تابعنا على

جور نار

تونس في مهبّ الأحقاد … بين مطرقة قيس وسندان الطبوبي!

نشرت

في

يتحوّل السيناريو التونسي من مشهد الى آخر ومن فصل إلى غيره، بشكل يخلق حالة من عدم الاستقرار والثبات في قراءة وتحليل المستجدات والمعطيات، واستشراف القادم بشكل يتيح لنا فهم الأدوار، وما قد تؤول إليه الأحداث في قادم الأيام والاشهر…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

تونس التي عرفت ومنذ خروج بن علي رحمه الله “زحمة واكتظاظا” في الأحداث والفعل وردود الفعل تراوحت بين الاغتيال والاختطاف والتسفير والتهجير والتهديد والوعيد وتهميش وإذلال أغلب كفاءات البلاد، وأغلب القيادات السياسية والإدارية التي صنعت ربيع ومجد تونس…فربيع تونس الحقيقي سبق بكثير الربيع العربي المزعوم الذي جاء بنيّة قطف ثمار ما صنعه كبار الكفاءات التونسية في المؤسسات العسكرية والأمنية والتعليمية والصحيّة والإدارية والتربوية، فالربيع العربي المزعوم جاء لإذلال جيل ذهبي صنعته منظومتا بورقيبة وبن علي رحمهما الله ودون أن تعي فداحة ما اقترفته أرغمت كبار الأطباء والمهندسين والقضاة والإعلاميين والكتاب والمؤرخين والعلماء والباحثين على البحث عن حضن آخر أكثر استقرارا وأمنا يحتضنهم…

الربيع المزعوم لم يغيّر حال أبناء هذا الوطن الجريح…بل ذبحهم ومنع عنهم الفرح وعاد بهم إلى أكثر من قرن إلى الوراء…من حكمونا منذ احدى عشرة سنة نسوا أن العمل السياسي يحتاج إلى قيادة حكيمة ناجعة تتعامل مع العقل وتُغلّبُه على العاطفة والمزاج…أغلب من حكموا تونس منذ 14 جانفي لم يحكّموا العقل بل جاؤونا بخطاب الكراهية والعنف…هؤلاء لم يأتوا لبناء وطن واحد لشعب واحد بل جاؤوا لتقسيم الوطن…وتشتيت شمل الشعب… ماذا فعل خطاب الكراهية والحقد في الشعب الواحد؟ مزق شعبا بأكمله… وزرع الكراهية والخوف حتى جعل هذا الشعب يعرف مستوى معيشيا متدنيا لم يعرفه سابقا…فالحرية والديمقراطية لا تعوضان الرغيف ولا تشبعان الشعب من جوع أصبح يدقّ على أبواب أكثر من ثلث شعب مخدوع…واليوم أيضا تتواصل الخديعة ويواصل بعضهم ملء صدور البعض الآخر حقدا وكراهية على بعض هذا الشعب…

سندان ساكن ساحة محمد علي…

تونس اليوم تعيش خديعة أخرى لم تعشها سابقا…تونس تعيش بين مطرقة ساكن قرطاج، وسندان ساكن ساحة محمد علي وكلاهما أخطأ ويواصل الخطأ في قراءة المشهد الذي تعيشه البلاد وكلاهما أساء تقدير حساسية المرحلة وهشاشة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وترديه…فالاتحاد يحاول جاهدا وبكل الطرق انقاذ نفسه من ورطة عشرية هدم البناء الذي بناه رجالات تونس، فأعلن الحرب على ساكن قرطاج محاولا إيجاد موطئ قدم في “المنظومة القيسونية” وكسب ودّه شريكا بكامل الأوصاف والصلاحيات كما كان مع من سبقه، ليس حبّا في هذا الشعب كما يظنّ البعض بل انقاذا لنفسه من تبعات شراكة كاملة في حكم عشرية هدم وخراب…فقيادات الاتحاد لم تعدّل الفصل العشرين من نظامها الداخلي من أجل عيون العاطلين عن العمل، أولئك الذين عذبتهم طيلة عشرية كاملة ويزيد بوعود وهمية وكذب وخداع وهراء، بل عدّلته للبقاء في مواقعها دفاعا عن مصالحها وانقاذا لنفسها من محاسبة آتية لا ريب فيها…فالاتحاد كان شريكا بأكثر من النصف في حكم العشرية التي أطلق عليها أمينه العام “عشرية الخراب”…متناسيا انه كان شريكا بأكثر من النصف وكان الآمر الناهي في كل ما تقرره الحكومات التي مرّت على  القصبة…قيادات الاتحاد لم ترأف بحال البلاد يوما واحدا، وهي حقيقة ينفيها البعض وتشخيص يخفيه البعض خوفا من عقاب ساكن ساحة محمد علي …

اتحاد “الطبوبي” وخلافا لما تعرفه النقابات لم يكتف بالدفاع عن منظوريه بل وصل به الجبروت والاستبداد والغطرسة إلى معاقبة بعضهم وحرمان كل من تسوّل له نفسه انتقاد سياسات ساكن ساحة محمد علي من حقوقهم، وقد يصل الأمر إلى المطالبة بعزلهم او بتجميدهم أو حتى تجريدهم من خطتهم الوظيفية…فالحاكم الفعلي كان ولا يزال في أغلب المؤسسات هو الاتحاد…فهو من تنكّر لكل الشعارات التي رفعت قبل واثناء حراك 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 …نعم هو من اختار ليّ ذراع كل الحكومات مطالبا بتسوية الوضعيات والنفخ في الأجور والمرتبات ولم يفكّر يوما في تجميد الأسعار والأجور لخلق فرص جديدة لتشغيل من ماتوا و هم يطالبون بالتشغيل، ومن وعدوهم بالخروج من محنتهم….فماذا وقع؟…لا شيء …تواصلت بطالة مئات الآلاف…وانتفخت مرتبات وأجور الموظفين والموظفات والعاملين والعاملات…فهل كان الوزير يتصرف وحيدا في وزارته؟ لا… كانت النقابات الأساسية تفرض عليه ما تريد، متى تريد، وكيف تريد…وهل كان المدير العام يتصرّف كما يريد في إدارته؟ لا…كانت النقابة الأساسية تفرض عليه ما تريد ومتى تريد ولمن تريد…هكذا عاشت البلاد في عشرية هدم وخراب كان الاتحاد شريكا بأكثر من النصف في ما وقع فيها…واليوم بما يأتيه، يحاول فقط التخلّص من تبعات ما أتاه طيلة عشرية يصفها بعشرية الخراب وهو الحاكم بأمره فيها وخلالها…

و مطرقة ساكن قرطاج…

أتحوّل للحديث عن مطرقة ساكن قرطاج التي لا تختلف كثيرا عن سندان ساحة محمد علي، فقيس سعيد لم يقرأ المشهد جيدا وكما يجب، وسقط في نفس الفخّ الذي سقطت فيه الترويكا حين تسلم الحكم من “داهية” وديناصور سياسي خبر كل فنون وفخاخ الحكم ومنزلقاته وتعلّم على يد بورقيبة ورفاقه رحمهم الله جميعا…فالباجي رحمه الله ترك إرثا ثقيلا على كل من سيأتي بعده، حين جلس في القصبة لسنة أعتبرها شخصيا سنة درء السقوط في ما سقطت فيه بقية الدول التي اكتوت بربيع عربي قاتل مات بين أزهاره الاصطناعية المزيفة الآلاف…وشُرّد بشوكه الموجع الملايين…

قيس سعيد كان يتصوّر ان حكم البلاد وإصلاح حالها، بالبساطة التي يكتب بها خطبه وتهديده ووعيده وويله وثبوره، وسقط في نفس ما سقطت فيه النهضة قبله، فقيادات النهضة تصوّرت أن الدولة هي “صندوق” من المال يوزعه من يحكم كما يريد لمن يريد متى يريد، فخاب ظنّها وتصوّرها، ففشلت في الحكم وخرجت منه رغم أنفها لتعود إليه خلف “الستار السبسي”…ألم تعد النهضة بتشغيل 550 ألف عاطل فلم تنجح في تشغيل عاطل واحد ممن ماتوا ينتظرون وصول ورقة تشغيلهم …

