جور نار
حكايات صالحة للقِسم … وخارجه (1)
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriالحَكْي بصورة عامة ممتع والاستماع إلى الحكايات مُبهج ولكن بشرط أن يكون الرّاوي خفيف الروح ويتملّك القدرة على شدّ انتباه سامعيه، وأن تكون الحكاية حاملة لمعنى ومُروّجة لقيمة ويمكن أن تُشكّل منطلقا لتعميق الخوض في قضايا انسانية كبرى مثل الحرية والحب والعمل والتفاؤل والأمل والتعايش …
القصص والحكايات تُضفي معنى وتُنتج مشاعر وأحاسيس وانفعالات وتُمتع السامع ويسهُل تقاسمها وتضع الأطفال (خاصة) في مواجهة جيدة مع أفكار جميلة وأشياء طريفة يكتشفونها لأول مرة وتفتح طريقا رحبا أمام التفكير “الفلسفي” حول قيم إنسانية إيجابية يجب غرسها في تربتنا …
أعتقد شخصيا أن أسلوب الحكي كمهارة بيداغوجية يكتسب في سياق التعليم والتعلّم قدرا كبيرا من الفاعلية والنجاعة التبليغيّة خاصة عندما يكون هادفا ومحبوكا ويختار له مؤدّيه نبرة مؤثّرة (بتلقائية صادقة وفي غير تلاعب بعواطف الناس كما يفعل دعاة الفتنة الدينية والتنمية البشرية) وأسلوب سرديّ مُحفّز يتوفر على قيمة تربوية أو فلسفية أو بيداغوجية مُضافة.
هذه بعض الحكايات التي جرّبتها شخصيا مع أطفال وكهول في سياقات تعليمية وتربوية مختلفة وكان لها في كل مرة تأثير إيجابي ومنافع تفوق بكثير حصص القصف النظري المملّ والاجترار الركيك لمضامين أوراق بيداغوجية اصفرّت وشاخت ولم يعد لها طعم ولا فائدة.
حكاية كسّار الحجارة : في قيمة التّنسيب وأهمية بذل الجهد وفق أهداف ومرامي
كان الكاتب والشاعر الفرنسي شارل بيغوي (توفي سنة 1914) في طريقه إلى مدينة شارتر، ومرّ برجل على حافّة الطريق بصدد تكسير الحجارة والعرق يتصبّب من كل جسده وكانت تبدو عليه ملامح التعب والنقمة والضّجر، وجهه شاحب وملامحه داكنة. توقّف شارل بيغوي وسأله بعد التحية : ماذا أنت فاعل يا رجل ؟
أجابه كسّار الحجارة : “كما ترى، أنا بصدد تفتيت الحجارة لا أكثر”، مضيفا في مرارة بارزة : “ظهري يؤلمني، أحسّ بعطش شديد، آخر وجبة أكْل تناولتُها مرّ عليها أكثر من ستّ ساعات، ولكنّني للأسف لم أستطع الحصول على ما هو أفضل من هذا العمل المّضني والأحمق”.
واصل المسافر سيره نحو وِجهته فمرّ برجل ثان يُكسّر الحجارة هو الآخر لكن حالته تبدو أفضل بقليل من الرجل الأول وثمة شيء من الهدوء والانسجام في حركاته. بادره بيغوي بالتحية والسؤال “ما هذا العمل الذي تقوم به سيدي ؟”
“أنا كسّار حجارة، هو عمل شاق كما تلاحظ لكنه يسمح لي يإعالة زوجتي وأولادي”…قبل أن يستردّ أنفاسه ويضيف في ابتسامة خفيفة “وعلى أية حال، أنا أعمل في الهواء الطلق وصحتي جيدة ومن المؤكد أن هنالك وضعيات مهنية أكثر ضراوة من هذه”.
تمنّى له شارل بيغوي حظا موفورا وواصل طريقه باتجاه شارتر فعثر على كسّار ثالث بملامح مختلفة تماما عن الأول والثاني. كان مبتسما ناشطا تحدوه حماسة وإقبال على مهمة تكسير الحجارة وتهذيب نتوءاتها وصقلها قبل ترصيفها. سأله الشاعر المسافر “ما هذا العمل يا سيدي؟” أجابه الحجّار الثالث : “ألا ترى، أنا بصدد تشييد كاتدرائية !”.
