تابعنا على

جور نار

ثلاثة أصناف كُبرى من التلاميذ

نشرت

في

كنتُ بصدد مطالعة بعض ما كُتب في وظيفة المصعد الاجتماعي التي تضطلع بها المدرسة في شتّى بلدان العالم والاطلاع على ما قيل في العطب الهيكلي الذي أصاب هذه الآلية الارتقائية خلال العقود الأخيرة، وكيف يمكن إصلاحها من أجل عدم ترك مزيد من الناشئة على قارعة الأميّة (البدائية منها والرقميّة) والعجز على كسب ما به تحقّق سعادتها وحقّها في العيش الكريم… حتى تاه بي التفكير ورُحتُ أعُدّ النماذج المُمكنة للتلاميذ في مدرستنا، فتوصّلتُ – بشيء من المرح الطّارد للتوتّر المُميت- إلى رصد ثلاث مجموعات كبرى :

الفئة الأولى : التلاميذ الذين يمتطون المصعد الآلي وهم العدّاؤون الرّاكضون بسرعة قصوى Les sprinters

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

هم مجموعة غير وفيرة العدد من التلاميذ المقتدرين القادمين إلى المدرسة برصيد متنوع ومُثمر دراسيا متكوّن من مهارات أساسية في الحساب والقراءة والكتابة وحُمولة تعبيريّة شفوية وكتابية هائلة، وأولياء يُجِلّون الكتاب وعائلات لها شبكة علاقات مُرسملة وقصص نجاح عائلية مؤسِّسة ونماذج مهنية يمكن التماثل معها (حيث يوجد في العائلات الميسورة المختصُّ في الطب النووي وصانع المحتوى والمختصّة في التغذية والتّنحيف وصاحبة الخبرة في التأثير الرقمي… بينما لا يتعرف سليل الأوساط الاجتماعية المتواضعة الا على المُعلّم وخدّام الحزام وعامل الحظائر ومُقدّمة أخبار الثامنة مساءً). ..

هؤلاء تنفتح أمامهم المصاعد تلقائيا بفعل اللاقطات الإلكترونية المجهّزة بها وبإمكانهم الضغط على أيّ زرّ يريدونه ليبلغوا أي طابق يستهويهم حتى وإن كان في أعلى ساطعات السّحاب. مسارهم مُحدّد بدقّة قبل الانطلاق، يعرفون تماما أية الباكالوريات يختارون وأية مواد أو لغات إضافية يدرسون وأية دروس خصوصيّة يرتادون وبأية معدلات ينجحون وأية جامعات يؤمّون… وفق منطق يشبه القدريّة التي تهزأ من الإكراهات والكوابح المختلفة.

الفئة الثانية : التلاميذ الذين يسْلُكون السّلالم Les grimpeurs

هذه المجموعة عددها كبير نسبيا وأهم ما يميّزها أن المدرسة معبر أساسي بالنسبة إليهم ولا بديل لهم عنها بحكم نُدرة إمكانيات عائلاتهم ومحدودية مداخيلها. تزدحم بهم السلالم وتتنوّع سلوكاتهم وأشكال تعاطيهم مع المضامين التي تُعرض عليهم. يكثر هرجهم ومرجهم أيضا لأنهم لم يتعوّدوا على الممرّات الضيقة والقواعد المقيّسة التي تحكم حركاتهم وسكناتهم ويصعب التكيّف السّريع معها، خاصة إذا اقترن ذلك مع هبوب رياح المراهقة والمصادقة… فتكثر زلاّتهم وهفواتهم وتستأسد المدرسة في ممارسة سلطانها حتى يجد العديد منهم نفسه في مسالك موازية يصعب توقّعها، أو في أحسن الحالات، يبتدعون ردود فعل “فنية” يردّون بها على هذا الاستعلاء الذي تمارسه المدرسة ضدّهم من قبيل شعار “ملاّ راحة من الدراسة” وهو وريث شرعي لشعار “إليك يا مدرستي قنبلة ذريّة”…بدلا من “تحيّة زكيّة”.   