قيس سعيد لم يلتفت يوما لما وجب أن يلتفت إليه من مشكلات البلاد، بل اكتفى منذ صعوده إلى قرطاج بمحاربة خصومه ومحاولة التخلّص منهم وتشتيتهم لغاية في نفسه ونفس من يساعده في تخطيط مستقبل البلاد على مقاسه…رئيسنا لم يستسغ أن يكون رئيسا منقوص الصلاحيات فقرر أن يقلب كل الأوضاع لصالحه على طريقته…ولم يكتف بخطبه النارية والعنقودية بل نجح في صناعة مبررات “انقلابه” الدستوري، فعطّل عمل حكومة من اختاره هو ليكون صاحب القصبة…ولم يحرّك ساكنا أمام غزو الوباء ديارنا الا بعد أن استولى على البلاد ومفاصل حكمها… ووضع كل العراقيل الممكنة في طريق كل عمل حكومي وكل قانون برلماني…ونجح في جرّ البعض إلى أرض معركته، من خلال اللعب على مزاج جزء كبير من الشعب، فزرع في أذهانه حقدا وكرها لكل من سبقوه في حكم البلاد…فقيس سعيد بما أتاه ضاعف كميّة الحقد في نفوس اتباعه وأنصاره والآلاف من الشعب المخدوع بخطابه التحريضي الذي كانت خلاصته “أنا أولا أحد”، الأمر الذي جعل كل من لم يغنموا شيئا من الربيع العربي والعشرية التي سبقت مجيء قيس سعيد للحكم يوجهون أصابع الاتهام لمنظومة النهضة وكل من حكموا معها وبها ومن خلالها البلاد قبل انتخابات 2019 وخلال سنة ونصف من حكم قيس سعيد ومن معه…فخلال عام ونصف لم يبق قيس سعيد مكتوف اليدين بل نجح في خلق الذرائع وصناعة المبررات لتفعيل الفصل 80 الذي طالبه به البعض…وقد كان خلال تلك المرحلة يرفض فكرة الالتجاء إلى تفعيل ذلك الفصل، وأكّد على ذلك سويعات قليلة قبل غزوة عيد الجمهورية المفتعلة والتي كانت مِسك ختام مرحلة خلق الذرائع وصناعة المبررات…

إذن نجح قيس سعيد في جرّ أغلبية الذين يضمرون شرّا بمنظومة الحكم التي سبقته إلى صفّه، وجعل من الأحداث التي عاشتها البلاد يوم 25 جويلية بأيادي اتباعه وبعض “المبهورين” بخطابه ذريعة للالتجاء إلى ذلك الفصل الذي كان قبل سويعات يقول ويؤكّد أنه لن يلتجئ إليه، مباشرة بعد تفعيل الفصل 80 وإعلان انقلابه دستوريا على نفسه ـ فهو من المنظومة ويعتبر أهمّ اضلاعها ـ خرج عشرات الآلاف يجوبون الشوارع فرحا بما وقع وترحيبا بقرارات الرئيس، وكان من بين هؤلاء الدساترة ومتفرعاتهم، واليسار ومكوناته، وأغلب الأحزاب التي لم تجد مكانا تحت شمس قبّة باردو، وتصوّر الجميع أن الرئيس امتلك المشهد السياسي برمته ونجح في كسب ودّ كل الشعب، والحقيقة هي أن كل الذين خرجوا ليلتها لم يخرجوا يهتفون بحياة الرئيس حبّا فيه بل لأنه فقط ابعد النهضة ومن معها من الحكم…بعض هؤلاء وأحزابهم أخذهم الطمع في التواجد في منظومة حكم قيس سعيد القادمة فخرجوا يهتفون باسمه وبما اتاه…هؤلاء جميعا خاب ظنّهم بعد عشرة اشهر من انقلاب الخامس والعشرين من جويلية وعادوا إلى مواقعهم وأحزابهم ساخطين…

هذا الأمر يؤكّد حقيقة واحدة هي أن اتباع قيس سعيد وانصاره هم من سكان الفضاء السيبرني ولا وجود لهم في الواقع…وقد يخيب ظنّ الرئيس في قادم الايام حين يدرك ان حجم من ناصروه لا يتجاوز حتى نصف من انتخبوه في الدور الأول…فكل من خرجوا مساء الخامس والعشرين عادوا وسيعودون في قادم الأيام إلى أحزابهم، وإلى مواقعهم غاضبين فهو لم يغيّر من حال من انتخبوه، ولم يصلح امرا واحدا مما كان ينتقد اعوجاجه حين كانت النهضة ومن معها بقيادة من اختاره للقصبة يحكمون…خلاصة ما جرى ويجري قيس سعيد يتابع كثيرا عمليات سبر الآراء “الزرقونية”، ولم يع إلى حدّ الساعة أن الزرقوني يخدعه ويحاول ايهامه بوضع مخالف لواقع سياسي منفلت…فحتى من انتخبوه لم يكونوا ابدا من أتباعه، ولا من أنصاره، بل كانوا قواعد وأتباع أحزاب أخرى قررت قياداتها قطع الطريق امام خصمه خوفا من تبعات ما اشتبه به هذا الأخير…فقيس سعيد يفاخر بشعبية وهمية افتراضية زرعتها في ذهنه عمليات سبر الآراء، وهذه “الشعبية” الافتراضية والوهمية ومن يؤثثها لن يخرجوا غدا من شاشات هواتفهم ليذهبوا إلى الخلوات الانتخابية ليختاروه رئيسا للبلاد لدورة ثانية، أو لاختيار دستوره الذي كتبه على مقاسه ومقاس ما يريده …وهذا هو الخطأ الأخطر والوهم الأكبر الذي وقع فيه قيس سعيد ولن يقبل بأن يناقشه فيه أي ممن هم حوله…وقد يستفيق يوم إعلان نتائج الاستفتاء على دستوره المنتظر…بحجم أتباعه الحقيقي…حينها سيدرك ان خدمة الشعب لا يمكن أن تكون بزرع الأحقاد هنا وهناك وتقسيم البلاد مللا وطوائف…

إلى اين نحن سائرون؟

فهل بخطاب الكراهية والحقد نبني وطنا يتألم…ألم نقرأ الدرس من الدول التي سار حكامها على نهج خطب الكراهية والعنف والحقد وزرع الفتن؟ ألم نبك حالهم وحال شعوبهم؟ فهل يجب أن تبكي الشعوب الأخرى حالنا، ونحن نعيش حالة من الانقسام والتشرذم بسبب الأحقاد والكراهية؟ كل الدول التي راهنت على خطاب الكراهية سقطت في مستنقع التخلّف والجهل والفتن والفقر وعاشت استبداد وغطرسة دكتاتورية قياداتها التي تبنت ذلك الخطاب…وكل الدول الفقيرة التي نسيت أحقادها، وتصالحت بينها وبين بعضها، وتبنت خطاب التسامح والاعتدال والتجميع والإصلاح، نجحت في الخروج من حالة الفقر وأصبحت تطمح لمنافسة بعض الدول الكبرى والغنية …

لم يقف خطاب الحقد والكراهية عند قيس سعيد ومن معه من أتباع ومريدين بل تعداهم إلى منصات التواصل الاجتماعي، واصبح يشكل خطرا على مشهد سياسي مأزوم…فتفشي ثقافة الحقد والكراهية قد تتحوّل إلى فتنة تأتي على ما بقي من أخضر في هذا الوطن “اليابس”…فتونس هي أكثر الدول العربية يتداول شعبها خطابا حاقدا ومحرّضا على “الفايسبوك”…ومن أكثر الشعوب تضليلا وتصديقا لخطاب التضليل على منصات التواصل الاجتماعي… فإلى متى تواصل حكومات ما بعد 14 جانفي سرقة اللقمة من أفواه فقراء هذه البلاد بخياراتها الخاطئة…وإلى متى يتواصل سلب جيوب المحتاجين من أبناء هذا الشعب بحجج واهية ومبررات لا ذنب للشعب فيها…