(تذوّق بهجة التفكير في تحقيق الحلم قبل تحقّقه إذ تُذيب آثار الأتعاب وتُزيل آلام المُكابدة).
وفي سياقنا التونسي، كنت أطلب من المستمعين أن يضعوا بدل الكاتدرائية بما شاءوا : مسجدا غرناطيا أو قصرا قرطاجيا أو مدرسة بمواصفات عالمية لأطفال مينة الطويرف.
أسطورة الكوليبري (أو الطائر الطنّان كما يسمّيه العرب) : ليس لأننا لا نستطيع أن نفعل كل شيء حتى لا نفعل أي شيء
الكوليبري عصفور غريب لأن الدّارسين يؤكدون أنه يتمتع بخاصيات نادرة جدا، فهو أصغر طائر في الكون ويستحوذ على كل الأرقام القياسية حيث يقدر على الطيران إلى الخلف عكس الطيور الأخرى ويستطيع جعل جناحيه يخفقان إلى حدود 200 مرة في الثانية، له إمكانيات ذهنية هائلة، يأكل 3 مرات قدر وزنه من رحيق الزهور.
ذات يوم (جرّبوا التوقّف أثناء الدرس وقولوا لتلامذتكم أو طلبتكم، أصمتوا قليلا، ثم قولوا لهم ما رأيكم لو أروي لكم قصة…؟ ولاحظوا جميع الأعين التي تتجه نحوكم ويصمت الجميع وتشرئب الأعناق ويشرعون في الاصغاء إليكم من الأعماق)… إذن ذات يوم تقول الأسطورة، يحكى أن حريقا ضخما شبّ في الغاب وكانت جموع الحيوانات هناك بصدد مشاهده النيران تلتهم أشجارها وأوكارها وجحورها ولكنها كانت في حالة وُجوم لا تُبادر بفعل أي شيء. في تلك الأثناء كان الكوليبري – أصغر طائر فوق الأرض- الحيوان الوحيد الذي ينتفض متنقّلا في حركة ذهاب وإياب لا تنتهي إلى غدير قريب من موقع الحريق ليعود في كل مرة ببعض القطرات من الماء ويسكبها على النيران علّها تنطفئ. تضايقت بقية الحيوانات وانزعجت، فقال له أحدهم…
جرّبوا عند هذا الحدّ فتح قوس لتُسرّبوا المعلومة التالية (قد يكون حيوان الكوالا الذي يرقد 22 ساعة في اليوم)… الضحكة المرحة مؤكّدة.
إذن قال له الكوالا مثلا، والسخرية تعلو محيّاه “ألا يكفيك هذا السّخف والجنون، أتعتقد حقا أنك تستطيع بواسطة هذه القُطيرات إطفاء حريق بهذا الحجم ؟”
أجابهم الكوليبري “بالتأكيد لا، ولكنني أقوم بنصيبي من الواجب“… وطار نحو البحيرة مرة أخرى.
حكاية كارل والندا. لا تفكّر بإمكانية الفشل وأنت تباشر مهمّة ما
كارل والندا هو رياضي بهلواني ألماني-أمريكي اشتهر بالمشي على الحبال المشدودة بين ناطحات السحاب وفوق شلالات نياغارا، وغالبا ما يكون ذلك من دون شباك للنجدة. توفي في سان خوان ببورتو ريكو في سن الــ 73 سنة أمام الملأ من علوّ شاهق يقدر بـ 37 مترا .
هذا البهلواني وهب اسمه لأثر متداول في علم النفس الاجتماعي وهو “أثر أو عقلية والندا”.
بعد وفاته، سألوا زوجته هيلين عما حدث مع زوجها وهو الذي تعوّد على قهر الأعالي والمحافظة على توازنه مهما اشتدت قوة الرياح العاتية.
أجابت هيلين بأن كارل كان طوال حياته وقبل تنفيذ مشيته الهوائية يُركز كل طاقته على استكمال مساره بنجاح وكان يردّد دائما أن مؤهلاته ورصيد تدريباته تسمح له بذلك. ولكنه في الآونة الأخيرة لاحظت تغيّرا كبيرا في سلوكه حيث أصبح متهيّبا في كل مرة، وأضحى تدريجيّا يعتبر أن السقوط وارد على كل حال وبالتالي عليه أن يركز كل جهوده وطاقته الذهنية لكي لا يسقط وليس لكي يمشي على الحبل…حتى سقط ومات.
ويُستعمل اليوم “أثر والندا” خاصة في التعبير عن قدرة الاستمرار في متابعة غايات إيجابية بتوظيف كامل الطاقة في تنفيذ المهمة المسطّرة دون الالتفات إلى الوراء أو التندّم على أحداث من الماضي. تماما كما كان كارل والندا في بداياته، كل طاقته وكل انتباهه متجهان نحو الهدف، نحو التقدم ولم يفكر قطّ في احتمال الفشل والسقوط. فالنجاح ينبع من إيمان أزلي هو : القلب المقدام لا يعرف المستحيل.
A cœur vaillant, rien d’impossible
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
الميدان التليفزيوني عشت فيه تجارب اخرى احداها مع الزميلة جميلة بالي كمخرج لبرنامجها البيت السعيد …والسيدة جميلة بالي هي بالنسبة لي من افضل من قدم هذه النوعية من البرامج والتي تهتم بالاسرة وبالبيت …
حضورها تلفزيا كان دافئا وثقافتها بكل ما يهم الاسرة والبيت شاسعة… لذلك حرصت كمخرج ان اوظّف الديكور والاضواء وزوايا التصوير لابرازها بمواصفاتها… تجربة اخرى اعتز بها بل واعتبرها من افضل تجاربي كمخرج تلفزي… انها منوعة قناديل … هي منوعة ثقافية بالاساس اجتمعت فيها عناصر عديدة لتؤسس لنجاحها لدى المشاهدين… تلك العناصر تمثلت اوّلا في حذق منشطتها الزميلة ابتسام المكوّر وجديتها وعمق خزانها الثقافي… ابتسام بالنسبة لي وفي ذلك الزمن كانت تمثل واحدة من افضل المنشطات اذاعيا وتلفزيا، هي وهالة الركبي… حضور متميز… ثقافة واسعة… وقدرة فائقة على التحاور…
العنصر الثاني تمثّل في مشاركة الاستاذ رضا بسباس في الانتاج اوّلا وفي تناول الموضوع المقترح لكلّ حلقة… وما ميّز الزميل رضا بسباس البحث في جوانب طريفة عبر العديد مما كُتب في الموضوع وعبر الامثال الشعبية لنفس الغرض… العنصر الثالث وهو من العناصر التي اعطت رونقا خاصا لبرنامج قناديل والمتمثل في تكفّل الزميل والصديق محمد العود رحمه الله بالجانب الموسيقي للبرنامج… محمد رحمه الله كان شديد الحرص على الانتقاء الجيد لنوعية الاغاني الخالدة واعادة توزيعها، و على اختيار الاصوات المؤدية لتلك الاغاني… محمد رحمه الله كان من الفنانين القلائل الذين لا عاطفة لهم في اختياراته وهو كسمّيع جيّد للعزف والتنفيذ صعب المراس… لذلك جاءت نتيجة تفانيه في عمله موسيقيا جيّدة للغاية…
وحرصت من جانبي على ان اتماهى مع هذه المجموعة لاخرج برنامج قناديل في حلّة جميلة… وهنا لابدّ من تحية الفنان الاستاد لمجد جبير الذي تكفل بصنع الديكور كاوّل تجربه له في الميدان التلفزي… والزميل نورالدين بوصباح كمدير للاضاءة وكافة الفريق التقني الذي عمل معي بكل حبّ وجهد … البرنامج لقي صدى ممتازا لدى السادة المشاهدين مما جعل بعض التلفزات العربية (كالـ”ام بي سي”) تفكّر في شرائه… هكذا قيل لنا والله اعلم….