هذا الحشد من التلاميذ لا تتساوى حظوظه وقدراته على الصّعود والصّمود، فمنهم من تبرُكُ جِماله في الطوابق الأولى ومنهم من يثبت ويستمرّ في مسيرته وصولا إلى بعض الطوابق الأعلى … ولكنّنا نعثر وسط هذه الفئة الثانية على كوْكبة صغيرة من “المقاومين البواسل” المتمتّعين بقدرة فطريّة على تحييد الموانع وعدم التأثّر لا بالبرد ولا بالعطش ولا برداءة الأحوال وقلّة الأموال فيتعبون ويكدّون ويُثابرون ويبلغون نفس المواقع التي أحرزتها عناصر الفئة الأولى المرفوعون إلى أعلى les ascensionnistes وبدون أية منشّطات أو مجلوبات عائلية واجتماعية خاصة.

هذا ويُعتبر تناول هذه الفئة من المتفوّقين بدفع ذاتي محض بالدراسة والتحليل مهمّ جدا لأنه يساعد على فهم ما وراء الدافعية الداخلية القويّة الكفيلة لوحدها بتعويض كل الدافعيات المُساعدة الأخرى، ويساهم في تأكيد الفرضيّة البنّاءة والتي مفادها أن الخلط المتعمّد بين الحتمية والقدريّة لا يخدم استراتيجية الأمل المفتوح على مصراعيه أمام كل القادمين من أوساط غير محمولة على النجاح والتميّز في الذهنية العامة، لأن “الحتميّة” تُعيق التقدم ولكن من الممكن “التعامل معها لتحييدها ودحرها” كما في لغة العسكريين والأمنيين عندما يواجهون فلول الإرهاب، بينما “القدريّة” تُكبّل معتنقها وتجعله يقتنع سريعا بأن “الرضا بالقدر حكمة لا يفهمها الجاهلون”.

الفئة الثالثة : الُمراوحون (وفي العاميّة التونسية هم كذلك مُمَرْوِحون لأنهم يسترخون في وضعيات اللاتعلّم بعد استبطان فشلهم أو مُروّحون أيضا لأنهم سريعا ما يغادرون مقاعد الدراسة)

وتتكوّن من التلاميذ الذين ضاقت بهم السّبل فلم يقدروا لا على امتطاء المصعد الآلي ولا على صعود الدّرج التقليدي، لأسباب مُركّبة فيها المُجتمعي والسياسي والمدرسي الداخلي فظلوا يراوحون مكانهم لا شيء يعجبهم ولا يُعجِبون أحدا، يُقضّون أوقاتهم في التمسك بخيوط أمل رفيعة في الإقلاع يوما ولكن كلما تسارع نسق التعلمات وحمي وطيس المعركة الدراسية تراهم يتناثرون ويتطايرون أفواجا خارج الدواليب الطّاحنة لمدرسة مُنفّرة لا تحتفظ إلا بمن يُذعن لمشيئتها ويتماهى تماما مع قوانينها الرافضة لمن “يُربك السير العادي للدرس ويُشوش على النسق الطبيعي للتعلمات”.

هؤلاء المُراوحون و المُكتفِون بالترويح عن النفس في انتظار قرار الإبعاد غير القابل للطعن، يجدون لأنفسهم كل المبررات التي تجعلهم يحقدون على مجتمع ضالع في تمكينهم من نصف حياة ويكرهون مدرسة لا تسمع صرخات عجزهم ولا تُصغي إلى صدى إخفاقهم ويُعادون نظراء لهم لا ذنب لهم سوى كونهم يبدون متحرّرين من أية وطأة كانت.

يغادرون المدرسة بعشرات الآلاف سنويا (أي بالملايين خلال جيل واحد) ولا يعترض سبيلهم أي إجراء جدّي يحتضنهم ولا أية آلية تأخذ بأياديهم ولا أية ثورة عمياء صمّاء بكماء تلتفت ناحيتهم لتجعل منهم جيشا من الماهرين والبارعين في شتى مناحي الحياة لا جيشا منسيّا من احتياطيّي الجريمة والشتيمة والانخراط السهل في مسالك الجُنوح وتدمير الذات والمجموعة.

نحن إذن أمام مدرسة بثلاثة أنساق سيْر متفاوتة : عدّاؤون متفوّقون، ومتسلّقون متعثرون ومُراوحون متروكون على ذمّة من ينتدب من الشطّار والعيّارين.

المشكل حسب اعتقادي هو في طبيعة المنوال الذي بالإمكان أن تتصوّره مدرستنا لمواجهة هذا المشهد المعتلّ ! ولا أعتقد بالمرة أنه لدينا في الوقت الحاضر تصوّرا لتدعيم الفئة الأولى وإسناد الثانية واحتضان الثالثة لإعادة دمجها في الدورة المدرسية أو تلقّفها بالتكوين والتدريب والتأهيل إن تعذّر ذلك، خاصة بعد اتضاح فشل تجربة النموذجي وارتفاع كُلفة الفصل بين التربية والتكوين المهني والانعكاس المُدمّر للدروس أو المدارس الخصوصية على مستوى عيش العائلات التونسية.

