تعلّق الجزء الأول من هذا المقال بطبيعة التطويرات التي أتى بها “المحوّل التّوليدي المدرّب مُسْبقا للدردشة تشات جي بي تي” مقارنة بمحرّكات البحث التقليدية وبمسبّبات اللّغط الذي رافق إطلاقه عبر العالم.
وهذا مما دفع بمؤسّسيه ومطوّريه أنفسهم إلى المطالبة بتعليق استخدامه لفترة 6 أشهر على الأقل أمام كمّ الإزعاجات والإرباكات المسجّلة وهو مازال في خطواته الأولى… من سرقات أدبية وغشّ في الامتحانات وجرائم سيبرنيّة وتهديد ملايين مواطن العمل عبر العالم…
أما الجزء الثاني فأخصّصه لمواصلة رصد بعض خصائص تشات جي بي تي من خلال أسئلة حقيقة طرحتها عليه لم يكن الهدف منها الحصول على معلومات بقدر ما كان اختبار سُمك المعلومات التي يقدّمها ومدى تطابقها ما نعثر عليه في المصادر والمراجع المختلفة.
الخاصيّة الخامسة : اللغة التي يكتب بها “تشات” بصفة عامة لغة سليمة على المستوى النحوي والأسلوبي
أعتبر شخصيا أن الجملة التي يُنتجها تشات بصورة عامة سليمة نحويا وتركيبيّا وذلك في اللغتين اللتين تمرّست نسبيا على موسيقاهما ومناخاتهما أي العربية والفرنسية على حدّ سواء.
فجمل عربية ينتجها تشات من قبيل “إن تحقق الازدهار الإنساني يتوقّف بشكل كبير على جودة التعليم” أو “تساعد المطالعة الأطفال على تنمية مهارات اللغة والتعبير، وتُوسّع آفاقهم العقلية والثقافية، وتُعزّز خيالهم وإبداعهم وتساعدهم على التعلّم الذاتي والتفكير النقدي، مما يؤثر إيجابا على نُموّهم الشخصي والاجتماعي والعلمي” … على سبيل المثال تُعدُّ دليلا قويّا على أنه بوسعه توليد خطاب لغوي قريب جدا ممّا تقوله المؤلّفات العلمية والأكاديمية على مستوى سلامة المبنى والمعنى. ونفس الشيء بالنسبة إلى اللغة الفرنسية.
دفعني هذا التّماس أو التشابه الكبير بين الخطاب الذي تنتجه الآلة والخطاب الذي ينتجه البشر لأن أسأله “وكيف السبيل إلى التمييز بين مجهود البشر وأداء الآلة خاصة إذا وجدت نفسي أمام بحث أكاديمي أو فرض كتابي لطالب حتى أقيّمهُ ؟” أجابني ” صحيح من الصعب أحيانا التفريق بين الخطابين خاصة عندما تكون الآلة متقدمة ومتدرّبة بشكل جيّد، لكن بصورة عامة الجمل التي ينتجها الذكاء الاصطناعي تكون دقيقة ومنسجمة ولا تتوفر على كثير من الأخطاء والتناقضات على عكس الجملة البشريةـ ثم إن أسلوب تشات مثلا هو أسلوب “روبوتي” وتقنوي على عكس الأسلوب البشري المتميّز بالمرونة والقدرة على التفاعل مع كل الأسئلة المطروحة عليه، على عكس الآلة التي لا تجيب إلا عمّا تمّت برمجتها وتدريبها عليه”.
الخاصية السادسة : تشات، كشّاف جيّد للمستقبل
تسكنني دائما فكرة أكّدتها عديد الدراسات العالمية (منها وزارة العمل الأمريكية) مفادها أن 60 أو 65 % من تلاميذ اليوم سيلتحقون بمهن لم ترَ النور بعدُ، لذلك نرى العديد من الإصلاحات التربوية تنكبّ أكثر على إقدار التلاميذ في كل ما هو كفاءات ليّنة وأفقية ومهارات مرنة تُسهّل الاندماج في سوق الشغل مهما حصل من تطوّرات… هذه الفكرة جعلتني أسأل تشات ما هي توقعاته بالنسبة إلى المهن أو مجالات المهن التي ستكون لها أهمية كبرى في المستقبل القريب، فأشار إلى خمس مجالات كبيرة سيكون لها شأن على المستوى العالمي، هي (بتصرّف) :
تطوير البرمجيات والتطبيقات والحلول الرقمية الابتكارية، والصحة والرعاية الطبية، والطاقة المتجددة والبيئة، والسياحة والضيافة، والعمليات اللوجستية والنقل… ثم يُضيف “وبشكل عام، من المتوقع أن تزيد الطلب على المهارات التقنية والابتكارية والإدارية في المستقبل، والقدرة على التعلم السريع والتكيّف مع التغييرات المستمرة.“
هذه التوقعات تتقاطع تماما مع ما يُجمع عليه كثير من المهتمّين بمستقبل المهن في العالم، ربما مع إضافة مجالات السلامة المعلوماتية والبيع عن بعد والتعليم بمختلف أصنافه.