تمرّ تونس اليوم بأسوأ مراحل وجودها منذ بعثت أي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة… بؤس وفقر واحباط واعتقالات وسجن لحرية الراي وتشويه سمعة وصناعة مبررات وخلق ذرائع وهمية… لن نخرج مما نحن فيه ولن نستطيع التغيير إذا بقينا على اختلافاتنا هذه…لن ننجح مستقبلا في الوقوف في وجه العنف إن واصلنا نشر هذا الخطاب البغيض الحاقد…ولن نستطيع أن نضمن استقرارا وأمنا لأجيالنا القادمة إن واصل بعضنا خطاب الانا والانانية وبقي يحاكم التاريخ ومن تولوا قبله بأحكام مسبقة وبحقد لا نعرف مصدره أو إلى اين يمضي…بعض ما يقع في هذه البلاد ومنذ أكثر من عشر سنوات يحرمنا من التعايش بسلام بعضنا مع بعض، ويحرمنا من أهم شيء داخل النفس البشرية “إنسانيتنا”…علينا ان نقبل بالاختلاف وأن لا نعتدّ بأغلبية مساندة صورية وهمية لا وجود لها في غير شاشات هواتفنا الغبيّة…علينا أن ندرك أن الحياة تنوّع…والحياة اختلاف وليست خلافا…فبعض ما نعيشه اليوم وما نراه هو رقابة على ألسنة الناس…وعلى ما قد يدور في عقولهم…وقد وصل بنا الأمر إلى محاسبة بعض الناس على نواياهم وما يضمرون…أأصبحنا نعلم بما في الصدور؟؟

إصلاح حال هذه البلاد يمرّ حتما عبر إتاحة المساحة للجميع لممارسة دورهم دون أن يتملكنا الخوف ممن يختلفون معنا في الانتماء والتفكير…فإصلاح أوضاعنا يمرّ أولا وقبل كل شيء عبر ترك سوء النيّة، وحسن الظنّ بالآخرين، حتى وإن كانوا خصوما ومنافسين لنا سابقا ولاحقا…

علينا أن نؤمن بحرية عقل كل ساكن على هذه القطعة من الأرض، فداخل كل فرد من هذا الشعب تكمن قدرة فائقة على تغيير الأوضاع…كل الأوضاع…ولا يجب الاستهانة بما يمكن أن يغيّره العقل البشري…فعقل الانسان هو الذي يسيّره نحو الخير أو نحو الشرّ…فلنحاول تغليب الخير على الشرّ في عقولنا جميعا… لنخرج هذه البلاد مما هي فيه بأخفّ الاضرار…

ولمن يتمسّك بمحاكمة الماضي ألا ينسى انه سيصبح غدا من الماضي، وقد يحاكمه المستقبل؟…إن لم يفعل ذلك حاضرنا…فنحن لا نقدس الماضي كما يتصوّر البعض ولا نبكي عليه رغبة في العودة إليه، فالماضي لا ولن يعود…إنما نحن نخاف على حاضرنا بما فيه…ونخاف مستقبل أبنائنا بما قد يقع فيه…فزرع بذور الحقد…لا ينبت القمح…

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 71

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    مع انتهاء شهر ماي 83 بدأت افكّر بجدّية في انهاء عملي بكلّية الاقتصاد والتصرّف بصفاقس… اصبحت عندي قناعة راسخة بأني لا اصلح لتلك النوعية من المهام لا شكلا ولا محتوى… فلا العميد مرتاح لوجودي ضمن اطارات الكلّية، ولا انا (جايني على المضّاغة) اذ أنّنا نختلف جذريّا في كلّ شيء وهو ما سبّب احراجا لصديقي الكاتب العام للكلّية (التوفيق المكوّر)… امّا عن محتوى عملي فهو اداري بحت اي (الروتين يمشي موش على ساقيه بل على ركايبو) وهذا ايضا يتنافى مع طبيعة تركيبتي… ثمّ ممّا زاد في اسراعي بمغادرة الكلّية قرار اعادتي للمصدح… فكيف لعاشق ان يمزج كأس عشقه المجنون المُعتّق، بماء السبّالة …؟؟؟

    عبد الكريم قطاطة

    ذات صباح صعدت الى مكتب الكاتب العام للكلّية وقدّمت له ورقة كتبت عليها استقالتي ..كانت لا تتجاوز الاربعة اسطر عبّرت فيها عن شكري للزملاء في الكلية وعن استحالة مواصلتي العمل لاسباب شخصية… اتذكّر جيّدا انّي لم اذكر او اشكر العميد في تلك الاستقالة اي كتبت له ضمنيّا انّك لا تعنيني ولم تعنني يوما… صديقي التوفيق قرأ الاستقالة واحمرّ وجهه… لم اتركه ينبس لا ببنت شفة ولا ببنت اختها… سارعت بالقول: الاستقالة هي الحلّ الافضل للجميع لي لك وللعميد انذاك فقط لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي… كان يعرف ما اقول بل كان يدرك انّي على صواب… ولأنه كذلك ولأني كذلك، تعمّقت صداقتنا اكثر بل وحتّى في عديد المشاكسات ولغونا انا وزوجته زميلتي ابتسام كان دائم الوقوف الى جانبي… هو انسان رائع بكلّ المقاييس… وهنا لابدّ من ان اقول كم انا (خايب) في المدّة الاخيرة ونظرا إلى كثرة مشاغلي حيث ابتعدت عنه وعن اجوائه … صدقا مااخيبك يا ولد عيادة ..

    مع نهاية شهر ماي اتّصلت بي كاتبة مدير اذاعة صفاقس لتقول لي سي التيجاني طالبك… وجاء صوته هادئا اهلا سي عبدالكريم… ايّا وقتاش تطلّ عليّ ؟؟؟… تواعدنا على لقاء في الغد… كانت الساعة تشير الى الثالثة و5 دق عندما ولجت مكتبه… كان كعادته في كل مرّة دخلت فيها مكتبه بعدها، جالسا على كرسيّه الفاخر… قلّ ان نهض من على مقعده ليستقبل ابناء الدار … انا لم آخذها مطلقا من زاوية المسؤول الذي ولتثبيت صورته كسلطان ذي وقار وعلى الضيوف ان يقفوا امامه وهو على كرسيّ عرشه دون ان يتزحزح… بل وربّما لشقاوتي كنت ارى في تصرّفه ذاك تغطية على قصر قامته حيث يصبح اشبه بـ(كعبة زلّوز بوقلبين) عندما يقف فلا هو منتصب القامة ولا هو مرفوع الهامة… قلتلكم ولد عيادة خايب… و على فكرة تقولشي عليّ انا طولي نعناعي !…

    في لقائنا ذلك اليوم “ما نغنغش”… لم يعد مطلقا لتلك الرسالة التي اغضبته وهو ما جعلني ارى فيه نوعا من الابتعاد عن الترهات او ضربا من الحكمة والرصانة… رحّب بكلّ وقار وثقة وقال: انت مستعدّ للعودة الى المصدح؟… قلت تمام الاستعداد ..قال اسمعني جيدا وخاصّة افهمني جيّدا… ستعود بداية من الاثنين 13 جوان… ستعود للكوكتيل ولكن وفي مرحلة اولى سيكون الامر بالتداول مع زميلتك ابتسام وبشكل مسجّل لا على الهواء… لم يقلقني صدقا التداول مع ابتسام ولكن كانت صدمتي واضحة عليّ وهو يتحدّث عن تحويل البرنامج من مباشر الى مسجّل… وكان شديد الانتباه لصدمتي حيث قرأ نوعية ابتسامتي الحزينة من جهة وصمتي العميق وعيناي تتشبثان بارضية المكتب… بادرني دون انتظار بالقول: انا قتلك اسمعني وافهمني واعطيني ثيقتك وتوة تشوف … احسست بصدقه واحسست بعد فترة لم تطل انه كان حكيما …

    ذات يوم وبعد سنوات صارحني بأن الحاشية كانت شديدة في حرصها على عدم اعادتي للمصدح، وانّه كان عليه ان يتفادى في بداياته الصدام مع تلك الحاشية… فاختار الحلّ الانسب ظرفيّا: تسجيل البرنامج لمدّة… انذاك يمكن لنا ان نحذف كلّ ما يمكن ان يُقال ويتعارض مع ما يجب ان يُقال… قال لي: (لم اكن اعرفك كثيرا قبل مجيئي كمدير للاذاعة… كنت اسمع عنك الكثير … بباهيك وخايبك… ولكن كان هنالك احساس في داخلي يقول انّك ضحية لدسيسة … وكان عليّ ان اكون إلى جانبك خاصة والسلط العليا قررت اعادتك، وقلت ساغامر .. امّا ان نربح الرهان معا او ان نخسره معا) …لم يمهلني في ذلك اللقاء كثيرا وختم بالقول: (اقبل الامر كما هو ستعرفني اكثر) …