نهاية برنامج قناديل لم تكن سارّة بالمرّة … نعم … وهاكم الاسباب… انا وابتسام كنا ومازلنا صديقين علاوة على الزمالة …ربما لاننا نشترك في خاصيات عديدة في شخصيتينا ..ومن ضمنها النرجسية …اي نعم .. اليس كذلك يا ابتسام ؟؟… من هذه الزاوية ابتسام كانت حريصة جدا على انتاج حلقات قناديل في موعدها وهي مُحقّة في ذلك …لكن وبقدر حرصي كذلك وعلى امتداد حلقات عديدة كي انجز تلك الحلقات اخراجا ومونتاجا وميكساجا، بقدر ايماني بانّ عملي يدخل في خانة الفنّ وليس في خانة الوظيفة .. والفنان بالنسبة لي قد تعتريه اوقات يجد فيها نفسه غير مؤهل للعمل …فيؤجل القيام بعمله لايام افضل …حدث هذا الامر مرة واحدة لم استطع فيها القيام بواجبي لاحضار الحلقة في موعدها ..هنا ثارت ثائرة ابتسام ولم تقبل بالامر …وكعادتها عندما تكون غاضبة زمجرت في وجهي وبكلّ حدّة …
ولانّ نرجسيتي لا تقلّ عن نرجسيتها ..رفضت زمجرتها وبكلّ حدّة ايضا وقلت لها (مانيش صوينع نخدم عندك) وانسحبت من اخراج البرنامج …وطبعا كان موقفها (محسوب كان انسحبت توة نعيّط لسي بوبكر) وهي تعني الزميل بوبكر العش رحمه الله… و(طززز فيك) .. هي لم تقلها للامانة طززز فيك ولكن ذاك كان موقفها ضمنيا …وفعلا اخذ زميلي العش على عاتقه مهمة اخراج قناديل بتصور اخر وديكور اخر …لكنّ التجربة لم تعمّر كثيرا ..ليس قدحا في امكانيات المرحوم ابو بكر بل ولانّي اعرفهما بعمق كنت واثقا انّ التناغم بينهما لن يكون في اوجه ….
تجربتي الثالثة في الميدان التلفزي كانت في خانة اخراج المباريات الرياضية (كرة قدم)… هذه التجربة سبقها تدريب تكويني في الغرض بدمشق ولمدة 21 يوما بمركز تابع للاتحاد العربي للاذاعة والتلفزيون سنة 1996… بعد اتمام التدريب الذي كان على درجة متميزة نظرا لكفاءة المؤطرين، كلّفتني ادارة التلفزة باخراج بعض مباريات النادي الصفاقسي سواء في البطولة الوطنية او في المسابقات الافريقية … وكنت فيها فاشلا بكلّ المقاييس … نعم … نقل واخراج المباريات الكروية يتطلب عنصرين هامين… اوّلهما التركيز الكلّي على مجريات اللعب مع الحرص على اختيار زوايا مختلفة لتنويع المشهد… والحرص خصوصا على عدم التفويت في ايّة لقطة هامة في المباراة ..وهنا ياتي دور العنصر الثاني وهو سرعة رد الفعل للمخرج في اختيار الكاميرا المناسبة التي تصوّر اللقطة الهامة… هدف او ضربة جزاء او اعتداء لاعب على اخر كامثلة …
قلت اني فشلت فشلا ذريعا في اخراج هذه المقابلات اوّلا خوفي من تفويت اللقطات الهامة اجبرني على اختيار الكاميرا التي ينحصر دورها في تصوير المشهد العام Plan général ///ككاميرا رئيسية طوال فترات اللعب ..وهو ما يجعل اللاعبين اشبه بالذباب فوق الشاشة .. ثم انتمائي وعشقي للسي اس اس جعلني في احيان كثيرة اتماهى مع لاعبي النادي بشكل ذاتي وانسى دوري كمخرج …اي نعم لم استطع في عديد اللقطات التخلص من ذاتيتي… بل احيانا كنت اصفق وارقص عندما يسجل فريقي هدفا ما وكاني واحد من قوم الفيراج … ولانّي كنت وخاصة في ما يتعلق بالامور المهنية قاسيا جدا في الحكم على نتائج الاعمال، ..اعتذرت لادارة التلفزة عن مثل هذه الاعمال التي كانت رديئة فعلا بمنظار علمي ..وادارة التلفزة كان موقفها من قراري (الحمد لله جات منك يا ميضة انت ناشفة وانا تارك صلاة) …
التجربة الاخيرة في الميدان التلفزي كمحرج خضتها مع زميلي زهير بن احمد ..كان البرنامج يحمل عنوان (دروب وآفاق) ..وهو ايضا من النوع الوثائقي …تنقلنا فيه الى عديد المناطق في صفاقس وخارجها لتصوير دروبها وآفاقها … كان فيها الزميل زهير ذلك الصحفي الهادئ الرصين والمتمكن وبحرفية من عمله ..وكنت فيه المخرج الذي حاول قدر الامكان ان يجتهد في حدود ما يتطلبه الشريط .. ولعلّ ابرز الحلقات التي بقيت راسخة في ذاكرتي حلقة تناولت صفاقس الجديدة كمشروع… حيث وقع هدم القناطر الثلاث التي كانت موجودة انذاك بطريق تونس وقرمدة والعين ..وحيث وقع ايضا تصوير اوّل قطار يدخل لصفاقس بعد تحويل مساره من صفاقس الى قابس …
تلك كانت تجاربي في ميدان التلفزيون كمخرج وكمنتج احيانا والتي لا يمكن في باب تقييمها الا بوصفها بالمتواضعة جدا ..ودون ما كنت اطمح اليه …
ـ يتبع ـ
عبد القادر المقري:
نحتار حقا في توصيف ما جرى السنة الأخيرة في منطقتيْ شمال فلسطين وجنوب لبنان… ومبعث الحيرة هذا الدفق اللامتناهي من الدماء والدموع والشجن الذي يملؤنا ولا يترك وقتا ولا مجالا إلا للانحياز للمقتول ضد القاتل، وللمغتصب ضد الغاصب، وللمنزل الطائر شظايا ضد الطائرة الحاملة دمارا وعدوانا.
