جور نار
تونس في مهبّ الأحقاد … بين مطرقة قيس وسندان الطبوبي!
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrashيتحوّل السيناريو التونسي من مشهد الى آخر ومن فصل إلى غيره، بشكل يخلق حالة من عدم الاستقرار والثبات في قراءة وتحليل المستجدات والمعطيات، واستشراف القادم بشكل يتيح لنا فهم الأدوار، وما قد تؤول إليه الأحداث في قادم الأيام والاشهر…
تونس التي عرفت ومنذ خروج بن علي رحمه الله “زحمة واكتظاظا” في الأحداث والفعل وردود الفعل تراوحت بين الاغتيال والاختطاف والتسفير والتهجير والتهديد والوعيد وتهميش وإذلال أغلب كفاءات البلاد، وأغلب القيادات السياسية والإدارية التي صنعت ربيع ومجد تونس…فربيع تونس الحقيقي سبق بكثير الربيع العربي المزعوم الذي جاء بنيّة قطف ثمار ما صنعه كبار الكفاءات التونسية في المؤسسات العسكرية والأمنية والتعليمية والصحيّة والإدارية والتربوية، فالربيع العربي المزعوم جاء لإذلال جيل ذهبي صنعته منظومتا بورقيبة وبن علي رحمهما الله ودون أن تعي فداحة ما اقترفته أرغمت كبار الأطباء والمهندسين والقضاة والإعلاميين والكتاب والمؤرخين والعلماء والباحثين على البحث عن حضن آخر أكثر استقرارا وأمنا يحتضنهم…
الربيع المزعوم لم يغيّر حال أبناء هذا الوطن الجريح…بل ذبحهم ومنع عنهم الفرح وعاد بهم إلى أكثر من قرن إلى الوراء…من حكمونا منذ احدى عشرة سنة نسوا أن العمل السياسي يحتاج إلى قيادة حكيمة ناجعة تتعامل مع العقل وتُغلّبُه على العاطفة والمزاج…أغلب من حكموا تونس منذ 14 جانفي لم يحكّموا العقل بل جاؤونا بخطاب الكراهية والعنف…هؤلاء لم يأتوا لبناء وطن واحد لشعب واحد بل جاؤوا لتقسيم الوطن…وتشتيت شمل الشعب… ماذا فعل خطاب الكراهية والحقد في الشعب الواحد؟ مزق شعبا بأكمله… وزرع الكراهية والخوف حتى جعل هذا الشعب يعرف مستوى معيشيا متدنيا لم يعرفه سابقا…فالحرية والديمقراطية لا تعوضان الرغيف ولا تشبعان الشعب من جوع أصبح يدقّ على أبواب أكثر من ثلث شعب مخدوع…واليوم أيضا تتواصل الخديعة ويواصل بعضهم ملء صدور البعض الآخر حقدا وكراهية على بعض هذا الشعب…
سندان ساكن ساحة محمد علي…
تونس اليوم تعيش خديعة أخرى لم تعشها سابقا…تونس تعيش بين مطرقة ساكن قرطاج، وسندان ساكن ساحة محمد علي وكلاهما أخطأ ويواصل الخطأ في قراءة المشهد الذي تعيشه البلاد وكلاهما أساء تقدير حساسية المرحلة وهشاشة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وترديه…فالاتحاد يحاول جاهدا وبكل الطرق انقاذ نفسه من ورطة عشرية هدم البناء الذي بناه رجالات تونس، فأعلن الحرب على ساكن قرطاج محاولا إيجاد موطئ قدم في “المنظومة القيسونية” وكسب ودّه شريكا بكامل الأوصاف والصلاحيات كما كان مع من سبقه، ليس حبّا في هذا الشعب كما يظنّ البعض بل انقاذا لنفسه من تبعات شراكة كاملة في حكم عشرية هدم وخراب…فقيادات