إذن لا بدّ من إعادة إنتاج المدرسة التونسية.

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    “اش جاب رجلي للمداين زحمة”…

    نشرت

    في

    محمد الأطرش:

    ما هذا الذي نعيشه نحن العرب من طنجة إلى بغداد مرورا بما بينهما؟؟ لماذا أصبحنا أمة شماتة وحقد وكراهية؟ لماذا تخلينا عن ثقافة الاعتذار… وعن التصالح والتسامح وعن أخلاق وثقافة الأخوة والجوار؟ لماذا نحن اليوم هكذا؟

    ألتقي العديد من الأصدقاء في بعض مقاهي المدينة يوميا…واستمع إلى الكثير من القصص الغريبة عن ثقافة الحقد والشماتة ورفض الاعتذار… ومن أغرب القصص التي أسمعها حين يشمت بمصائبك أقرب الناس إليك، وحين يفرح بوجعك وما أنت فيه مَن كنت تعتقد أنه صديقك وأوفاهم عندك ولك… والموجع والخطير هو ما يعيشه كل العرب دون استثناء فكل العرب يسعدون بجراح كل العرب… ويرقصون على أوجاع كل العرب… ويشربون على نخب كل مآسي العرب… في بلادنا كما في أغلب بلاد العرب يموت بعضنا فترى أرهُطُا من الشامتين يتحدثون ويكتبون ويسعدون بما وقع لذلك البعض… وترى بعضهم يسعدون ويخرجون للاحتفال بمجرّد سجن بعضهم الآخر ممن يختلفون معهم… وينقسم إعلامنا إلى ثلاثة أقسام… من إعلام شامت وسعيد، إلى إعلام مستنكر رافض، وآخر خيّر الصمت وابتلاع لسانه خوفا من تبعات ما قد يعبّر عنه… ويظهره…

    ومصيبتنا الأكبر هي اننا شعوب لا تعترف بثقافة الاعتذار وتسخر ممن يدعون إليها… فنحن نعيش هذه الحياة بتقلباتها وتشنجاتها ومطبّاتها وخلافاتها… وكثيرا ما نخطئ في حقّ بعضنا البعض ونصل حدّ التصادم لفظيا والعنف أحيانا… لكننا وعوض أن نراجع ذواتنا ونعتذر عمّا صدر منّا، نتعالى ونرفض الاعتذار ولا نكلّف أنفسنا عناء نطق كلمة آسف… أليس الاعتذار شيئا وجب فعله لكل من أخطأنا في حقّهم… ومن ظلمناهم وأسأنا إليهم؟؟

    هل أصبحت ألسنتنا غير قادرة على نطق “سامحني”… “خوي بربي سامحني راني غالط معاك”…”أختي سامحني عيش أختي” …”خوي انت صادق سامحني غالط معاك”… هل نسينا هذه الكلمات؟ لماذا تصاب ألسنتنا بالشلل حين وجب نطق هذه الكلمات؟ لماذا أصبحنا غير قادرين ورافضين التلفظ بكل كلمة توحي بالاعتذار؟

    علينا أن نعترف أن حياتنا جميعا ومنذ 14 جانفي انقلبت رأسا على عقب… فما حدث أكّد لنا جميعا أننا شعوب لا ولن تقبل بالاختلاف ولن تقبل بآخر يقول لها ما لا تريد سماعه… فنحن تربينا على مدى قرون على العصا… وضرب القفا… واجلده مائة جلدة… واضرب عنقه، ولم نتعوّد على أن نختلف ونناقش اختلافنا بهدوء وعقل ورصانة… فحياتنا تغيرتْ ومعها أيضا إنسانيتنا فبعضنا حافظ على انسانيته وبعضنا، وهم الأغلبية، فقدوها… أضاعوها… فالإنسان مهما كان وزنه وقيمته ومهما كانت درجة ادراكه وثقافته وعلمه، ليس ملاكا ولا معصوما من الخطأ… جميعنا نملك عقولا نتميّز بها ونميّز بها بين أفعالنا وأقوالنا وتصرفاتنا وما نأتيه في حقّ الآخرين وخاصة من نختلف معهم وربما ننافسهم في مجال معيّن…