الدافع الثاني للحيرة هو ما يمكن تسميته بجلال الموت… نعم، ليس هناك من دليل أعلى على صدق أحد وبطولته وصفاء نواياه من أنه يقدم نفسه فداء لقضية ما… لذلك رحنا نطلق صفة الشهادة على من نتفق معه وهو حي، كما نطلقها على من نختلف معه حتى كليا عندما كان من هذه الدنيا… لا، الآن وبعد أن أهدى روحه على ميدان المعركة، فلا تجوز عليه سوى الرحمة والإكبار والتعميد بصفة الشهيد البار… المشكلة أن هذا المنطق يصلح في آداب التعامل مع الموت، في التنفيس عن مشاعر حنق تجاه عدو رئيسي ووجوديّ مكين… يصلح أيضا في رومانسيات الحروب وفرسانها الذين يستبسلون في معركة ويتحوّلون إلى أيقونات أمام عيون الصغار ودروس التربية الوطنية ومعاني الوطن… والعَبرة التي نشرق بها ونحن ننشد لحن الوفاء له، كلما رفرف علم وخفقت جرّاءه قلوب وتنادت أفئدة…
وتكبر الحيرة حين تختلط مع الرحيق المقدس أوشابٌ وأتربة وتساؤلات… نعم … للأسف لا تخلو كأسنا التي نتجرعها من بعض العلامات التي تجعلنا نتردد والزجاج الناعم يقترب من شفاهنا… جاء التردد من استرجاع بعض الصور والذكريات القريبة والبعيدة التي تقول لنا حذار… انتظروا… فاللون الأبيض النقي هو لون السكّر والملح في آن واحد، ورعود السماء تأتي بالمطر الطيّب والصاعقة القاتلة لنفس المُزارع المنتظر تحت شجرة… والبحار الطامية هي خير وسمك وبركة للصياد وهي أيضا الهلاك والغرق… تتشابه الأشكال بين مواد عدة وظواهر، ولكن هل تطابقت دوما الظواهر والجواهر؟
وتتداعى التمثّلات… ولكن على الأرض ماذا نقول في من قتلوا أنفسهم في عمليات داعش، وقتلوا معها تلاميذ مدرسة أو متزاحمين في سوق أو مصلين في جامع؟ … وماذا نقول في سقوط إرهابي صريعا ذات مواجهة مع الشرطة ويداه ملطختان بدم شكري بالعيد؟… وماذا نقول في المئات ممن غُسلت أدمغتهم فصاروا يعتبروننا كافة دار حرب وأقسموا على تصفيتنا فرادى وجماعات وهم معنا بالحزام الناسف؟ … للعلم فلهؤلاء مفتون من فئة خميس الماجري وأبي عياض والمرحوم حسن الغضباني، يسبغون عليهم نعت الشهيد بابتسامة هانئة وقلب مستريح… بل وينضمّ إليهم مذيع تافه لا همّ له سوى الحفاظ على كرسيّ أمام الكاميرا وريع سمين تحت أرجل الكرسي …
نهتف حتما للأبطال الذين استشهدوا، مع حسرة على فقدانهم وأمنية بأن يقتلوا العدوّ لا أن يسقطوا صرعى… الشهادة لهم لكن لنا الهزيمة في آخر المطاف… وهزائم الحروب ليست إنشاء ولا شعرا ولا لعبا بالمصطلحات… هي حصائل باردة لواحد مع واحد يساوي اثنين… من الذي خرج من الميدان (ولو شهيدا) ومن الذي بقي حيّا يصول ويجول؟… وهنا لا ينفع التأبين ولا التعظيم ولا الخلود ولا قناة الجزيرة… منطق الحرب أن تعيش لا أن تموت، وهذه أهم توصية تصدر عادة عن القادة وهم يوجهون جنودهم في مهمة… وحتى إذا شاء القدر وترك الواحد حياته على ساح الشرف، فيكون في المقابل أوقع بأعداد وافرة من صفوف العدوّ قبل أن يبذل الدم والروح…