الاتحاد لم تعدّل الفصل العشرين من نظامها الداخلي من أجل عيون العاطلين عن العمل، أولئك الذين عذبتهم طيلة عشرية كاملة ويزيد بوعود وهمية وكذب وخداع وهراء، بل عدّلته للبقاء في مواقعها دفاعا عن مصالحها وانقاذا لنفسها من محاسبة آتية لا ريب فيها…فالاتحاد كان شريكا بأكثر من النصف في حكم العشرية التي أطلق عليها أمينه العام “عشرية الخراب”…متناسيا انه كان شريكا بأكثر من النصف وكان الآمر الناهي في كل ما تقرره الحكومات التي مرّت على القصبة…قيادات الاتحاد لم ترأف بحال البلاد يوما واحدا، وهي حقيقة ينفيها البعض وتشخيص يخفيه البعض خوفا من عقاب ساكن ساحة محمد علي …
اتحاد “الطبوبي” وخلافا لما تعرفه النقابات لم يكتف بالدفاع عن منظوريه بل وصل به الجبروت والاستبداد والغطرسة إلى معاقبة بعضهم وحرمان كل من تسوّل له نفسه انتقاد سياسات ساكن ساحة محمد علي من حقوقهم، وقد يصل الأمر إلى المطالبة بعزلهم او بتجميدهم أو حتى تجريدهم من خطتهم الوظيفية…فالحاكم الفعلي كان ولا يزال في أغلب المؤسسات هو الاتحاد…فهو من تنكّر لكل الشعارات التي رفعت قبل واثناء حراك 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 …نعم هو من اختار ليّ ذراع كل الحكومات مطالبا بتسوية الوضعيات والنفخ في الأجور والمرتبات ولم يفكّر يوما في تجميد الأسعار والأجور لخلق فرص جديدة لتشغيل من ماتوا و هم يطالبون بالتشغيل، ومن وعدوهم بالخروج من محنتهم….فماذا وقع؟…لا شيء …تواصلت بطالة مئات الآلاف…وانتفخت مرتبات وأجور الموظفين والموظفات والعاملين والعاملات…فهل كان الوزير يتصرف وحيدا في وزارته؟ لا… كانت النقابات الأساسية تفرض عليه ما تريد، متى تريد، وكيف تريد…وهل كان المدير العام يتصرّف كما يريد في إدارته؟ لا…كانت النقابة الأساسية تفرض عليه ما تريد ومتى تريد ولمن تريد…هكذا عاشت البلاد في عشرية هدم وخراب كان الاتحاد شريكا بأكثر من النصف في ما وقع فيها…واليوم بما يأتيه، يحاول فقط التخلّص من تبعات ما أتاه طيلة عشرية يصفها بعشرية الخراب وهو الحاكم بأمره فيها وخلالها…
و مطرقة ساكن قرطاج…
أتحوّل للحديث عن مطرقة ساكن قرطاج التي لا تختلف كثيرا عن سندان ساحة محمد علي، فقيس سعيد لم يقرأ المشهد جيدا وكما يجب، وسقط في نفس الفخّ الذي سقطت فيه الترويكا حين تسلم الحكم من “داهية” وديناصور سياسي خبر كل فنون وفخاخ الحكم ومنزلقاته وتعلّم على يد بورقيبة ورفاقه رحمهم الله جميعا…فالباجي رحمه الله ترك إرثا ثقيلا على كل من سيأتي بعده، حين جلس في القصبة لسنة أعتبرها شخصيا سنة درء السقوط في ما سقطت فيه بقية الدول التي اكتوت بربيع عربي قاتل مات بين أزهاره الاصطناعية المزيفة الآلاف…وشُرّد بشوكه الموجع الملايين…
