جرّبتُ لكم هذا الغول التكنولوجي الزّاحف … “تشات جي بي تي” (2/1)
نشرت
قبل سنتين
في
يجدر التنبيه في مستهلّ هذه الورقة إلى أن المستجدّ الأكبر في “عاصفة التشات جي بي تي” Chat GPTهو الرسالة التي تمّ نشرها مؤخرا والتي أمضاها حوالي 1000 خبير متخصص في مجال الذكاء الاصطناعي (ومنهم إيلون موسك صاحب شركات سبايس إكس وأوبن آي وسيارات تيسلا…) تُطالب بإقرار استراحة بستّة أشهر في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدّمة، وذلك على خلفيّة المخاطر المحتملة التي قد تلحق المجتمع والانسانية… في انتظار وضع بروتوكولات مشتركة للسلامة يقع إنفاذها ومراقبتها من قِبل خبراء مستقلّين.
تقول الرسالة “لا يجب تطوير أنظمة قوية جدا للذكاء الاصطناعي إلا متى تأكّدنا أن تأثيراتها إيجابية وأن مخاطرها يمكن التصرّف فيها”. وتأتي هذه الهواجس في وقت نشرت فيه الوكالة الأوروبية للشرطة (أوروبول) تقريرا تحذّر فيه من الاستعمال المفرط لأنظمة شبيهة بـ“تشات جي بي تي” في عمليات القرصنة ونشر الأخبار الزائفة والإجرام السيبرني وسائرعمليات الاختراق التي تستهدف الأفراد والمؤسسات. هذا بالإضافة إلى بعض المختصين الذين يتوقّعون فقدان حوالي 300 مليون مركز عمل في العالم لو بلغت هذه التطبيقة أوج عطائها.
حاولتُ شخصيا محاولة فهم أسرار هذه الزّوبعة الكونية غير المسبوقة التي أثارها إطلاق آخر مُنتجات الذكاء الاصطناعي و السعي إلى رصد أهم خصائصه انطلاقا من عدد كبير من الأسئلة العملية طرحتها عليه وتلقّيت حولها إجابات محدّدة.
الخاصيّة الأولى : تشات جي بي تي (المحوّل التّوليدي المدرّب مسبقا للدردشة) يسعى إلى محاكاة البشر بكفاءة عالية
يُعرّف تشات جي بي تي نفسه بكونه نوع من الذكاء الاصطناعي المعروف باسم النماذج اللغوية العميقة (Deep Language Models) التي تمّ تدريبها على مليارات النصوص والبيانات اللغوية، وتستخدم هذه النماذج اللغوية تقنيات مثل تحليل اللغة الطبيعية وتعلم الآلة والتعلم العميق والشبكات العصبية للتعلم والتفاعل مع المستخدمين بشكل ذكي وفعّال.
يشترك شات جي بي تي مع محرّك غوغل على سبيل المثال في إتاحة البحث عن معلومات أو مراجع أو أرقام والحصول عليها. لكن تشات يتميز بثلاث خصائص أساسية :
معالجة الخطاب الطبيعي (أي الخطاب البشري، لذلك هو قادر على إنتاج نصوص قريبة جدا من اللغة التي يستخدمها البشر في حياتهم اليومية) بحيث يكون تشات قادرا على فهم الأسئلة أو الشتائم أو المجاملات التي توجّه إليه والتفاعل معها حينيّا على عكس البرمجيات التقليدية التي لها فهم محدود لما يقوله المستخدمون.
يتميّز تشات بالتنوّع والشمولية لكونه أداة قادرة على فعل أكثر من البحث عن المعلومات، فهو قادر على إجراء محادثات والإجابة عن أسئلة دقيقة أو حتى إطلاق بعض المزاح أحيانا بما يجعل منه أداة متنوعة الاستخدام.
تشات سهل الاستخدام إذ يكفي أن تطرح سؤالك (كما هو مطروح في ذهنك) ليبدأ البرنامج في التفاعل، على عكس محركات البحث التقليدية التي تستدعي دقة في وضع الكلمات المفاتيح المناسبة للحصول على صفحات الويب المتضمّنة لتلك الكلمات.
الخاصيةّ الثانية : تشات يقترف أخطاء بدائية
لم يمضِ على إطلاق تشات أكثر من خمسة أشهر بما يؤكد أن هذا “العون التحادثي” مازال في خطواته الأولى والمشرفون على تطويره يعترفون أن أداءه مازال متعثّرا في الكثير من المسائل، لذا هو يتطوّر كل يوم بحكم الردود والتفاعلات التي تعود إليه من ملايين المستعملين عبر العالم وعبر كل اللغات.