    للامانة كنت حزينا جدا وفي نفس الوقت سعيدا جدا… حزين لأني لم اتصوّر يوما ان اقدّم برنامجا محنّطا ودون حضور المستمع صوتا… وسعيد لأنه وفي كل الحالات عودتي تعني ضربة موجعة جدا لخصومي… كان يوم 12 جوان 83 موعدا لن انساه… موعد تسجيل البرنامج… دخلت الاستوديو ووجدت امامي زميلي الفني وصديقي جميل عزالدين رحمه الله في انتظاري… كان في قمّة السعادة… عودة عبدالكريم بالنسبة له كزميل وكأخ فرحة لا تُقاس بسلّم ريشتر… وانطلق اللحن المميز للكوكتيل وموسيقاه “بول ستار” التي اقدّم عليها التحيّة الاولى والتي لازمتني في كلّ برامجي لحدّ يوم الناس هذا .. انّها واحدة من بصماتي ومن لا بصمة له لا وجود له اذاعيا …

    كان عليّ ان اكون اذكى من الرقابة في كلّ كلمة اقولها… وهاكم نصّ تحيّة العودة (كلماتي كانت مصحوبة بمؤثرات صوتية فيها اصوات امواج البحر): {{{ سيداتي آنساتي سادتي اسعد الله صباحكم واهلا وسهلا ومرحبا … لعلّّكم تستمعون الى ما يصاحبنا من ايقاعات تغرّدها سمفونيّة البحر … البحر هذه اللوحة الرائعة التي تتحدّى كل اللوحات … البحر هذه الجوكندا الازليّة التي لا تتجاوز في جمالها ليونار ديفنتشي وجوكندته فحسب بل تتجاوز كل الرسامين مجتمعين … البحر هذه الجوكوندا التي نلجأ اليها في فرحنا وترحنا … في همّنا وغمّنا … في املنا ويأسنا … نضمّه نعانقه .. نرحل معه ويرحل بنا .. نقبّله ويلثمنا …نراقصه ويناجينا … البحر هذه الجوكندة التي يرى فيها البعض الهدير ويرى الآخر فيها الوشوشة … هي ثورة في اعين البعض وهي همسة في اعين اخرى … هي ازيز وهيجان وصخب من منظار … وهي نوتات موسيقيّة ناعمة ورقصة “سلو” غجرية من منظار آخر… هي .. وهي .. وهي ..

    قد يتجنّى القلم فلا يفي بوعوده كي يكتب بغزارة وطلاقة عنها ولكن الا يمكن ان نقول ببساطة عن هذا… الجوكندة انّها الحياة ؟؟؟ … الحياة بجواهرها واصدافها .. الحياة بطموحاتنا وخيباتنا … الحياة بحالكها ومشرقها … الحياة بخلودها وفنائها .. الحياة بكلّ متناقضاتها التي لا مفرّ لنا من عيشها ومعايشتها … واليوم ونحن نفتح صفحة جديدة من كتاب اذاعي مشترك يحمل كهويّة “كوكتيل من البريد الى الاثير”… لا يسعنا الا ان نؤمن منذ خطّ الانطلاق بأنه برنامج اذاعي زرع في عروقه السيد التيجاني مقني مدير اذاعة صفاقس مشكورا نبض الحياة… وعلينا جميعا ان نرعى نبتته بعطائنا المشترك…علينا ان نزوّد هذه النبتة بفيض الفكر وبمداد القلم وخاصّة بروح مؤمنة بأن لا اذاعة دون مستمع… وبأن لا منتج او منشّط اذاعي مهما كان اختصاصه يعمل في برجه العاجي دون الالتفات يمنة ويسرة الى محيطه .. الى الآذان التي تتلقفه .. الى المستمع كمنتج ومستهلك .. وربّما وهو الاهمّ ان يعمل دون ان ينفصل عن انسانيّته كانسان والانسان يعني الطموح للمساهمة في خلق غد افضل …

    …هنا فقط يُهيّأ اليّ انّنا نعطي معنى لكينونتنا وصيرورتنا … الغوص في جوكندة الحياة يعني سفينة وشراعا وملاّحين … كوكتيل من البريد الى الاثير هي السفينة التي اقترحها عليكم … شراعنا في هذه السفرة هو الايمان بانتاج مسؤول … والملاّحون هم انتم …فهل نبدأ الرحلة معا ..؟؟؟ ادعوكم بكل شوق وحب الى شدّ المجاذيف لنركب البحر معا … لنعانق البحر معا .. لنرسم على شاشته الوان حياتنا ولنكتشف اخيرا انّ بحرنا هو الجوكوندة التي لا تعادلها جوكوندة … }}}

    ينتهي النص وتليه اغنية مسلسل وقال البحر من كلماتها التي تقول (اه من هدير البحر لمّا يثور )… دعوني اقل لكم انّي حاولت في الورقة ان التزم بثلاثة عناصر هامة … اوّلها تثبيت المستمع كطرف فاعل في البرنامج الاذاعي من جهة، وتحيّة شكر ضمنية له على وقفته الحازمة عند تعرّض البرنامج للايقاف …ثاني العناصر ان اراوح بين روح الالتزام بالمسؤولية كمنتم لمؤسسة، لكن دون التخلّي عن ثوابتي وقناعاتي… ثالثها طابعي الاستفزازي لخصومي …كنت اقول لهم دون ان اقول (اضربولي عالطيارة)… كنت متاكدا جدا انّ جلّهم سيركزون في جوسستهم في الحلقة الاولى على الاغنية التي ختمت بها النصّ… وكان حدسي في محلّه اذ أنّه وبعد اوّل لقاء مع السيد التيجاني مقني قال لي مبتسما …الغناية متاع هاكة المسلسل اش اسمو هو ؟؟ قلت له مبتسما وقال البحر ..ايه هاكة هو يا سي عبدالكريم الاغنية متاعو ما عجبتش برشة جماعة… قلت بكل براءة خبيثة ..انت سمعتها ؟؟؟ قال لي لا ..اما عندي ثيقة فيك ..ربي يعينك …

    وقتها بدأت اتلمّس نوعيّة ملاحظاته عرفت انه كان يريدني فقط ان اعرف انّ الحاشية ما زالت تشتغل ليلا نهارا وانه (باعثها) وهذا ما معنى عندي ثيقة فيك …دعوني في الختام احكي لكم ما حدث مباشرة بعد اتمام قراءتي للمقدمة واطلاق سراح الاغنية… انا كعادتي التزم جدا بدليل برنامجي بشكل مفصّل ومقنّن فالاغنية عندي لم تنفصل يوما عن وجودها كعنصر فاعل في البرنامج الاذاعي… البرنامج الاذاعي عندي لوحة سمفونية من جملة نوتاتها الاغنية… لذلك وهذا يعرفه جميع الفنيين وكلّ من تدرب عندي التزم والزم الاخرين ليس فقط بعنوان الاغنية بل بمدتها بالثواني لا بالدقائق وبالمقطع الفلاني الذي يجب ان يكون… الان هناك منشطون يدخلون الى برامجهم ويطلبون من الفنيين ان يبثوا لهم ما يعنّ لهم من اغان (تي حُط اللي يعجبك المهم نعملو جوّ)… نعم … هكذا البرنامج الاذاعي طاح قدرو لهذي الدرجة … توة هاذوما يستحقو يكونو قدام مصدح ؟؟؟ تي اصلا هذا هو اعلام العار الحقيقي …

    اذن رغم انّ دليل برنامجي واضح من الفه الى يائه واُمكّن الفنّي من نسخة منه حتى يقوم بالتنفيذ، فاني احرص دوما على تلك الطلّة على الفني امام كونسولاته … لأبدي بعض الملاحظات او الرغبات وفي جلّ الاحيان لتبادل بعض الكلمات البريئة جدا … (اكيد عرفتوهم ؟؟ والله كنّا عالم صايع بشكل!)… يومها خرجت الى غرفة الفني المرحوم جميل عزالدين ففوجئت به يرتعش مصفرّ الوجه …سالته بخوف وانزعاج: اشبيك جميل لاباس؟؟؟ نظر اليّ والدموع في عينيه وقال: اشبيني ..؟؟؟ ما تعرفش اشبيني ؟؟؟ يخلي كذا من كذا … انا نرعش وخايف عليك وانت موش هنا .. من انا طين تخلقت انتي …؟؟ عانقته طويلا وقلت له: من طين تييييييييييييييت …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 70

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    من الاشياء الغريبة في حياتنا ان يساهم الاعداء في نحت شهرة الواحد منّا … وهذا ما حدث اثر ايقاف الكوكتيل … جلّ العناوين الصحفية انبرت بل تنافست في نشر اخبار الواقعة… تلك المحسوبة على النظام (لابريس، البيان، العمل، الصباح) او تلك المحسوبة على المعارضة (الوحدة، المستقبل، الطريق الجديد) دون نسيان شمس الجنوب …

    عبد الكريم قطاطة

    الكوكتيل ارادوا اطفاء شمعته فاذا بهم يحوّلونه الى شمعدان عبر تلك العناوين الصحفية… وللامانة كانت جريدة البيان الاكثر التصاقا ونشرا لكلّ ما يطرأ في موضوعه وخاصة ردود فعل المستمعين من خلال رسائلهم وعرائضهم… وللتاريخ ايضا لم يسبق اطلاقا ان يتوجه المستمعون بارسال احتجاجات في شكل عرائض ممضاة بالمئات لتطالب بعودة برنامج اذاعي… وفي هذه النقطة بالذات كتب الزميل نجيب الخويلدي في ركنه الاسبوعي بجريدة البيان وبتاريخ 13 ديسمبر ما يلي: (شلالات من الرسائل مازالت تتهاطل علينا وهي كلها في نفس الاتجاه تغمر المنشط قطاطة حبا واعجابا وتعلّقا ووفاء… نكاد نجزم انّ موضوع عبدالكريم قطاطة شغل قُرّاءنا وملأ الدنيا بل وملأ علينا دار الجريدة رسائل وعرائض ولوائح تُقدّر بـ300 رسالة وهي محفوظة على ذمّة من يريد الاطلاع عليها وجميع هذه المكاتيب كانت في خطّ واحد، يعني مؤازرة عبدالكريم ولوم قرار الادارة والطعن فيه)…

    واثرها خصصت البيان صفحة اسبوعية لحوارات عديدة بيني والمستمعين … فيما نشرت جريدة الطريق الجديد عريضة تحمل 758 امضاء وبتاريخ 23 اكتوبر 1982 يقول فيها اصحابها: (نحن الممضين اسفله مستمعي برنامج كوكتيل من البريد الاثير باذاعة صفاقس، نستغرب توقف برنامجنا الممتاز عن الظهور والذي كان من اوّل البرامج التي طبّقت ديموقراطيّة الاعلام بكلّ نزاهة وجعلت المستمع مستهلكا ومنتجا فعّالا، نطالب ادارة الاذاعة وكلّ المسؤولين عن القطاع الاعلامي وفي مقدمتهم السيد وزير الاعلام بالتدخّل لارجاع برنامجنا الذي توقّف يوم الجمعة 1 اكتوبر 82)… وكذلك فعلت جريدة الوحدة وبعريضة تحمل 676 وبنفس التاريخ 23 اكتوبر 82 وبنفس المحتوى …

    نشري لهذه الوثائق اردت من خلاله التأكيد على عنصر هام جدّا في حياة الاذاعي …عندما يتحدّث المتلقّي عن برنامج ما ويعتبره برنامجه هو، فذلك يعني عندي انّ المنشّط كسب جولة هامة في مسيرته …ان يتبنّى المستمع ما تقدّمه له ويدافع عن برنامج ما، فمعنى ذلك انّك كمنتج او منشّط لم تنفصل عنه، تحدّثت بلسانه اي كنت السكانر الذي اخرج للوجود ما بداخله … وهذا في قناعتي ما يجب ان يكون ودونه لا يمكن للمنشّط ان يكون …دونه سيخرج تماما من مهجة الاخر واهتمام الاخر وذاكرة الاخر…

    عندما باشرت عملي بكلّية التصرّف والعلوم الاقتصادية وبرتبة مهندس اشغال دولة حسب معادلة وزارة التعليم العالي انذاك، كنت صدقا كطائر اخرجوه من جنّته الى قفص … واسألوا الطيور عن حالتها حتى ولو كانت اقفاصها من ذهب … جنّتي كانت اذاعتي ..المصدح … المستمع … وها انا اجد نفسي خارجها … مؤلم جدا ان يجد الواحد منّا نفسه خارج الدنيا …الكلّية كانت دنيا جديدة ولكنّها لم تكن دنياي ….الكلّ هنالك ابتهج بتواجدي بينهم باستثناء العميد الذي قبل على مضض وجودي في الكلّية …وحتّى لا اقول سوءا فيه اكتفي بالقول انّنا لم نكن من نفس القماش وعلى كل المستويات …في المقابل حظيت بعناية خاصة وحبّ لامشروط من صديقي العزيز اخي التوفيق المكوّر الكاتب العام للكلّية … وحتّى هناك في الكلّية كان عبدالكريم الاذاعي دائم الحضور من خلال مكالمات المستمعين التي لم تغب يوما عن هاتف مكتبي …. عملي كان ضئيلا حجما وعمقا …ولكن كنت اؤدّي كلّ ما هو متعلق بطبيعة عملي بكلّ مثابرة وجدّية …لكن في كلمات (ماهياش وآنا مانيش آنا) ….

    في جانفي وكما توقّعت وقعت ازاحة المرحوم محمد الفراتي من منصبه كمدير بالنيابة لاذاعة صفاقس وتسمية السيد التيجاني مقني مديرا على رأس الاذاعة… التعيين وكسائر التعيينات انذاك (وحتى يوم الناس هذا) هو سياسي بالاساس اذ لا معنى في الغالب لمقياس الاختصاص … التيجاني مقني استاذ تعليم ثانوي اختصاص علوم طبيعية والاهم انّه ناشط سياسي وبامتياز في اجهزة الحزب انذاك … وكانت له المبادرة في الاتصال بي يوم 20 جانفي لألتقي به … قبلت الامر وبكل سعادة وكان اللقاء …. صدقا كنت يومها الوحيد الذي تكلمت عمّا وقع… كان يستمع وبكل انتباه ….لكن ما اقلقني وانا الذي ازعم انّي ماهر في فكّ شفرات من اتحدّث معهم، انّي لم استطع يومها استشراف ايّ موقف منه …كان صامتا ثابت النظرة عديم التفاعل … وهي عادة من سمات من لا يريد الكشف عن ايّ موقف …والذي زاد الطين بلّة انه كان يحمل نظارات سوداء … وانا الذي دليلي مع الاخر نظرة العيون …. ووجدتني وهو يودّعني بجملة قصيرة (اوكي توة نشوف) كنت ذلك الذي دخل وهرهر وكأنه لم يدخل ولم يهرهر … لكن وللامانة ايضا شدّني وقاره والكاريزما التي كانت تملأ سكونه المُريب …وللامانة ايضا اعتبرت يومها وجودي معه في مكتبه انتصارا ولو جزئيا على خصومي … وبدأت مرحلة الصمت…. لا جديد يُذكر بعد ذلك اللقاء …_ النسمة لا _ وانتظرت حتى مارس 83 لاعلن رفضي لهذا الصمت …. (اشنوة يخخي اللي ما تقدرش تعطيه منّيه وعيش بالمنى يا كمّون ؟؟؟)… واتخذت قراري باعلام المستمعين بما حدث من خلال رسالة نشرتها لهم وبتاريخ 2مارس 83 هذا اهم ما جاء فيها:

    (اكتب اليكم من مكتب عملي بكلية العلوم الاقتصادية والتصرّف بصفاقس… الادارة الحالية لاذاعة صفاقس التزمت الصمت رغم وعود مديرها بالتدخّل و ذلك بعد لقائي به يوم 20 جانفي 83 وبعد ان عبّرت له عن جميع مواقفي من الانتاج الاذاعي عموما كيف يجب ان يكون، واعيا بحاجيات المستمع بكل حرية ومسؤولية … التزم بعدها بالصمت … من جانبي لم احاول الاتصال به لانّي اكره ان اقول الاشياء مرتين من جهة، ومن جهة ثانية ارفض ان اكون كالسائل الذي يطلب صدقة لوجه الله … قد آكل خبزا وزيتونا او آكل حجرا ولكنّي ارفض ان اقول لشخص ما ومهما كان حجمه وجاهه ومنصبه: “من فضلك ويعيّشك وبجاه ربّي”… لأني لم اخطئ في ما حدث بل انا فخور ومعتز بما حدث… في المقابل هم هددوني واوقفوا خبز عائلتي لاخضاعي واذلالي ولكن لم ولن ينجحوا لأن ثوابتي وتعهداتي مع المستمع لن يمسّها ايّ شيطان … حدثت القطيعة مع اذاعتي نعم ولكن ثقوا وبكل حزم واصرار ويقين انّنا سنعود …هم ربحوا معركة ولكن ابدا ان يربحوا الحرب لسبب بسيط هم يعملون من اجل الاستبداد والظلام ونحن نعمل من اجل النور … والانتصار لن يكون الا للنور… نحن نعيش مرحلة كسوف… ولكن هل سمعتم بكسوف ابدي ؟؟؟ ختاما اعدكم بشرفي اننا سنلتقي مجددا عبر الميكروفون دون اذلال او خضوع او طأطأة راس… لا لليأس لا للألم والنصر لنا مهما كان الطريق شائكا)…

    كنت ادرك انّ هذه الرسالة سيغتنمها الخصوم او من يسميهم العزيز الرحمان (الملأ) اي الحاشية الفاسدة لكي يهمسوا ليلا نهارا وكل احد: (قلنالكشي راهو باربو وراسو صحيح وما يحترم حتى حد ..؟؟؟ قلنالكشي راهو لوّح عليك وماشي يتعّبك ومشاكلو ما توفاش ..؟؟؟ قلنالكشي راهو يعتبر روحو زعيم وما ياقف قدامو حد ..؟؟؟)… مثل هذه النمائم اسرّها لي يوما السيد التيجاني مقني واضاف: (بصراحة وقتها تقلقت من رسالتك… اما كيف ما تعرفني انا نسمع وما نقول شيء) … من جانبي انتظرت ردود افعال سلبية او ايجابية بعد تلك الرسالة ولكن الغريب انه لم يصدر اي رد فعل مهما كان لونه… ولأنني لست من الذين يكتفون بمضغ الهواء قررت ان اطرق بابا آخر قد يبدو غريبا بالنسبة للبعض ولكن اردت من خلاله حلحلة الوضع الجامد …. ماذا لو تقوم يا عبدالكريم بتقديم استقالتك من مؤسسة الاذاعة والتلفزة … طبعا لم اكن غبيّا وانا اُُقدم على هذا العمل لأني في نفس الوقت الذي ساقدّم فيه استقالتي انا متمتّع برخصة لمدة سنة دون اجر… وهذا كفيل قانونيا بأن لا تقبل الادارة استقالتي الا بعد مرور تلك السنة كاملة اي في ديسمبر 83 … كنت اريد من وراء تقديم الاستقالة ان احرّك بعض الاطراف عند علمهم بها حتى يفعلوا شيئا ما …

    وفي2 ماي 83 ارسلت استقالتي للسيد المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية: (سيدي المدير العام تحية وبعد… اني المسمّى اعلاه اتقدم لكم بهذا المكتوب اعلمكم فيه بأني تفرغت الى مهام اخرى تقتضي تواجدا مستمرّا بصفاقس… وامام هذه الوضعية اقدّم لكم استقالتي من مؤسستكم التي عملت بها منذ 1971… لا يسعني في الختام الا ان اعبّر لكافة رؤسائي وزملائي عن امتناني لكلّ المعلومات والخبرات والتكوين الشخصي الذي حصلت عليه خلال هذه الفترة … تقبلوا مني عبارات الاحترام) … كنت مدركا جدا انّي لن اتلقّى ردّا على مكتوبي هذا ولكن هدفي كان بكلّ امانة وكما اسلفت ان يتحرّك البعض لحلحلة القضية، فلا موقعي في الكلّية يملؤني ولا العميد ينظر اليّ بعين الرضى ولا اريد لاخي التوفيق المكوّر ان يجد نفسه بين سندان عبد الكريم ومطرقة العميد رغم رسالة الشكر الخاصة التي وقّعها مدير تظاهرة “الافا سات” بالكلية انذاك والذي خصّني فيها اسميّا وصديقي التوفيق بالشكر والثناء على عطائنا الغزير وعلى النجاح الباهر تنظيما وتنفيذا … مرة اخرى رغم كل شيء، ماهياش وآنا موش آنا في الكلّية …

    وجاء اليوم الموعود… جاءت المكالمة الهاتفية والتي تقول صاحبتها: (اذا كانت لك رغبة في عودة الكوكتيل الى الحياة فالادارة موافقة على ذلك) … ومن عجائب الصدف ان الزميلة ابتسام هي من حملت نبأ عزل المرحوم محمد الفراتي وهي من حملت لي نبأ عودة الكوكتيل …..من كان وراء القرار؟… هذه معلومة ساصرّح بها ولأوّل مرة … عندما قدمت استقالتي سمع الكثيرون بها … من ضمنهم كانت هنالك زوجة رجل اعمال بصفاقس وهي مستمعة في الخفاء لم التق بها يوما …ورغم انه كان من الواجب ان التقيها لاقدم لها شكري وامتناني الا ان الاقدار ابت ذلك باعتبار مغادرتها تونس نهائيا … هذه السيدة كانت تربطها علاقة صداقة حميمة مع عائلة الطاهر بلخوجة (وزير الإعلام آنذاك) وانتقلت خصيصا بعد سماع خبر استقالتي لتقول له: باختصار عبدالكريم يجب ان يعود… وللامانة ايضا ليست هي من اخبرتني بما قامت به تجاهي ….

    دعاني السيد الطاهر بلخوجة لمكتبه بالوزارة وكانت فرصة لالتقي هنالك باستاذي الحبيب حمزة الذي درسني التاريخ بمعهد الحي والذي وجدته مستشارا بوزارة الاعلام، وكذلك بالزميل التوفيق الحبيب الذي يعمل كملحق اعلامي بوزارة الاعلام .. كنت اقرا يومها في اعينهما البشرى وحتى الوزير الذي كان معروفا بصرامته حيث يُلقّب بـ (الطاهر بوب) باعتباره هو من انشأ فرقة “البوب” (النظام العام) في الامن الوطني… حتى الوزير كان هدفه من لقائي التعرّف عليّ لا اكثر لأنّ الحديث معه لم يتجاوز بضع دقائق بعدها سلّم عليّ وقال سانظر في الامر .. وفي الغد نشر الزميل توفيق الحبيّب بجريدة الحزب الناطقة بالفرنسية (لاكسيون) مقالا بعنوان (من يُعيد المصدح لعبدالكريم؟) اي ان المقال كان جاهزا … وطبيعي جدا ان نقرأ المقال المكتوب بقلم ملحق اعلامي بوزارة الاعلام بذلك العنوان وذلك المحتوى، بعقل ثاقب لنفهم انّه ضمنيّا يقول (هاو جايين هاو جايين) …

    ما امتع مثل تلك اللحظات الفارقة في حياتنا… لحظات مصارعة الموج والتنفس تحت الماء … لحظات ترى الدنيا فيها بأعين اخرى، الشمس بأعين اخرى…. لحظات انبعاث دنيا جديدة … ولكن ماذا لو لم نعش رعود الحياة وصرير الرياح فيها ؟؟؟ ماذا لو لم نعش اهوال البراكين والزلازل والاعاصير ؟؟؟ ..هل كنّا نستمتع بالشمس والموج والتنفس تحت الماء ؟؟؟ من هذه الزاوية انا دائم القول: (الحياة جميلة وجميلة جدا شريطة انّو (ما نمشكلوهاش)…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 69

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    وكان ايقاف الكوكتيل في اكتوبر 1982… وكان عليّ ان اقوم بعمل ما… ليس من طباعي ان ارضى بالقرارات التعسّفية وخاصّة تلك التي اشتمّ من ورائها مؤامرة …

