020 و بتلقي ألمانيا إحدى الدول الكبرى اليوم المساعدات إثر الفيضانات التي أغرقت جزءا من البلاد و يلومون الشعب على إحساسه بالخجل و المهانة….

أقول لهؤلاء اللائمين لا وجه للمقارنة بيننا و بين ألمانيا فألمانيا و غيرها من البلدان أصابتهم كارثة طبيعية مفاجئة لا يمكن لأعتى الدول أن تستعد لها و لا لوم على حكومتهم إن طلبت المساعدة لإعادة الحياة بأسرع وقت ممكن… و في إيطاليا إبان الموجة الأولى للوباء، كان الفيروس غير معروف و طرق التحكم فيه و السيطرة على تقدمه غير معلومة، فلا لوم إن امتلأت المستشفيات و شعر الأطباء بالإرهاق و عجزوا عن المقاومة بمفردهم و طلبوا مساعدة الدول المجاورة.

أما في تونس فالكارثة بشرية و ليست طبيعية. و الشعب لا يلوم على الدول التي بادرت إلى مساعدته و لا يهزأ منها بل بشكرها على تجندها و تطوّعها لإخراجه من هذه الأزمة و لكنه في سخريته و في شعوره بالمهانة يصب كل لومه و غضبه على من يحكمونه، الذين انشغلوا بصراعهم على الحكم و السلطة و تركوا الوباء يتغلغل بين أفراد الشعب فتخاذلوا في توفير التلاقيح و لم يعملوا على تطوير طاقة استيعاب المستشفيات و لا على تعزيز إمكانياتها بالإطار الصحي اللازم و لا بالتجهيزات الضرورية…

كل الدول استعدت و تسابقت لأجل تأمين الصحة لمواطنيها أما في بلادنا فقد أضعنا أكثر من ستة أشهر في تغيير الحكومات و الوزراء رغم تحذيرات المختصين، و لم تخصص حكوماتنا ميزانية لشراء اللقاحات و فضلت الاعتماد على ما توزعه منظمة الصحة العالمية للدول الفقيرة.. و هذا هو ما أثار حفيظة الشعب عليها و جعله يشعر بالمهانة و لكن إن نظرنا إلى الوضع من جانب آخر فهل الحكومات وحدها هي المسؤولة عن الوضع التونسي المتردي ؟ من الذي انتخب هذا البرلمان و هؤلاء النواب؟ و من الذي أوصل الفاسدين و المجرمين و المتهربين و المهربين و الشعبويين و المتسلقين إلى السلطة غيره؟

هل حاسب الشعب يوما نفسه ؟ هل تساءل يوما : ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع غير استهتاره بقواعد البروتوكول الصحي و بضرورات التباعد الجسدي و إصراره على مواصلة حياته بطريقة عادية و إنكاره أحيانا لوجود الكورونا؟! ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع غير تواكل التونسي و استمرائه للقمة الباردة و تفضيله للراحة على التعب و تلذذه بـ”رزق البيــليــك” ؟ ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع غير خيارات التونسي الخاطئة في الانتخابات و بيعه لصوته بكرذونة من المساعدات أو بمبلغ مالي تافه أو بوعود غير واقعية أو حتى ماورائية؟ ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع غير توالي الإضرابات و الاعتصامات و الاستقواء بالنقابات لتركيع الدولة و التمتع بالزيادات ؟ من الذي ساهم في إفلاس البلاد و في تراجع مواردها هل الحكومات وحدها أم الشعب التونسي الهمام؟؟!!!

كم مليارا خسرنا بسبب توقف إنتاج الفوسفات أو بسبب اعتصام الكامور ؟! كم مليارا خسرنا بسبب مغادرة عديد الشركات و المؤسسات العالمية لبلادنا ؟! كم مليارا خسرنا بسبب أخطاء في الإجراءات أو إضاعة الملفات أو عدم حسم في القرارات ؟! كم مليارا خسرنا بسبب سوء التصرف و ضعف الحكومة و الفشل في إدارة الموارد ؟! و رغم هذا الضعف و الوهن و الهوان الذي نعاني منه مازال التونسي ينظر إلى نفسه باعتباره أذكى أهل البسيطة و أكثر الناس علما و فطنة و خبثا بالمعنى الإيجابي و يعتقد أنه محور الكون و مدار اهتمام العالم و لذلك يتعرض دوما إلى المؤامرات لتقزيمه و لنشر الوباء بين أفراده، فحتى المساعدات رأى فيها بعض المرضى مؤامرة و محاولة انقلابية على الاستقرار التونسي المزعوم…

رغم هذا الوهن و الهوان الذي نعاني منه مازال التونسي غير واع بعمق الوهم الذي يعيشه و بأن حركة التاريخ لا يمكن أبدا أن تنتظره و أن العالم من حوله يتطور و أنه يعيش تلك التهويمات ليغطي عقد النقص التي تتملكه و نسي أنه كائن مليء بالعقد و العيوب و أنه مغرور ” منفوخ على الفارغ” كما نقول بالدارجة التونسية و أنه حاليا من أشد شعوب الأرض حاجة إلى المساعدة بعد أن استفحل الوباء و سجلت تونس أعلى نسب الوفيات… فلماذا يلوم الشعب على الدولة و سلوكها من سلوكه و استهتارها من استهتاره و تهاونها و تقصيرها من تهاونه و تقصيره و تسولها من تسوّله؟!

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version