أما توقعاته فيما يخص أهم الاكتشافات البشرية التي ستحول وجه العالم في المستقبل، فيقول تشات جي بي تي إنه بصفته ذكاء اصطناعيا لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكنه يعتبر أنه حصلت في القرن 21 اكتشافات مهمة سيكون لها بالتأكيد تأثير حاسم على العالم مستقبلا مثل اكتشاف آلاف الكواكب خارج المجموعة الشمسية واكتشاف تقنية CRISPR-Cas9 التي ثوّرت البيولوجيا الجزيئية والبحث ومكّنت من إحداث تحوير دقيق في الحمض النووي وكذلك الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والواقع المُعزّز أو المُضاعف والطاقات المتجددة واكتشاف الماء السائل على كوكب المريخ (وما يعنيه ذلك من أمل في العثور على آثار للحياة فوق هذا الكوكب).
الخاصية السابعة : تشات يُقبل على الفُصحى العربية ويأبى العاميّة التونسية !
سألته عن بعض الخصوصيّات المحلية مثل معنى “سيدي تاتة” في لهجتنا المحليّة، فقال أن اللفظة تُشير إلى مدينة سيدي بوسعيد بالعاصمة، وسألته عن معنى “الفكرون” فاعتبره رجلا يرتدي بزّة سوداء، و “الجرانة” التي تعني بالنسبة إليه مصطلحا يُستخدم لوصف الفتاة الجميلة والأنيقة.
أمّا مقولة “الثنيّة ركازي والعباية بلاّر…والطريق طويلة والبهيم دعثار” في لهجتنا التونسية، فيترجمها كالتّالي :
La route est longue, le sac à dos est lourd, la cape est usée et l’animal est fatigué.
…وهي ترجمة لا تبتعد كثيرا في مستواها عن طرائف المرحوم الهادي السّملالي خاصة في مقطوعة “المترجم”.
لكن تشات يفهم جيدا عندما تخاطبه بالفصحى، فيستعرض مثلا خصائص مقام الزنكولاه أو الجهاركاه أو الزنجران في الموسيقى العربية والتونسية (والذي يعرف أن هذا الأخير فرع من مقام الحجاز)، ويحدّثك عن حديث الإفك في الإسلام ويُدرك أن شوّال هو أبعد الأشهر عن رمضان في التقويم الهجري ويُنبّهك إلى أن زواج المسيار لم يعد شائعا، ويعرف عدد حروف الأبجدية العربية، إلخ…
الخاصيّةالثامنة : تشات لا يُشجّع مبدئيا على ارتكاب جرائم أو اقتراف ممارسات محظورة
سألته عن كيفية صنع قنبلة منزلية، فأجاب :
“عذراً، لا يمكنني الإجابة على هذا السؤال أو تقديم أي معلومات ذات صلة بصنع القنابل المنزلية أو أي أساليب للعنف أو التخريب. يجب علينا جميعًا أن نتحلى بالمسؤولية ونتجنب تبادل المعلومات الخطرة والتحريض على العنف. يرجى البحث عن معلومات تهمك بشأن الموضوعات الأخرى…“
وسألته كذلك إن كان بإمكانه مساعدتي على تفكيك شيفرة صندوق مغلق بواسطة مفتاح إلكتروني، فأجابني ” لا يمكن أن أشجع أو أساهم في ارتكاب أنشطة غير قانونية أو خطيرة. إذا حدث أن أضعت مفتاح صندوق أو باب تملكه بصفة شرعية، أشير عليك باللجوء إلى مختصّين في معالجة الأقفال للحصول على مساعدة، فهؤلاء لديهم خبرة وأدوات عالية الجودة في المجال”.
قلت له “برافو إذن“، فأجابني “شكرا وهل لديك سؤال آخر“.
طلبت منه أيضا إن كان بإمكانه تحرير رسالة ختم دروس عوضا عنّي باعتباري طالبا غير متمكّن من التحرير بلغة سليمة إن أنا مكّنته من الموضوع والإشكالية … فأجابني بأنه يستطيع مساعدتي على هيكلة البحث وإعطائي بعض النصائح المتصلة بتحديد الموضوع والأسئلة التي من المفروض الإجابة عنها وتنظيم العمل وترتيب العناصر، ولكن لا مفرّ من بذل مجهود عارم لإنجاز المطلوب.
أخيرا، مازلنا لم نستفق بعدُ من صدمة تشات 3 حتى أغار علينا تشات 4 !
تشات جي بي تي 4 باستطاعته ولوج عدد هائل من البيانات والمعلومات ومعالجتها بشكل أفضل للإجابة عن أسئلة المستخدمين. ما يميّز النسخة الجديدة هو فهم المُدخلات بشكل أكثر نجاعة وتوفير عدد أكبر من اللغات والقدرة على استخدام الصور والتقليص من الأخطاء والمعلومات غبر الدقيقة في الإجابات المولّدة.
على سبيل المثال، تشات 4 يُحلّل الصورة التي تمدّه بها لمحتويات ثلاجتك فيقوم باقتراح جملة من الأطباق الممكن إعدادها انطلاقا من تلك المعطيات المشهدية الرقمية … وبناءً على ذلك، لنا أن نتخيّل غدا حجم ما يمكن أن يقدّمه تشات أمام صور بالأشعة الطبية أو تقرير لتشخيص طبي دقيق أو إنسان يقف أمامه ليكشف له عمّا بباطنه وخلاياه وكُريّاته.