    عبد الكريم قطاطة

    كان لي يقين بأن المدير بالنيابة انذاك المرحوم محمد الفراتي تصرف تحت نميمة ما… وتأكّد حدسي عندما جاءني الزميل رشيد العيادي بعد اشهر من الايقاف، واسرّ لي وبكلّ حميميّة انّ المرحوم الفراتي خضع لعمليّة ابتزاز من احد النقابيين لا اتقاسم معه بعض المواقف النقابية… انا كنت ومازلت اؤمن بأنّ العمل النقابي على مستوى القيادات العليا انتهى بعد موت حشّاد كعمل نقابي وطني صرف… وانّ كل من جاؤوا بعده كانت اعمالهم تخضع لحسابات سياسية وشخصية ضيّقة… وكنت لا اجد ايّ حرج في الاصداع بهذا الموقف… وبقدر ما كنت اقدّر واحترم صدق نسبة كبيرة من القاعدة النقابية المناضلة بحقّ من اجل مصالح الطبقة الشغيلة، بقدر ما كنت احترز جدا من مواقف الهياكل العليا …

    هذه المواقف لم تكن لتُرضي بعض الاطراف النقابية في اذاعة صفاس وكانت ترى في اجهاري بها زعزعة لمكانتها ولنفوذها… خاصّة ان العديدين بدؤوا يحملون نفس مواقفي لذلك كان من صالح هذه الاطراف النقابية ابعاد عبدالكريم مع ضمان فترة علاقة سلمية مع الادارة، وهكذا لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي …

    في الاسبوع الاول لايقاف البرنامج لم اكن اعرف هذه الحقيقة … ولكن مهما كانت الاسباب كان عليّ ان افعل شيئا ما… وقررت ان اكتب واخترت الجريدة الاكثر انتشارا انذاك (“البيان” الاسبوعية) والتي يرأس تحريرها الزميل نجيب الخويلدي وكان المقال الزوبعة “زوبعة باذاعة صفاقس” وبتاريخ 11 اكتوبر 1982 بالصفحة السابعة للجريدة … احتلّ المقال صفحة كاملة من صفحات الجريدة وهو في كلمات مقال موجّه الى المسؤولين عن الاعلام والى القرّاء… فيه تشريح لواقع الاعلام بتونس وفيه حيثيات لما حدث لبرنامج كوكتال من البريد الى الاثير … علما بأني كنت وجهت قبل نشر المقال رسالة الى وزير الاعلام واخرى الى المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية السيد عبدالعزيز قاسم ولم اتلقّ ايّ ردّ …. علاوة على انّي كنت تنقلت الى رئاسة المؤسسة طمعا في موعد مع الرئيس المدير العام وبتوسّط من مدير الاذاعة الوطنية انذاك المفكّر والاديب والاستاذ الجامعي الصديق رياض المرزوقي، الذي كان وللامانة على قدر كبير من التقدير لي والتعاطف معي …

    في الحقيقة كان املي كبيرا في حصول اللقاء مع الرئيس المدير العام السيد عبد العزيز قاسم باعتباره رجل فكر وادب الا انّه رفض رفضا باتا وساطة السيد رياض المرزوقي ورفض وبكلّ حدّة مقابلتي وبالتالي عدت بخّفيّ حنين … لهذه الاسباب وبعد ان استحال عليّ توضيح موقفي ممّا حدث التجأت الى الصحافة المكتوبة (البيان) حتى اُطلع كلّ من يهمّه امر الكوكتيل بما حدث … المقال احدث زلزالا رهيبا نظرا إلى دوزة الجرأة التي جاءت فيه من جهة ونظرا إلى أن ايّ مسؤول في تلك الحقبة (يجنّ جنونو) متى كتبت الصحافة عن خلل ما في مؤسسته …

    وكان اوّل ردّ فعل من الادارة العامة ان قرّرت يوم 13 اكتوبر وبمكتوب رسمي اعادتي الى خطّتي كمركّب افلام بالتلفزة التونسية… اي انهاء علاقتي باذاعة صفاقس… يوم تسلّمي المكتوب الرسمي لنقلتي كتبت لرئيس المؤسسة ردّا اعلمته فيه برفضي المطلق لقراره الذي اعتبرته جائرا في حقّي لانه لم يمكّني من سماع موقفي… ردّي كان مرفوقا برخصة مرض من احد الاطباء المختصيّن في الامراض النفسية كما يفعل العديد منّا اتقاء لفحص مضاد من طبيب المؤسسة باعتبار انّ المرض النفسي لا يخضع لهذا الإجراء… اضافة لواقعي العائلي الذي يحتّم عليّ البقاء باذاعة صفاقس…

    الا انه وككل المديرين الذين يستاؤون من تنطّع بعض المنتمين الى مؤسساتهم (وهكذا هم يرون في من يقول لا)، ردّ عليّ بالمراسلة التالية يوم 18 اكتوبر: (جوابا على مكتوبكم المؤرخ في 16 اكتوبر 1982 المتعلّق برفضكم الالتحاق بعملكم ضمن اسرة التركيب بادارة التلفزة بتونس، اذكّركم بأنكم تشغلون خطّة مركّب وانّ ضرورة العمل تقتضي ان تباشروا مهامّكم الاصلية بقسم التركيب ابتداء من 9 نوفمبر تاريخ انتهاء رخصة المرض التي تحصلتم عليها، وذلك نظرا إلى وفرة العمل بهذا القسم الشيء الذي يستوجب تعزيز الاطار العامل به. اما الاعتذارات التي قدمتوها كتعلّة لبقائكم باذاعة صفاقس فانها غير مقبولة من الوجهة القانونية وانّ القانون الاساسي العام لموظّفي الدولة يفرض عليكم الالتحاق بمقرّ العمل الذي تعيّنه لكم الادارة. لذا فإن عدم مباشرتكم لعملكم بادارة التلفزة في التاريخ المذكور اعلاه يُعتبر رفضا للعمل ويُعرّضكم للعقوبات الادارية الواردة بالقانون الاساسي. الامضاء المدير العام للاذاعة والتلفزة التونسية) وجاء امضاؤه شخصيّا بعيدا عن العنعنة …

    هذا الرد وبما فيه من تهديد ووعيد لم يرعبني بتاتا بل زاد في تنطّعي وقررت التصعيد ولكن دون تهوّر… كان عليّ ان اجد حلاّ يقيني شرّ ردود افعال الادارة فقررت ان اطلب رخصة عطلة لمدة سنة دون مقابل… كنت واثقا من انّي ساحصل على الموافقة لأنهم وبكلّ غباء ينظرون الى الامر من زاوية (اعطيوه رخصة بعام نرتاحوا من بلاه)… قلت بكلّ غباء لأنهم لم يتفطّنوا الى امر قانوني هام الا وهو انّه واثناء تلك الرخصة ولمدّة سنة، استطيع ان اكتب ما اشاء دون معاقبتي اداريا لأنه ليس من حقّ مجلس التاديب ان ينعقد لمحاسبة ايّ موظّف وهو في حالة رخصة طويلة دون اجر …اي بما معناه رضينا كطرفين برخصة دون اجر (وكل واحد شيطانو في جيبو)…

    ومنذ قبول الادارة بمطلب رخصة دون مقابل لمدّة سنة حدثت اشياء عديدة … اوّل ما حدث تعيين زميلة في توقيت الكوكتيل ليعود برنامج اهداءات كما كان من قبل… هذا أعتبره امرا طبيعيا للغاية اذ لا يمكن لأية اذاعة ان تتوقّف على اسم ما مهما كان حجمه وعليها ان تسدّ الفراغ البرامجي الذي يتركهه في غيابه… لكن غير الطبيعي ان تستهلّ تلك الزميلة في اوّل ظهور لها بمقدّمة من نوع {بداية من اليوم سنقطع مع الميوعة وستتمكن ايّة فتاة من ان تواكب البرنامج مع ابيها والولد مع امّه!!! …اشنوّة يخخي كنت نعمل في بورنوغرافيا في الكوكتيل ؟؟؟… ولأن التاريخ لن يرحم ايّ واحد منّا، تعود نفس الزميلة وقبل خروجها للتقاعد في برنامج ارادت ان تكرّم فيه بعض الزملاء في مسيرتها… تعود لتختارني من ضمن المُكرّمين… هي لم تكتف باختياري كافضل منشّط في تاريخ اذاعة اذاعة صفاقس فقط، بل قالت بالحرف الواحد: عبدالكريم ليس منشطا فقط هو “ربّ” التنشيط !…

    من تداعيات مكتوب رئيس المؤسسة الذي حمل كما اسلفت التهديد والوعيد، ان وجد بعض النقابيين الذين قاموا ببيعة وشرية مع المرحوم الفراتي لازاحة عبدالكريم من امام المصدح… وجد بعضهم الفرصة سانحة ليكتب مقالا مطوّلا عن عبدالكريم وعن الكوكتيل متهما اياي ايضا بالتهريج وبجهل مقوّمات العمل الاعلامي الناضج، ومدافعا عن قرار الادارة دفاعا حتى الادارة نفسها لم تقم به… والحال انّ برنامج الكوكتيل احتلّ في نفس تلك السنة المرتبة الاولى لدى المثقفين والطلبة في حين انّ برنامج ذلك المُدّعي لم يحصل الا على المرتبة العاشرة … وهو بكلّ غباء لم يدرك انّ التهمة التي وجّهها اليّ هي موجّهة ضمنيا للطلبة والمثقفين … وهنا لابد من الاشارة الى انّ السنوات التي تلت ازاحت سحب الخلاف الذي بيننا بعد جلسة تحاور وصفاء …

    علاقتي بالمستمعين تواصلت من خلال حوارات عديدة اجرتها معي عديد القنوات الاعلامية في الصحافة المكتوبة… كان الجميع يطالب بمشروعية عودة الكوكتيل… الجرائد وخاصة الاسبوعية منها اصبحت منبرا اعلاميا للمستمعين واصبحت العرائض تفد من كل حدب وصوب وتفتّقت قريحة العديد منهم لتحكي عن مواجعها ….اتذكّر جيّدا برقية تعزية من مستمع في 7 ديسمبر 1982 كتب فيها معبّرا عن لوعته لفقدان الكوكتايل (“يا ايّها القاتلون لا اقتل ما تقتلون ولا انا قاتل ما قتلتم لكم ضميركم ولي ضميري اتقدّم لكم باحرّ التعازي بعد ان لفظت انفاسك الاخيرة اذاعتي ولم تحتفلي بعيد ميلادك الحادي والعشرين. لقد فارقت الحياة وانت في ربيع العمر جازى الله من كان سببا في قتلك. رحمك الله رحمة واسعة ورزق كافة مستمعيك واحباءك جميل الصبر والسلوان وانّا لله وانّا اليه لراجعون”) …

    اذكر في هذا الباب ايضا رسالة يتيمة اقسم بالله انّها كانت الوحيدة… جاءت من احدهم تحت عنوان “نعم نحن من اوقفنا الكوكتيل” … ولأنه مرّة اخرى التاريخ لا يرحم، جاءني صاحب الرسالة في وسط التسعينات وطلب المعذرة بعد ان اصبح زميلا في اختصاص آخر وقال لي حرفيا: اريدك ان تغفر لي ما كتبت يوما لأنه انذاك كان السبيل الوحيد لديّ لادخل معمعة الانتاج باذاعة صفاقس، وفعلا نجحت خُطتي ودخلت كمكافأة على ذلك المقال الذي كتبته ضدّك … كان يروي لي والدموع في عينيه وبكلّ خجل… ربّتُّ على كتفيه وغفرت له واصبح من اقرب الزملاء اليّ… ان نسيت لا انسى تعاطف العديد من الزملاء باذاعة صفاقس معي، بعضهم كان يكتب باسماء مستعارة في الجرائد، مطالبين بعودتي (ابتسام المكوّر)… البعض الاخر كان يتحاشى محادثتي امام اعين الجواسيس في الادارة حتى لا يناله الطشّ … فكان ياتيني ليلا الى منزلي ليُعبّر لي عن مساندته المعنوية (العين بصيرة واليد قصيرة)…

    وبعد ؟؟؟

    بعد ذلك كان عليّ ان اجد عملا ولو وقتيا لضمان خبز عائلتي… انا ساكون ولمدّة سنة دون مرتّب وعائل لزوجة وابنة… وهنا لابدّ من الاشادة بما وجدته من زوجتي ومن عائلتي من مؤازرة كاملة دون اي احتراز… لن انسى افضالهم وصبرهم عليّ… ولكن وبعد يا سي عبدالكريم ..؟؟؟ تكبّر راسك اوكي، اما رزق عائلتك ؟؟ حليب بنتك ..؟؟ تذكرون جيدا فيضانات اكتوبر 82 ؟؟؟ حتى سيارتي انذاك تعاطفت مع الوضع وقررت ان تكون لها رخصة طويلة الامد من جرّاء مياه الفيضانات…يعني كيف تمشي تقطّع السلاسل …وصدقا لم اشعر يوما لا بالحاجة ولا بالندم …كنت وساموت مؤمنا بأنّ الاقدار حقيقة ثابتة لا تُجادل …اذ انّه من قال انّي ساصبح يوما ما منشّطا ؟؟؟ صحيح انّي درست العلوم السمعية البصرية في دراستي العليا بفرنسا… صحيح ايضا ان السنة الاولى من الدراسة خُصّصت للجذع المشترك بما في ذلك التنشيط الاذاعي والتقنيات الاذاعية من ضمن ما درست، ولكن الاختصاص كان الاخراج التلفزي …فاذا كانت الاقدار هي التي جعلت منّي منشّطا وبكل فخر واعتزاز لماذا اشتكي من اقدار اخرى لم تعطني ما اردت ؟؟؟ او نغّصت عليّ بعض ردهات السعادة في ما اردت او احببت ..؟؟؟

    ولم تطل مدّة البطالة بلا اجر …تحرّك بعضهم وعرض عليّ فكرة ان اهتم بالشؤون الثقافية في كلّية العلوم الاقتصادية والتصرّف بصفاقس …فؤجئت بالعرض ولكن لم يفاجئني صاحبه …هو زوج الزميلة ابتسام، الصديق العزيز جدّا توفيق المكوّر …اعرفه مذ كان تلميذا في التعليم الثانوي نسكن في نفس المنطقة ولكنّه كان انذاك انزوائيا جدا… وعندما توطّدت علاقتي بابتسام توطّدت علاقتي بكلّ عائلتها وخاصّة بوالدها المربّي الفاضل سي عمر رحمه الله وبزوجها خويا التوفيق …هو انسان عملّي لابعد الحدود جدّي في العمل بشكل منقطع النظير، فنان في جلساته مع الاصدقاء، يهوى الموسيقى الراقية والعزف على العود وهو في تلك الفترة يشتغل كاتبا عاما لكلية التصرّف وله علاقة حميمة مع عميدها السيد عباللطيف خماخم …

    عرض عليّ الامر ودون تردد وافقت ..وافقت لا لأنني عاطل عن العمل بل لأنّ علاقتي بالصديق التوفيق تريحني للعمل معه …وصدر يوم 23 فيفري 1983 قرار تعييني من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كمسؤول عن الانشطة الثقافية بكلية العلوم الاقتصادية والتصرّف بصفاقس … وبدات مرحلة مهنية اخرى في حياتي …الم احدّثكم عن الاقدار …حياة الواحد منّا كبحّار يخرج بمركبه الى البحر ويرمي الشباك بحثا عن السمك … هل هناك من يدّعي انّه قادر على معرفة نوع السمك الذي سيصطاده …قد يكون كعيبات صبارص يعملو ستة وستين كيف …قد يكون كعيبات مللو حجر اللي ولّينا نسمعو بيه اكاهو ولسنا من قبيلة هاضاكا … لنجده على طاولتنا … اما الكروفات الروايال هاكي عاد قريب سوم الكيلو يشري مرجع تراب …

    فقط كل ما ندعو به الى العزيز الرحمان ان يرأف بذلك البحّار حتى لا يتعرّض في كفاحه اليومي في لجج البحر الى مداهمة قرش، خاصّة ونحن معه نعيش زمن مداهمة القروش من قرطاج الى مونبليزير …

    ـ يُتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار