كنتُ بصدد مطالعة بعض ما كُتب في وظيفة المصعد الاجتماعي التي تضطلع بها المدرسة في شتّى بلدان العالم والاطلاع على ما قيل في العطب الهيكلي الذي أصاب هذه الآلية الارتقائية خلال العقود الأخيرة، وكيف يمكن إصلاحها من أجل عدم ترك مزيد من الناشئة على قارعة الأميّة (البدائية منها والرقميّة) والعجز على كسب ما به تحقّق سعادتها وحقّها في العيش الكريم… حتى تاه بي التفكير ورُحتُ أعُدّ النماذج المُمكنة للتلاميذ في مدرستنا، فتوصّلتُ – بشيء من المرح الطّارد للتوتّر المُميت- إلى رصد ثلاث مجموعات كبرى :
الفئة الأولى : التلاميذ الذين يمتطون المصعد الآلي وهم العدّاؤون الرّاكضون بسرعة قصوى Les sprinters
هم مجموعة غير وفيرة العدد من التلاميذ المقتدرين القادمين إلى المدرسة برصيد متنوع ومُثمر دراسيا متكوّن من مهارات أساسية في الحساب والقراءة والكتابة وحُمولة تعبيريّة شفوية وكتابية هائلة، وأولياء يُجِلّون الكتاب وعائلات لها شبكة علاقات مُرسملة وقصص نجاح عائلية مؤسِّسة ونماذج مهنية يمكن التماثل معها (حيث يوجد في العائلات الميسورة المختصُّ في الطب النووي وصانع المحتوى والمختصّة في التغذية والتّنحيف وصاحبة الخبرة في التأثير الرقمي… بينما لا يتعرف سليل الأوساط الاجتماعية المتواضعة الا على المُعلّم وخدّام الحزام وعامل الحظائر ومُقدّمة أخبار الثامنة مساءً). ..
هؤلاء تنفتح أمامهم المصاعد تلقائيا بفعل اللاقطات الإلكترونية المجهّزة بها وبإمكانهم الضغط على أيّ زرّ يريدونه ليبلغوا أي طابق يستهويهم حتى وإن كان في أعلى ساطعات السّحاب. مسارهم مُحدّد بدقّة قبل الانطلاق، يعرفون تماما أية الباكالوريات يختارون وأية مواد أو لغات إضافية يدرسون وأية دروس خصوصيّة يرتادون وبأية معدلات ينجحون وأية جامعات يؤمّون… وفق منطق يشبه القدريّة التي تهزأ من الإكراهات والكوابح المختلفة.
الفئة الثانية : التلاميذ الذين يسْلُكون السّلالم Les grimpeurs
هذه المجموعة عددها كبير نسبيا وأهم ما يميّزها أن المدرسة معبر أساسي بالنسبة إليهم ولا بديل لهم عنها بحكم نُدرة إمكانيات عائلاتهم ومحدودية مداخيلها. تزدحم بهم السلالم وتتنوّع سلوكاتهم وأشكال تعاطيهم مع المضامين التي تُعرض عليهم. يكثر هرجهم ومرجهم أيضا لأنهم لم يتعوّدوا على الممرّات الضيقة والقواعد المقيّسة التي تحكم حركاتهم وسكناتهم ويصعب التكيّف السّريع معها، خاصة إذا اقترن ذلك مع هبوب رياح المراهقة والمصادقة… فتكثر زلاّتهم وهفواتهم وتستأسد المدرسة في ممارسة سلطانها حتى يجد العديد منهم نفسه في مسالك موازية يصعب توقّعها، أو في أحسن الحالات، يبتدعون ردود فعل “فنية” يردّون بها على هذا الاستعلاء الذي تمارسه المدرسة ضدّهم من قبيل شعار “ملاّ راحة من الدراسة” وهو وريث شرعي لشعار “إليك يا مدرستي قنبلة ذريّة”…بدلا من “تحيّة زكيّة”.
هذا الحشد من التلاميذ لا تتساوى حظوظه وقدراته على الصّعود والصّمود، فمنهم من تبرُكُ جِماله في الطوابق الأولى ومنهم من يثبت ويستمرّ في مسيرته وصولا إلى بعض الطوابق الأعلى … ولكنّنا نعثر وسط هذه الفئة الثانية على كوْكبة صغيرة من “المقاومين البواسل” المتمتّعين بقدرة فطريّة على تحييد الموانع وعدم التأثّر لا بالبرد ولا بالعطش ولا برداءة الأحوال وقلّة الأموال فيتعبون ويكدّون ويُثابرون ويبلغون نفس المواقع التي أحرزتها عناصر الفئة الأولى المرفوعون إلى أعلى les ascensionnistes وبدون أية منشّطات أو مجلوبات عائلية واجتماعية خاصة.
هذا ويُعتبر تناول هذه الفئة من المتفوّقين بدفع ذاتي محض بالدراسة والتحليل مهمّ جدا لأنه يساعد على فهم ما وراء الدافعية الداخلية القويّة الكفيلة لوحدها بتعويض كل الدافعيات المُساعدة الأخرى، ويساهم في تأكيد الفرضيّة البنّاءة والتي مفادها أن الخلط المتعمّد بين الحتمية والقدريّة لا يخدم استراتيجية الأمل المفتوح على مصراعيه أمام كل القادمين من أوساط غير محمولة على النجاح والتميّز في الذهنية العامة، لأن “الحتميّة” تُعيق التقدم ولكن من الممكن “التعامل معها لتحييدها ودحرها” كما في لغة العسكريين والأمنيين عندما يواجهون فلول الإرهاب، بينما “القدريّة” تُكبّل معتنقها وتجعله يقتنع سريعا بأن “الرضا بالقدر حكمة لا يفهمها الجاهلون”.
الفئة الثالثة : الُمراوحون (وفي العاميّة التونسية هم كذلك مُمَرْوِحون لأنهم يسترخون في وضعيات اللاتعلّم بعد استبطان فشلهم أو مُروّحون أيضا لأنهم سريعا ما يغادرون مقاعد الدراسة)
وتتكوّن من التلاميذ الذين ضاقت بهم السّبل فلم يقدروا لا على امتطاء المصعد الآلي ولا على صعود الدّرج التقليدي، لأسباب مُركّبة فيها المُجتمعي والسياسي والمدرسي الداخلي فظلوا يراوحون مكانهم لا شيء يعجبهم ولا يُعجِبون أحدا، يُقضّون أوقاتهم في التمسك بخيوط أمل رفيعة في الإقلاع يوما ولكن كلما تسارع نسق التعلمات وحمي وطيس المعركة الدراسية تراهم يتناثرون ويتطايرون أفواجا خارج الدواليب الطّاحنة لمدرسة مُنفّرة لا تحتفظ إلا بمن يُذعن لمشيئتها ويتماهى تماما مع قوانينها الرافضة لمن “يُربك السير العادي للدرس ويُشوش على النسق الطبيعي للتعلمات”.
هؤلاء المُراوحون و المُكتفِون بالترويح عن النفس في انتظار قرار الإبعاد غير القابل للطعن، يجدون لأنفسهم كل المبررات التي تجعلهم يحقدون على مجتمع ضالع في تمكينهم من نصف حياة ويكرهون مدرسة لا تسمع صرخات عجزهم ولا تُصغي إلى صدى إخفاقهم ويُعادون نظراء لهم لا ذنب لهم سوى كونهم يبدون متحرّرين من أية وطأة كانت.
يغادرون المدرسة بعشرات الآلاف سنويا (أي بالملايين خلال جيل واحد) ولا يعترض سبيلهم أي إجراء جدّي يحتضنهم ولا أية آلية تأخذ بأياديهم ولا أية ثورة عمياء صمّاء بكماء تلتفت ناحيتهم لتجعل منهم جيشا من الماهرين والبارعين في شتى مناحي الحياة لا جيشا منسيّا من احتياطيّي الجريمة والشتيمة والانخراط السهل في مسالك الجُنوح وتدمير الذات والمجموعة.
نحن إذن أمام مدرسة بثلاثة أنساق سيْر متفاوتة : عدّاؤون متفوّقون، ومتسلّقون متعثرون ومُراوحون متروكون على ذمّة من ينتدب من الشطّار والعيّارين.
المشكل حسب اعتقادي هو في طبيعة المنوال الذي بالإمكان أن تتصوّره مدرستنا لمواجهة هذا المشهد المعتلّ ! ولا أعتقد بالمرة أنه لدينا في الوقت الحاضر تصوّرا لتدعيم الفئة الأولى وإسناد الثانية واحتضان الثالثة لإعادة دمجها في الدورة المدرسية أو تلقّفها بالتكوين والتدريب والتأهيل إن تعذّر ذلك، خاصة بعد اتضاح فشل تجربة النموذجي وارتفاع كُلفة الفصل بين التربية والتكوين المهني والانعكاس المُدمّر للدروس أو المدارس الخصوصية على مستوى عيش العائلات التونسية.