    الحقيقة التي نعيشها ونخجل من الاعتراف بها، هي ان أغلبنا لا يمتلكون الشجاعة والقدرة على الاعتراف بالخطأ في حقّ من اخطؤوا في حقّه أو ظلموه أو حتى نكّلوا به إعلاميا… أو حتى بعض من لفقوا لها أمرا مُشينا انتقاما منه ومن اختلافه عنهم وربما لعدم اعترافه بهم او انتمائه لهم… أغلبنا لم يتعلم ولم يتعوّد سلوك الاعتذار وثقافة التسامح والتصالح… وأغلبنا لا يدركون حجم الألم والوجع والقهر الذي يتسببون فيه للآخر إلا يوم يتذوقون ما تذوقه الآخر من دمار نفسي ووجع بدني وما مرّ به من مأساة…

    في تونس كما في أغلب البلاد العربية التي اصابتها لعنة الربيع العربي المزعوم (لو كان ربيعا لازدهرت بلادنا وبلاد العرب بالديمقراطية واحترام الآخر وراي الآخر والقبول بالاختلاف)… أقول، في تونس وفي كل بلاد العرب التي أوهموها بالربيع العربي يفرحون لفشلك ويصطادونه ويروجون له… كما يحزنون لتميزك ونجاحك وتفوقك… في تونس وفي اغلب بلاد العرب زماننا هذا، تتساقط على رأسك معاول التحطيم والتخريب والإحباط ومطبات العراقيل يوم يعلمون بهزيمتك وفشلك وخسارتك فيزيدون من وجعك ونكبتك ويضاعفون مصيبتك…

    في تونس وفي كل بلاد العرب التي اصابتها لعنة الربيع العربي المشؤوم (لو كان ربيعا حقا لكنت سعيدا ولن أبالي) أقول في تونس وفي كل البلاد التي أصابتها لعنة الفتن والحقد والكراهية، يسعدون يوم يصيبك مكروه أو تصاب بأحد الألغام التي زرعوها في طريقك… فتراهم يسعدون ويطلقون العنان لخيالهم الخصب من التهم والأكاذيب والقصص الخيالية، فتصبح في نظر الجميع خائنا وفاسدا ومجرما وجب تعقبك والتخلّص منك حتى وإن اخترت الهرب إلى المرّيخ… فأنت في نظرهم فاسد… سارق… خائن… غير كفء… هكذا هم… وهكذا اليوم حالنا وحالهم…

    تعالوا نبحث عن إنسانية فقدناها أو ضاعت منّا في زحمة ما وقع لنا وعلينا… تعالوا نستعد رصانتنا… ونبحث عن شتات عقلنا الذي أضعناه وسط موجة الأحقاد والكراهية التي زرعوها في جسدنا… تعالوا نعترف ببعضنا البعض… ماذا لو اعترف حاضرنا بتاريخنا… واعترف تاريخنا بحاضرنا… ماذا لو احتضن تاريخنا حاضرنا… ليكون مستقبل أبنائنا أجمل… وأفضل… لا حقدا ولا انقساما… واللهم اجعلنا من الذين يعتذرون إن أخطؤوا… ولا تجعلنا من اللئام… وكما يقول صديقي الجليدي العويني بصوت صديقي عدنان … “اش جاب رجلي للمداين زحمة … واش جاب قلبي لناس ما يحبوه”… والسلام…

    أكمل القراءة

    جور نار

    “لقد أنقذني الله لأعيد للماما عظمتها!”…

    نشرت

    في

    محمد الأطرش:

    خرج علينا دونالد ترامب يوم تنصيبه صارخا مُوَلْوِلا: “الآن يبدأ عصر أمريكا الذهبي” هكذا قال ساكن البيت الأبيض داعما بذلك ما خرج به على العالم خلال حملته الانتخابية… فدونالد أطال الله انفاسه وعد بعصر ذهبي للماما بعد ان مرّغ من حكموا قبله أنفها في التراب… وكأني بالعصر الذي سبق عصر دونالد الثاني كان من الخردة أو من القصدير لا ثمن له…

