غريب أمر أغلب ساستنا اليوم… يأتون إليك مبشّرين…رافعين راية الدين و الإصلاح … يتوهمون أنهم فعلوا شيئا عظيما من أجل هذا الشعب، و أنهم في حالة تعب لا يمكن وصفها من أجل إسعاده…فهم يفاخرون بأنهم أخرجوا هذا الشعب من الظلمات إلى النور…و كأني بهم يريدون و يصرون على ايهامنا بأنهم فتحوا البلاد من جديد… و كأن عقبة بن نافع عاد من جديد ليقيم بيننا و يأخذ نصيبه من “مقروض” القيروان أليس هو من بناها و ترك أثرا لا يزال يرتفع من مآذنها…أو كأني بموسى بن نصير جاءنا زائرا في طريقه إلى المغرب…
هل يعرف هؤلاء أن أشد عقاب يعانيه المواطن هو وقوفه أمام مسؤول لا يعطي أهمية لمأساته الحياتية…و يعامله بلامبالاة واحتقار… هؤلاء ساسة الضمير الميت أو المستتر أو المُغمى عليه إلى حين…يعيشون واقعا آخر… لا يرون أبعد من حدود أطراف أصابع أرجلهم، من فرط خوفهم من المؤامرة تآمروا على أنفسهم … هؤلاء هم أساس الفشل … فكيف لأناس عاشوا البذخ في عواصم نور و ضباب أن ينزعوا عن الشعب المعاناة و العذاب… هؤلاء لم يخرجوا من رحم المعاناة … و لم يذوقوا الفقر والجوع …والخوف…. هل يعلم هؤلاء أن في كل بيت تونسي يعيش أحد ضحايا فشل حكومات فتحهم المبين ؟؟ منهم من ابتلعه المتوسط قربانا لحوت سيأكله الأغنياء…و منهم من يموت بالتقسيط المريح…و منهم من فقد عقله…فهلاّ صمت هؤلاء قليلا…فقد شبع المواطن من صفعات فشلهم…هل نسي كل هؤلاء وعودهم خلال حملاتهم الانتخابية؟؟ هل أنستهم كراسيهم معاناة العاطل عن العمل… و معاناة ساكني الأحياء القصديرية ؟؟…أين إسلامهم الذي كثيرا ما تغنوا به و هم يلتقون بأتباعهم في مطار تونس قرطاج؟؟
ذكرني ما يفعلونه و ما يأتونه بقصة إمام مسجد انتقل منذ سنوات إلى مدينة لندن، و كان يمتطي نفس الحافلة دائماً من منزله إلى المدينة و يلتقي نفس السائق في أغلب السفرات، و ذات مرة دفع ثمن تذكرته و جلس مكانه، فاكتشف أن السائق أعاد له نصف جنيه استرليني زيادة عما يجب إعادته، قال لنفسه أن عليه إرجاع المبلغ الزائد فهو ليس من حقه، ثم فكر مرة أخرى و قال في نفسه: “إنسَ الأمر، فالمبلغ زهيد و ضئيل، و لا أحد سيهتم للأمر …كما أن شركة النقل تكسب الكثير من المال من أجرة الحافلات و لن يضيرهم ذلك في شيء، إذن سأحتفظ بالمال و أعتبره هدية من الله و أسكت… توقفت الحافلة أمام المحطة التي تعود الإمام النزول فيها، قبل أن يصل باب الحافلة تردّد قليلا ثم مد يده و أعطى السائق نصف الجنيه الاسترليني قائلا: تفضل، أعطيتني أكثر مما يجب من المال… فأخذها السائق و ابتسم و سأله: “ألست الإمام الجديد في هذه المنطقة؟ إني أفكر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام، و لقد أعطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف سيكون تصرفك”… و عندما نزل الإمام من الحافلة، شعر برعشة في ساقيه و إغماءة كاد يقع بعدها أرضاً من رهبة الموقف… فاتكأ على أقرب عمود وجده في طريقه، و نظر إلى السماء باكيا: يا رب، كنت سأبيع الإسلام بنصف جنيه…و أنتم هل ستبيعون ابتسامة عاطل و فرحة فقير بكرسي قد يهتز ويزول؟ …
هل نسيتم وعودكم…وتفاخركم ببدائلكم …أم أنساكم الكرسي وجع هذا الشعب… فكروا… و أعيدوا فقط نصف وعودكم لهذا الشعب كما أعاد الإمام نصف الجنيه إلى السائق… و لا تتمسكوا كثيرا بكراسيكم فإطالة الجلوس عليها يشل العقول…و يقتل الضمائر…أما آن أن تستفيقوا من غيبوبة الكراسي ؟؟