قيس سعيد كان يتصوّر ان حكم البلاد وإصلاح حالها، بالبساطة التي يكتب بها خطبه وتهديده ووعيده وويله وثبوره، وسقط في نفس ما سقطت فيه النهضة قبله، فقيادات النهضة تصوّرت أن الدولة هي “صندوق” من المال يوزعه من يحكم كما يريد لمن يريد متى يريد، فخاب ظنّها وتصوّرها، ففشلت في الحكم وخرجت منه رغم أنفها لتعود إليه خلف “الستار السبسي”…ألم تعد النهضة بتشغيل 550 ألف عاطل فلم تنجح في تشغيل عاطل واحد ممن ماتوا ينتظرون وصول ورقة تشغيلهم …
قيس سعيد لم يلتفت يوما لما وجب أن يلتفت إليه من مشكلات البلاد، بل اكتفى منذ صعوده إلى قرطاج بمحاربة خصومه ومحاولة التخلّص منهم وتشتيتهم لغاية في نفسه ونفس من يساعده في تخطيط مستقبل البلاد على مقاسه…رئيسنا لم يستسغ أن يكون رئيسا منقوص الصلاحيات فقرر أن يقلب كل الأوضاع لصالحه على طريقته…ولم يكتف بخطبه النارية والعنقودية بل نجح في صناعة مبررات “انقلابه” الدستوري، فعطّل عمل حكومة من اختاره هو ليكون صاحب القصبة…ولم يحرّك ساكنا أمام غزو الوباء ديارنا الا بعد أن استولى على البلاد ومفاصل حكمها… ووضع كل العراقيل الممكنة في طريق كل عمل حكومي وكل قانون برلماني…ونجح في جرّ البعض إلى أرض معركته، من خلال اللعب على مزاج جزء كبير من الشعب، فزرع في أذهانه حقدا وكرها لكل من سبقوه في حكم البلاد…فقيس سعيد بما أتاه ضاعف كميّة الحقد في نفوس اتباعه وأنصاره والآلاف من الشعب المخدوع بخطابه التحريضي الذي كانت خلاصته “أنا أولا أحد”، الأمر الذي جعل كل من لم يغنموا شيئا من الربيع العربي والعشرية التي سبقت مجيء قيس سعيد للحكم يوجهون أصابع الاتهام لمنظومة النهضة وكل من حكموا معها وبها ومن خلالها البلاد قبل انتخابات 2019 وخلال سنة ونصف من حكم قيس سعيد ومن معه…فخلال عام ونصف لم يبق قيس سعيد مكتوف اليدين بل نجح في خلق الذرائع وصناعة المبررات لتفعيل الفصل 80 الذي طالبه به البعض…وقد كان خلال تلك المرحلة يرفض فكرة الالتجاء إلى تفعيل ذلك الفصل، وأكّد على ذلك سويعات قليلة قبل غزوة عيد الجمهورية المفتعلة والتي كانت مِسك ختام مرحلة خلق الذرائع وصناعة المبررات…
إذن نجح قيس سعيد في جرّ أغلبية الذين يضمرون شرّا بمنظومة الحكم التي سبقته إلى صفّه، وجعل من الأحداث التي عاشتها البلاد يوم 25 جويلية بأيادي اتباعه وبعض “المبهورين” بخطابه ذريعة للالتجاء إلى ذلك الفصل الذي كان قبل سويعات يقول ويؤكّد أنه لن يلتجئ إليه، مباشرة بعد تفعيل الفصل 80 وإعلان انقلابه دستوريا على نفسه ـ فهو من المنظومة ويعتبر أهمّ اضلاعها ـ خرج عشرات الآلاف يجوبون الشوارع فرحا بما وقع وترحيبا بقرارات الرئيس، وكان من بين هؤلاء الدساترة ومتفرعاتهم، واليسار ومكوناته، وأغلب الأحزاب التي لم تجد مكانا تحت شمس قبّة باردو، وتصوّر الجميع أن الرئيس امتلك المشهد السياسي برمته ونجح في كسب ودّ كل الشعب، والحقيقة هي أن كل الذين خرجوا ليلتها لم يخرجوا يهتفون بحياة الرئيس حبّا فيه بل لأنه فقط ابعد النهضة ومن معها من الحكم…بعض هؤلاء وأحزابهم أخذهم الطمع في التواجد في منظومة حكم قيس سعيد القادمة فخرجوا يهتفون باسمه وبما اتاه…هؤلاء جميعا خاب ظنّهم بعد عشرة اشهر من انقلاب الخامس والعشرين من جويلية وعادوا إلى مواقعهم وأحزابهم ساخطين…