    هكذا يعيد دونالد على مسامعنا ما نسمعه جميعا وفي كل دول العالم من شيطنة للقديم، وسياسات القديم وشيطنة خيارات واختيارات كل من جلسوا على كراسي حكم بلدانهم… وكأني بدونالد يريد إعادة التاريخ إلى ما بعد سنوات الحرب الاهلية الأمريكية وظهور شخصيات اقتصادية خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر أمثال “روكفلر” وغيره… شخصيات ثرية ساهمت في تغيير وجه الماما اقتصاديا وسياسيا وجعلت منها القوّة الاقتصادية الأولى في العالم… قوّة حكمت العالم لأكثر من قرن… وكأني بدونالد ابن الماما غفر الله لها ما تقدّم وما تأخر من ذنوبها وذنوب أبنائها وأحفادها ومن صاهرها وجالسها وأكل معها… أقول وكأني بدونالد يريد ترك ما يفوق الأثر الذي تركه كبار الرؤساء الذين ناموا على سرير البيت الأبيض…

    دونالد جمع حوله إيلون ماسك، مارك زوكربيرغ، وجيف بيزوس وغيرهم من كبار الشخصيات التي لها تأثير اقتصادي وسياسي ومالي كبير وتساهم جديا في كتابة مستقبل الإنسانية اقتصاديا وعلميا وعسكريا وتجاريا… وهذا الأمر لم يحصل منذ نهاية القرن التاسع عشر… فهل يريد حقّا دونالد إعادة المجد للماما بعد ان أغرقت العالم ظلما وعدوانا…؟؟ وهل سيكون جادا في تهديده الضرائبي والجمركي لكل الاقتصادات الكبرى في العالم؟ وهل سيحني ظهر أوروبا والصين وغيرهما ويرهقها جميعا بإجراءاته الجمركية المنتظرة؟

    ألا يذكرنا ما يقوم به دونالد المسكين بما أتاه ريغن حين رفع شعار “أمريكا عظيمة مرّة أخرى” خلال سنوات حكمه (1981-1989)؟ فريغن كان يصرّ في سياساته الخارجية على “القوّة” وكان يقول في كثير من المناسبات بأن السلام لا يأتي بغير القوّة فالقوة هي التي تفرض السلام… ريغن ضرب اقتصادات وسياسات خصومه الكبار بالقوّة دون أن يحاربهم بطريقة مباشرة… ونجح في تفتيت كل من أقضّوا مضاجع أحفاد العمّ سام والماما بالقوّة دون أن يوجه رصاصة واحدة إلى موسكو وساكن الكرملين… فقط لعب وتلاعب بعقل غورباتشيف ونجح معه في إنهاء الحرب الباردة وكان سببا غير مباشر في حصول ميخائيل على جائزة نوبل للسلام سنة 1990…

     ففي 12 جوان 1987، تحدى ريغان غورباتشوف حول المضي قدمًا في إصلاحاته التي بدأها وفي إرساء الديمقراطية من خلال هدم جدار برلين، في خطاب ألقاه عند بوابة براندنبورغ بجانب الجدار… قال ريغان: “أيها الأمين العام غورباتشوف، إذا كنت تسعى للسلام، وإذا كنت تسعى إلى تحقيق الرخاء للاتحاد السوفييتي ووسط وجنوب شرق أوروبا، إذا كنت تسعى للتحرر، تعال إلى هذه البوابة، يا سيد غورباتشوف، افتح هذه البوابة… يا سيد غورباتشوف… اهدم هذا الجدار”

     … فهل سيفعل دونالد ما فعله رونالد ويتلاعب بعقول خصومه الاقتصاديين دون أن يرفع في وجوههم السلاح ويعيدهم إلى حجمهم الطبيعي بعقليته “الشعبوية” التي أصبحت مذهبا سياسيا له الكثير من الأتباع بين ساسة العالم؟؟؟ فدونالد تحدث كثيرا خلال حملته الانتخابية على أنه الوحيد ممن سكنوا البيت الأبيض ولم يورّط العمّ سام وحرمه الماما في أية حرب خلال عهدته الأولى… فهل يواصل دونالد سياساته “الشعبوية” ويعيد الماما إلى حكم العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا بعد أن شاركتها الصين اقتسام كعكة العالم اقتصاديا؟… وهل ستؤدي القيود الضريبية والجمركية التي سيفرضها دونالد وفريقه الجديد على الاستيراد، إلى اتخاذ تدابير مضادة، بعضها في مجالات حيوية للتنمية (المواد الخام، والذكاء الاصطناعي، الاتصالات)… وهل ستنجح الإجراءات المضادة من دول القارة العجوز والصين ومن معها من جماعة “البريكس” في إرهاق الماما وحلفائها وشركائها في سياسات دونالد الجديدة…