في سياق الحديث عن اللغات، حصلت لي طرفة مع هذا المولود والمولّد، سألته “هل تستطيع التخاطب مع الناس في كل اللغات ؟“، فأجابني “نعم في العديد من اللغات : الانكليزية والفرنسية والاسبانية والألمانية والايطالية والبرتغالية واليابانية والصينية والكورية وعديد اللغات الأخرى…”
فسألته : ولماذا تناسَيْتَ اللغة العربية والحال أنني سألتك سابقا بالعربية وأجبتني ؟
قال : “أعتذر عن هذا السّهو في ذكر اللغة العربية في إجابتي السابقة وأؤكد أن شات قادر على فهم وتوليد نصوص باللغة العربية…”، فكدتُ أقول له “ميسالش يا راجل لا حرج عليك” !
قلتُ إذن أن تشات مازال يقترف العديد من الأخطاء وحتى البدائية منها لأنه لم يسبق أن تمّ تدريبه عليها كفاية بما يفرض ضرورة التحرّي والحذر فيما يقدمه من معلومات ومقترحات ونصوص.
سألته مرّتين “ماذا تعرف عن منصف الخميري ؟” أجابني في المرة الأولى على أنه رجل دين وفقيه تونسي وعمل كإمام وخطيب وأستاذ للفقه والأصول في عدة جامعات ومؤسسات دينية” وفي الثانية بــ “أنه رجل سياسة تونسي ترأس البرلمان من 1999 إلى 2001 ” … والحال أنني لا أعرف مطلقا أحدا من “الخمايرية” بهذه المواصفات ǃ
المثال الثاني : سألته عن القواعد اللغوية التي تحكم رسم “العدد” في اللغة الفرنسية فكانت إجابته جديرة بأن يُسند لها صفرٌ لو أتاها تلميذ في فرض كتابي.
الخاصيّة الثالثة : تشات يحاول أن يكون محايدا وغير مصطفّ سياسيا
سألتُه “هل كان من حق الأمريكيين تدمير العراق بدعوى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل” ؟
أجابني : “لا، لم يكن للأمريكيين الحق في تدمير العراق بدعوى امتلاك أسلحة دمار شامل. فقد تم إدانة العراق دوليًا في الماضي بسبب برامجه النووية والكيميائية والبيولوجية، وتم فرض عقوبات عليه بسبب ذلك. ولكن، فرض العقوبات لا يعني أن الأمريكيين كان لديهم الحق في الدخول إلى العراق وتدميرها. بالإضافة إلى ذلك، تبيّن فيما بعد أنه لم يكن هناك أسلحة دمار شامل في العراق، وأن الدعوى التي استندت إليها الحرب كانت خاطئة”.
المثال الثاني :
سألته عن ” مدى رمزية احتفال الفلسطينيين بيوم الأرض يوم 30 مار س من كل سنة“، فكانت إجابته كالتالي :
“يعتبر يوم الأرض في الذاكرة الفلسطينية يوما مشحونا بالدم والمعاناة والصمود. حيث يعود تاريخ الاحتفال بهذا اليوم الى عام 1976 عندما نظمت السلطات الاسرائيلية مخططا للمصادرة القسرية للأراضي الزراعية في منطقة الجليل الأسفل والنقب الشمالي والجنوبي مما أدى الى اضراب عام واسع النطاق واحتجاجات ومظاهرات في جميع انحاء الاراضي الفلسطينية المحتلة في ذلك الوقت، وأسفرت هذه الاحداث عن مقتل وجرح العديد من الفلسطينيين … حيث يستذكر الفلسطينيون معاناتهم ومحنتهم ويؤكدون على حقهم في الحياة الكريمة والعيش بحرية وسلام في أرضهم المحتلة”
وهكذا يتضح أن تشات لا ينهل فقط من النصوص المعادية للعراق وللقضية الفلسطينية على سبيل المثال، بل يتدرّب عليها وعلى نقيضها ويُفرز نصوصا تتوافق مع التوجهات الدولية العامة التي تحاول التزام الموضوعية والحياد.
الخاصيّة الرابعة : مازال تشات لا يُجيد كتابة الشعر … بل لا يفرّق أصلا بين الشّعر والشّعور
سألت تشات إن كان بإمكانه ترجمة هذا البيت الشعري لألفريد دو فينيي من قصيدة موت الذئب
A voir ce que l’on fut sur terre et ce qu’on laisse Seul le silence est grand ; tout le reste est faiblesse.
فكانت إجابته :
عندما ننظر الى ما كنا عليه على الارض وما نتركه خلفنا
انما الصمت هو العظمة فكل شيء آخر ضعف (لاحظوا ركاكة الأسلوب)
ثم أضاف “وهذا البيت الشعري من قصيدة “المؤقت” للشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين… (ليته لم يُضف شيئا لم يُطالبه أحد به !)
الاختبار الثاني كان على النحو التالي :
سألته : “هل باستطاعتك كتابة قصيدة شعرية عن تونس في أربعة أبيات ؟”
أجاب :
“نعم بالطبع :
تونس الحميمة الجميلة
أرض أهل كرام يحملون الود والعرف
تاريخ مجيد وتراث مشرق
تستحق الفخر والإشادة في الشعر“
تعليقي : هذا شعر ضعيف بالتأكيد، لكن عديد أدعياء الشعر والأدب في بلادي يكتبون بهذا الأسلوب أو أدنى ǃ