هذا الأمر يؤكّد حقيقة واحدة هي أن اتباع قيس سعيد وانصاره هم من سكان الفضاء السيبرني ولا وجود لهم في الواقع…وقد يخيب ظنّ الرئيس في قادم الايام حين يدرك ان حجم من ناصروه لا يتجاوز حتى نصف من انتخبوه في الدور الأول…فكل من خرجوا مساء الخامس والعشرين عادوا وسيعودون في قادم الأيام إلى أحزابهم، وإلى مواقعهم غاضبين فهو لم يغيّر من حال من انتخبوه، ولم يصلح امرا واحدا مما كان ينتقد اعوجاجه حين كانت النهضة ومن معها بقيادة من اختاره للقصبة يحكمون…خلاصة ما جرى ويجري قيس سعيد يتابع كثيرا عمليات سبر الآراء “الزرقونية”، ولم يع إلى حدّ الساعة أن الزرقوني يخدعه ويحاول ايهامه بوضع مخالف لواقع سياسي منفلت…فحتى من انتخبوه لم يكونوا ابدا من أتباعه، ولا من أنصاره، بل كانوا قواعد وأتباع أحزاب أخرى قررت قياداتها قطع الطريق امام خصمه خوفا من تبعات ما اشتبه به هذا الأخير…فقيس سعيد يفاخر بشعبية وهمية افتراضية زرعتها في ذهنه عمليات سبر الآراء، وهذه “الشعبية” الافتراضية والوهمية ومن يؤثثها لن يخرجوا غدا من شاشات هواتفهم ليذهبوا إلى الخلوات الانتخابية ليختاروه رئيسا للبلاد لدورة ثانية، أو لاختيار دستوره الذي كتبه على مقاسه ومقاس ما يريده …وهذا هو الخطأ الأخطر والوهم الأكبر الذي وقع فيه قيس سعيد ولن يقبل بأن يناقشه فيه أي ممن هم حوله…وقد يستفيق يوم إعلان نتائج الاستفتاء على دستوره المنتظر…بحجم أتباعه الحقيقي…حينها سيدرك ان خدمة الشعب لا يمكن أن تكون بزرع الأحقاد هنا وهناك وتقسيم البلاد مللا وطوائف…
إلى اين نحن سائرون؟
فهل بخطاب الكراهية والحقد نبني وطنا يتألم…ألم نقرأ الدرس من الدول التي سار حكامها على نهج خطب الكراهية والعنف والحقد وزرع الفتن؟ ألم نبك حالهم وحال شعوبهم؟ فهل يجب أن تبكي الشعوب الأخرى حالنا، ونحن نعيش حالة من الانقسام والتشرذم بسبب الأحقاد والكراهية؟ كل الدول التي راهنت على خطاب الكراهية سقطت في مستنقع التخلّف والجهل والفتن والفقر وعاشت استبداد وغطرسة دكتاتورية قياداتها التي تبنت ذلك الخطاب…وكل الدول الفقيرة التي نسيت أحقادها، وتصالحت بينها وبين بعضها، وتبنت خطاب التسامح والاعتدال والتجميع والإصلاح، نجحت في الخروج من حالة الفقر وأصبحت تطمح لمنافسة بعض الدول الكبرى والغنية …
لم يقف خطاب الحقد والكراهية عند قيس سعيد ومن معه من أتباع ومريدين بل تعداهم إلى منصات التواصل الاجتماعي، واصبح يشكل خطرا على مشهد سياسي مأزوم…فتفشي ثقافة الحقد والكراهية قد تتحوّل إلى فتنة تأتي على ما بقي من أخضر في هذا الوطن “اليابس”…فتونس هي أكثر الدول العربية يتداول شعبها خطابا حاقدا ومحرّضا على “الفايسبوك”…ومن أكثر الشعوب تضليلا وتصديقا لخطاب التضليل على منصات التواصل الاجتماعي… فإلى متى تواصل حكومات ما بعد 14 جانفي سرقة اللقمة من أفواه فقراء هذه البلاد بخياراتها الخاطئة…وإلى متى يتواصل سلب جيوب المحتاجين من أبناء هذا الشعب بحجج واهية ومبررات لا ذنب للشعب فيها…
تمرّ تونس اليوم بأسوأ مراحل وجودها منذ بعثت أي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة… بؤس وفقر واحباط واعتقالات وسجن لحرية الراي وتشويه سمعة وصناعة مبررات وخلق ذرائع وهمية… لن نخرج مما نحن فيه ولن نستطيع التغيير إذا بقينا على اختلافاتنا هذه…لن ننجح مستقبلا في الوقوف في وجه العنف إن واصلنا نشر هذا الخطاب البغيض الحاقد…ولن نستطيع أن نضمن استقرارا وأمنا لأجيالنا القادمة إن واصل بعضنا خطاب الانا والانانية وبقي يحاكم التاريخ ومن تولوا قبله بأحكام مسبقة وبحقد لا نعرف مصدره أو إلى اين يمضي…بعض ما يقع في هذه البلاد ومنذ أكثر من عشر سنوات يحرمنا من التعايش بسلام بعضنا مع بعض، ويحرمنا من أهم شيء داخل النفس البشرية “إنسانيتنا”…علينا ان نقبل بالاختلاف وأن لا نعتدّ بأغلبية مساندة صورية وهمية لا وجود لها في غير شاشات هواتفنا الغبيّة…علينا أن ندرك أن الحياة تنوّع…والحياة اختلاف وليست خلافا…فبعض ما نعيشه اليوم وما نراه هو رقابة على ألسنة الناس…وعلى ما قد يدور في عقولهم…وقد وصل بنا الأمر إلى محاسبة بعض الناس على نواياهم وما يضمرون…أأصبحنا نعلم بما في الصدور؟؟
إصلاح حال هذه البلاد يمرّ حتما عبر إتاحة المساحة للجميع لممارسة دورهم دون أن يتملكنا الخوف ممن يختلفون معنا في الانتماء والتفكير…فإصلاح أوضاعنا يمرّ أولا وقبل كل شيء عبر ترك سوء النيّة، وحسن الظنّ بالآخرين، حتى وإن كانوا خصوما ومنافسين لنا سابقا ولاحقا…
علينا أن نؤمن بحرية عقل كل ساكن على هذه القطعة من الأرض، فداخل كل فرد من هذا الشعب تكمن قدرة فائقة على تغيير الأوضاع…كل الأوضاع…ولا يجب الاستهانة بما يمكن أن يغيّره العقل البشري…فعقل الانسان هو الذي يسيّره نحو الخير أو نحو الشرّ…فلنحاول تغليب الخير على الشرّ في عقولنا جميعا… لنخرج هذه البلاد مما هي فيه بأخفّ الاضرار…
ولمن يتمسّك بمحاكمة الماضي ألا ينسى انه سيصبح غدا من الماضي، وقد يحاكمه المستقبل؟…إن لم يفعل ذلك حاضرنا…فنحن لا نقدس الماضي كما يتصوّر البعض ولا نبكي عليه رغبة في العودة إليه، فالماضي لا ولن يعود…إنما نحن نخاف على حاضرنا بما فيه…ونخاف مستقبل أبنائنا بما قد يقع فيه…فزرع بذور الحقد…لا ينبت القمح…
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل يوم واحد
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل يوم واحد
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 4 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟
تعليق واحد