    دونالد يريد ويصرّ على تعزيز قبضة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي وتكييف المؤسسات والمعايير الدولية لتتناسب مع احتياجاتها حماية لمكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية منذ عام 1945…. دونالد يدرك أن العديد من الدول الكبرى والناشئة تحاول التحرر من هذه الأزمة ولهذا السبب رفع صوته عاليا مخاطبا هؤلاء بقوله “لقد ولى الزمن الذي حاولت فيه دول مجموعة (البريكس) الابتعاد عن الدولار… انتهى الامر… ونحن نطالب هذه الدول بالالتزام بعدم إنشاء عملة جديدة لمجموعة (البريكس)، وعدم دعم أية عملة أخرى لتحل محل الدولار الأمريكي… وإلا فسوف يخضعون للتعريفات الجمركية % 100  ولن يتمكنوا بعد اليوم من الوصول إلى خدماتنا الاقتصادية الرائعة وبيع منتجاتهم”…

    فهل تنجح الماما بقيادة دونالد في ما نجح فيه رونالد… وهل ستفتح الماما “نيرانها” على من تعتبره التهديد الأول في العالم وتقصد بذلك الصين من خلال فرض “الجزية” على أكثر من ثلثي العالم… فالعرب أيضا سيكون مصيرهم قبضة ما سيفرضه دونالد… وسيرهق حفيد العمّ سام ميزانيات دول الخليج ليعيد للماما عصرها الذهبي بأموال نفط وغاز العرب… فالماما أوقعت بين العرب والفرس من أجل مواصلة عرض خدمات حمايتهم من حاكم قمُّ وتهديد طهران… فليسعد ساكن البيت الأبيض بما هو فيه… ألم يقل عن محاولة الاغتيال التي نجا منها في باتلر (بنسلفانيا، جويلية 2024) “لقد أنقذني الله لأعيد لأمريكا عظمتها …”…

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم… الورقة 103

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    قبل الاجابة عن ردود المرحوم عبدالقادر عقير حول مكتوبي، اسمحولي بالعودة الى برنامجي انذاك (اذاعة بالالوان) في اشهر حلقتين بالتحديد من شهر نوفمبر 2001…

    عبد الكريم قطاطة

    لكأنّي كنت اتوقّع احداثا في الطريق اليّ وإلى البرنامج (وقلب المؤمن خبيرو) فسارعت وضمن ركن بدون قفاز والخاص ببعض مواقفي وآرائي حول موضوع ما او شخص ما، بطرح مشكلين رياضيين: اوّلهما امضاء اسكندر السويح عقدا مع الترجي… وثانيهما تعلّق بالرئيس السابق للترجي (سليم شيبوب)… طبعا الطرح كان باسلوب ناقد وبشراسة وطبعا ممزوجا بكثير من التهكم والسخرية… ففي الموضوع الاول الخاص بالقطيعة بين السويح وناديه الام وانتقاله المفاجئ للترجي، ها انا ولاوّل مرّة اكشف لكم خفايا لا يعرفها احد الا انا واسكندر…

    في نفس اليوم الذي امضى فيه اسكندر عقده مع الترجي مساء، رنّ جرس هاتفي بمكتبي على الساعة العاشرة صباحا… رفعت السماعة فاذا بعون الاستقبال يفيدني بانّ اللاعب اسكندر بباب الاذاعة يريد مقابلتي… اذنت له بالدخول… اسكندر لم يكن فقط ذلك اللاعب النجم بل كنا صديقين ايضا… استقبلته بمكتبي وكنت على علم بمشاكله انذاك مع الهيئة المديرة للسي اس اس… فسالته مالجديد؟… قال لي بالحرف الواحد: انت تعرف ثقتي وتقديري واحترامي لك، لذلك جئت استشيرك في وضعيتي التي اصبحت مقلقة جدا في علاقتي بالهيئة المديرة وفي علاقتي بمستقبلي الكروي… وجئت لآخذ رايك ونصيحتك قبل اتخاذ اي قرار…