ولكننا في هذه الموقعة إلى أين وصلنا وكم خسرنا من أرواح وكم خسر العدوّ؟ وكم كانت كلفة 7 أكتوبر 2023 وماذا كسبنا خلالها وأية رقعة حرّرنا؟ … دائما بمنطق الحروب القاسي، هذا ما حصل… عشرات الآلاف من مدنيي غزة والضفة وجنوبي لبنان، أعداد من “العسكريين” شبه العزّل تختلف الأرقام في تقديرها بين المتحاربين، ولكنها في النهاية كبيرة وموجعة… ويكفي أنها حرمت المقاومة من أهم قادتها وحتى التالين في الأهمية… دون الحديث عن دمار شامل فعلا لمدن وقرى وبلدات ومبان ومرافق تعجز قوى عظمى عن إعادة إعمارها بسرعة لو تمّت على أراضيها إثر كارثة طبيعية… فكيف بنا ولا زلزال سُجّل في غزة أو إعصار ضرب جنوب لبنان…
الزلزال الوحيد الذي ضرب أهالينا هناك كان قرارا بحرب غير متكافئة، سيئة التوقيت والحساب… بل ويجعلك تتساءل بعد هذا العبث وذلك الدمار: لفائدة من كل هذا؟ ولماذا انتقلت القضية من هدف تحرير الأرض إلى المناشدة بوقف إطلاق النار؟ ومن يعوّض لمن تيتّم أو ترمّل أو ثكل؟ ومن يؤوي الذين تشرّدوا؟ أم نكتفي بآية “لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله…”، وبمقولة ذلك القيادي في حماس عن مدى انشغاله بملايين المدنيين المعرّضين للقصف والموت: أولئك مسؤولية المجتمع الدولي؟!!!
محمد الزمزاري:
إثر تصميم الغربيين على تزويد اوكرانيا بصواريخ بالستية لضرب روسيا في العمق و تنفيذهم ذلك على الرغم من الإنذارات والتهديدات الروسية المتتالية التي يبدو اول الأمر أن الغرب لم يأخذها مأخذ الجد، كشف فلاديمير بوتين عن بعض نماذج من ترسانته العسكرية كما أدى زيارة هامة إلى كازاخستان خلال هذا الاسبوع مصرحا ان هذا البلد صديق لروسيا وشريك يعتمد عليه.
وتكتسي هذه الزيارة طابعا عسكريا اكثر من اي شيء آخر كما تخللها عرض لبعض من ترسانة موسكو العسكرية، و كذلك لما يعرفه الروس عن ترسانة الغرب بالتفصيل و بدقة متناهية و أماكن تركيزها وتحركاتها بالإضافة إلى مقارنة قدرات كل صاروخ بالستي فرنسي كان او ألماني او انكليزي او أمريكي بما يقابله من بالستي روسي… وأكد الرئيس الروسي ان مخزون بلاده من هذه الأنواع كاملة يفوق اكثر من عشر مرات ما تحويه ترسانة الغرب برمّتها، مما دفع الغربيين إلى وضعية جديدة من الاستنفار والاجتماعات المعلنة و السرية أيضا للناتو، هذا بالإضافة إلى ردود فعل حول تصريح فلاديمير بوتين الذي استشاط غضبا امام تحدي الغرب ووقاحته المتعمدة.
لقد ايقنت الدول الغربية اخيرا ان بوتين أنهى المزاح والتهديدات المحدودة ومر إلى قرارات وشيكة بالدخول في حرب للدفاع عن روسيا التي مثلت وتجسم اليوم إرث الاتحاد السوفياتي التي تم تدميره وها أن الناتو يرغب في الاجهاز على روسيا بدورها عبر استنزافها اقتصاديا واجتماعيا و عسكريا وفرض حرب بالوكالة من خلال “حصان اوكرانيا”. ويبدو أن الكريملين كان يفهم هذه المخططات ويحاول جاهدا الاستعداد لها جيدا باعتبارها محددة لمصير روسيا وصورتها التي ستثبت اما تأكيد قوتها و مكانتها الاستراتيجية او انحلالها وعلى الأقل اضعافها. ويتبين ذلك اعتمادا على مخطط حرب غربية واردة مع الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة العدو الأكبر والأخطر على جميع الواجهات اقتصاديا خاصة وعسكريا أيضا. وكان لابد قبل ذلك من إزاحة روسيا من الطريق او القضاء على ترسانتها للتفرد بالغول الصيني.
فشلت الحرب الاقتصادية الغربية ضد الروس بل ان هؤلاء فرضوا وجودهم بالبلدان الافريقية ونجحوا في تخطي كل المعطلات لاقتصادهم و أسسوا تجمعا نقديا و اقتصاديا جديدا (البريكس) توسع وعلى بابه اليوم قائمة كبيرة من منتظري الانخراط. كل هذا بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات تعاون عسكري مع إيران ودعم التقارب الوثيق مع كوريا الشمالية التي بادرت بإرسال اكثر من 10 آلاف جندي لمساعدة روسيا في حربها ضد اوكرانيا.
واذا رجعنا للحرب الروسية الاوكرانية التي دامت طويلا جراء الدعم غير المسبوق من الناتو لكييف، يستوجب الإشارة إلى ان روسيا لم تكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي منشغلة بالحروب الميدانية التقليدية قدر ما ركّزت على تنمية الاقتصاد ورفاه السكان الذي كان متدهورا. أما الجانب الذي لقي الأكثر عناية فهو الأبحاث العسكرية و تعزيز القدرات النووية التي يرى الروس انها اهم رصيد دفاعي او هجومي… كما بلغ الجانب الاستخباراتي أيضا أوجه ويكفي التذكير بان اعدادا وافرة من الكوادر السامية والقيادات المؤثرة ثبت زرعها في مواطن القرارات والأبحاث و الاستخبارات وحتى التاثير على الانتخابات بالغرب، وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية…
بعد الانذار الاخير لبوتين استشعر الغربيون انهم لم يتركوا للدب المفترس اية فرصة غير الاستماتة في الدفاع عن عرينه. وفي هذه المرحلة الدقيقة التي تجسم قمة استعراض القوى بين غرب متخوف من عودة ساكن للبيت الأبيض لا يرغب كثيرا في إرهاق الخزينة الأمريكية لصالح الناتو او حرب اوكرانيا، وبين تهديدات تبدو جدية من ساكن آخر في الكريملين، نرى ان نتاج هذه الأوضاع ستكون حتما إما انهاء حرب اوكرانيا لصالح موسكو وربما يرفق ذلك بتنازل روسي طفيف عن جزء محدود من شرق اوكرانيا ووضع حد لكل التضييقات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات المتتالية ضد روسيا، او التورط في حرب عالمية كان الجميع يستبعد وقوعها، اذا ما اختلط الغباء الغربي بالعقلية الكوباوية للرئيس الأمريكي القديم الجديد.
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 17 ساعة
ورقات يتيم… الورقة 92
- اقتصادياقبل يومين
النكهة التونسية في الصالون الدولي للشكلاطة والمرطبات
- اجتماعياقبل يومين
غدا الاثنين… انطلاق امتحانات الثلاثي الأوّل
- ثقافياقبل يومين
اختتام أيام قرطاج المسرحية
- ثقافياقبل يومين
قريبا… “أيام سينما الجبل” بعين دراهم، والسينما التونسية إلى أين؟
- صن نارقبل يومين
الذكاء الاصطناعي و إدارة المشاريع بتونس
- صن نارقبل يومين
مستبقا صراعه مع الصين… “بايدن” يمهّد لخلفه “ترامب”، الطريق نحو إفريقيا
- صن نارقبل يومين
“الأونروا”: أكثر من 415 ألف نازح بغزة يحتمون في مدارسنا
تعليق واحد