    قلت له تفضل ما جديدك؟ قال لي اليوم لي موعد باحد نزل الحمامات مع رئيس الهيئة السيد لطفي عبدالناظر لنحسم في وضعيتي بالنادي… انا جيت باش تكون على علم وباش تنصحني اشنوة نعمل… قلت له: يا اسكندر انت ساقيك منجم متاع ذهب… من جهتي وكمحب للنادي ارجو ان لا تغادر نادينا… لكن اذا لم تصلا الى اتفاق يرضي الطرفين، ساقيك هوما راسمالك بامكانك اللعب في ايّ فريق اوروبي… فقط انصحك بعدم الامضاء لفريق الترجي لانك ستخسر كلّ احبائك في صفاقس… ودون تردد اجابني اسكندر: (لن افعلها، يخخي انا مهبول؟)… تمنيت له التوفيق وغادر مكتبي متوجها الى الحمامات… مالذي حدث بعد ذلك؟ عند وصوله الى النزل مكان موعده مع رئيس النادي انتظر ساعة كاملة ولم يات الرئيس… هزّ روحو مباشرة الى سليم شيبوب وقال له هات العقد لامضائه… وامضى مع الترجي!..

    نظريا في دنيا الاحتراف هذا امر معقول جدا، ويصير على اللاعبين… لكن وجعي تمثّل انذاك في لاعب صديق جاء للاستشارة والنصيحة وأَجزمَ انه لن يفعلها وفعلها… اي اشنوة انا؟ لواه جيتني؟ عسكر كردونة؟ كنت اغفر له شخصيا لو كان صادقا في موقفه واخبرني مثلا انه ان لم يصل الى اتفاق مع رئيس ناديه سيجد نفسه مضطرا لامضاء عقد مع الترجي… قد انصحه بالتفكير مليا في الموضوع واكتفي بذلك… لكن ان يحدث ما حدث فذلك يعني يا اسكندر انك كنت مخادعا وكذبت عليّ… وانا لا انسى المخادعين والكذابين… وعندما تناولت موضوع انتقاله الى الترجي في برنامج اذاعة بالالوان، اخذته من زاوية مغايرة لما حدث لاني لا املك تسجيلا للقائي معه كعنصر اشهاد مادي… فقط ذكّرته في تلك الحصة بانّه قد يجد جماهير ترجية تتغنى باسمه ولكن ابدا ان يجد اهازيج من نوع (اوو السويح هاي يبرّك ويطيّح) ..او (خبز ومرقة وموبيلات زرقة)… وعددت له ومضات من زمانه في السي اس اس وفي صفاقس لن يجدها حتما بنفس الطعم ونفس الالوان في باب سويقة…

    في نفس البرنامج اذاعة بالاوان وفي نفس الركن دون قفاز خصصت بعض الدقائق لرئيس الترجي انذاك سليم شيبوب… وكان الطرح مهنيا في منتهى السلامة… ذكرت في طرحي كل المؤاخذات التي يراها البعض حول سلوكات شيبوب في التعاطي مع المشهد الكروي عموما وفي عديد المخالفات التي ارتكبها منذ حلّ برئاسة الترجي… وبعبارة اصدق (عرّيتو) وفي الاخير طلبت منه الآتي: اذا كانت هذه التهم التي وُجهت اليه في محلها، عليه بمغادرة الساحة الرياضية نهائيا والاعتذار عما صدر منه، والله اعلم هل المتضررون يقبلوا اعتذارك او يطالبوا بمحاكمتك… واذا كانت هذه التهم باطلة فعليك ان ترفع قضايا على كل من اتهمك لتنال حقوقك…

    حكى لي بعض معاونيه انّ تسجيل الحصة وصله من اذاعة صفاقس واستمع اليه وكان ردّه وبغضب وهو يتوجه بكلامه اليّ: (صحّة لامّو ولد ….تيلت… ما خلانيش منين نشدّو قانونيا)… من اوصل إليه من اذاعة صفاقس؟ صدقا لم ابحث عن اجابة لانّ ما وقع ومنذ ديسمبر 2001 اكّد لي انّ التسجيل فعلا تحصّل عليه من اذاعة صفاقس… من جانبي احمد الله اني تحدثت في موضوعي السويح وشيبوب قبل ان يتوقف برنامج اذاعة بالالوان والا كانت تقعد غصّة كبيييييييرة في قلبي…

    اذن سلّكتها يا عبدالكريم اعود بكم الان الى ردّ السيّد مدير اذاعة صفاقس على مكتوبي الذي ورد في الورقة الماضية (102)… كنت على الساعة العاشرة صباحا جالسا بمكتبي يوم 24 ديسمبر 2001 واذا بزميلي الحاجب المكلف بمكاتب المدير يدقّ الباب ليسلّمني ظرفا من المدير مغلقا ومتكوبا عليه (سرّي) يااااااه هذا زعمة من البنتاغون؟… فتحت الظرف وكان على فكرة زمنيا بعد عيد ميلاد اذاعة صفاقس الاربعين بأيام وبعد عيد الفطر المبارك بأيام أيضا… زعمة تهنئة Deux en un …تعرفوه المثل العامّي (حلم الكلب في منامو شاف سيدو يطعم فيه .. فاق الكلب من منامو لقى سيدو يضرب فيه)؟…حاشاكم وحاشى الكلاب ايضا…

    هاكم محتوى المكتوب السري البنتاغوني:

    المحتوى: جدول مواظبتكم خلال الاسبوع الموالي لعيد الفطر المبارك 1422 هـ … الملاحظات احيله عليكم قصد تذكيركم انّ الخطة الوظيفية التي تشغلونها هي من الاهمية بمكان وتستدعي حضوركم الفعلي في العمل خلال التوقيت الاداري كحدّ ادنى… (في الورقة المصاحبة جدول مفصل لتاخري في القدوم للاذاعة او لمغادرتي العمل قبل التوقيت الاداري لايام 17 _ 18 _ 19 _ 20 _ 21 _ 22 _ ديسمبر 2001 وجملة التاخير في هذه الايام 254 دقيقة )…اي نعم…

    نتصوركم تتساءلوا زعمة الانقطاعات اللي حصلت وقتها في البث كانت بسبب تاخيري في الوقت؟ للتذكير فقط، عنصران هامان في كل حياتي المهنية: العنصر الاول اني انتميت لسلك مهني منذ كنت في العاصمة لا يخضع للتوقيت الاداري… والعنصر الثاني اني ومنذ تقلّدي مهمة رئيس مصلحة البرمجة اعلمت المدير العام للقنوات الاذاعية وكذلك السيد عبدالقادر عقير رحمه الله اني غير مستعد للالتزام بالتوقيت الاداري… ولكن وسواء كنت بتونس العاصمة او باذاعة صفاقس كنت اقدّم ضعف التوقيت الاداري… وما يعلمه الجميع ايضا اني عملت طيلة مسيرتي الاذاعية وخاصة في الـ5 سنوات الاولى 7 ايام على سبعة و11 شهرا على 12 ولم اتمتّع اطلاقا لا بعطل تعويضية ولا بتعويضات مادية… ثم وهذا ومديري شاهد عليه منذ 1998 تاريخ تقليدي لمنصب رئيس مصلحة البرمجة، كنت فعلا لا احترم التوقيت الاداري لا في الدخول ولا في الخروج لكن كنت اؤدّي يوميا اكثر من 10 ساعات عمل .. ولكن السؤال الاهمّ لماذا صبر عليّ مديري منذ 1998 ولم يوجه لي مثل هذه الرسالة السرية جدا الى ديسمبر 2001 ؟؟…

    حال وصول رسالته السرية استشطت غضبا رغم اني لم اكن يوما سريع الغضب وفتحت باب مكتبي وتعمدت ان اصيح حتى يصله كلامي عن طريق بعض الزملاء الموجودين قرب مكتبي… نعم اردتهم سعاة بريد فوري وكنت اعرف انهم لن ينتظروا اشارة مني ليستعملوا البريد السريع لتمكينه حرفيا مما تفوهت به… نعم وتفوهت وبالصوت العالي بالتهديد والوعيد… ولم يوقفني عن صراخي الا الزميل المرحوم انور عشيش الذي كان باستوديو البث يستعد لبرنامجه المباشر (اسال مجرّب واسال طبيب)… اسرع اليّ بكلّ ودّ ولطف ورجاني ان اعود الى مكتبي ووعدني بانه سيتحدث في الامر مع المدير… وتقديرا واحتراما له لبيت رجاءه وعدت الى مكتبي وبدات في كتابة ردّ على مكتوبه السرّي… بل وبدأ مسلسل يمكن عنونته بـ (قاتلك قاتلك)…

    للتذكير انا اوثّق والله شاهد على اني بعيد كل البعد عن الشماتة او التشهير بل وهذا يشهد عليه ايضا خالقي انا وقبل ممات كل الاطراف التي كان لها ادوار في تلك الفترة… غفرت لهم ودون ايّ استثناء وارجو من الرحمان ايضا ان يغفر لي ان اسات في حق ايّ واحد منهم…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار