حين ترك حنّبعل جنوده في الجبهة … و أمضى ليلته في ضيافات روما !
نشرت
قبل 4 سنوات
في
بعد الانقلاب عليه، أقام الزعيم الغاني “نكروما” في المنفى عند صديقه الرئيس الغيني “أحمد سيكو توري”، و منحته الدولة الغينية قصر ضيافة و حرسا فتقبّل ذلك شاكرا على مضض … غير أن المستضيفين أرادوا الزيادة في الحفاوة به فأرسلوا إليه بعض أهل الطرب و الأنس للتسرية عنه، خاصة أن زوجته بقيت بعيدة عنه في أكرا ثم انتقلت إلى أهلها في العاصمة المصرية … فما كان من الزعيم الكبير إلا أن استفظع هذه الهدية و أطرد الغواني على الفور، و أرسل إلى صديقه سيكوتوري خطابا بليغا يجمع بين الاعتذار و الاختصار: “عزيزي فخامة الرئيس، إذا كنت نسيت من أنا و ماذا أمثل، فأنا مستعد لمغادرة بلادك من الآن” …
قد يقول قائل ذاك زمن فات و قد ولّى إلى الأبد عهد الزعماء و الحكماء، و صارت الرياسة اليوم لأهل التقنية و شباب الثورة الرقمية الذين لم يدرسوا في ما درسوا تاريخ الشعوب و أوزان المسؤوليات و كتاب القيم العليا … قد يكون ذلك صحيحا … خاصة في مجتمعات انتشرت فيها قيم الكبار حتى بين أصغر الصغار، و تحضرت أركان البلاد من مدينتها إلى ريفها و صارت الدروس تعطى من أسفل الهرم إلى قمته … و يعود ذلك أساسا إلى تكاثر مبادرات العمل الجمعياتي و توسع قاعدة المتميزين و المؤمنين بالمثل الأخلاقية و الخيرية و الإنسانية و قيم الشهامة و العمل التطوعي لصالح الغير … فصار لكل بلد ملايين القادة بدل القائد الواحد، و انتقل التباري حول السلوك الأفضل من أقبية السلطة و معارضيها و حملاتها الانتخابية، إلى أصغر جمعية و أصغر مدرسة و أصغر مؤسسة مغمورة في تلك البلاد المتقدمة …
يصح ذلك أيضا في بلاد مستقرة اقتصاديا و سياسيا و أمنيا، يتجول فيها الناس بين أشجار المنتزهات الشاسعة في غسق الفجر أو في ظلمة الليل أو في وحشة الشتاء، و هم آمنون على حياتهم و منغمسون في رياضاتهم و هواياتهم لأن أقل صرخة أو حركة مسترابة قد تجلب في ثوان قليلة جيوشا من الشُرَط و السيارات البوليسية و لا يفلت المعتدي من العقاب الشديد و لو كان من كان … بلاد هانئة على اقتصادها و نظام تأميناتها الاجتماعية بحيث تتفقد الدوريات الشوارع و الحدائق بحثا عن متشردين أو فاقدي سكن و تأخذهم إلى مراكز الإيواء المحمية … و تتكرر هذه المشاهد خاصة في ليالي الأعياد و منها رأس السنة الذي تتولاه الجمعيات الخيرية و ترصد موائد عشاء و مراقد دافئة و طرود ملابس صوفية للمحتاجين الذين تذهب إليهم و تفتش عنهم دون أن تنتظر أن يذهبوا إليها و يفتشوا عنها … بل رأينا في كثير من الحالات كيف وصل بهم احترام كرامة البشر إلى تعليق أكياس ملابس و أطعمة على متون الأشجار و تركها مجهولة المرسل و المرسل إليه … علّ عابر سبيل به حاجة يأخذ ذلك و يستر حاجته دون أن يكشف أحد هويته أو يجرح أنفته …
في تلك البلاد المتلاحم مجتمعها و المأمون مصيرها و الموثوق أمنها و أمانها، بإمكان وزرائها و رؤساء حكوماتها و نواب برلمانها أن يأخذوا بين الحين و الحين فسحة خاصة و يحتفلوا بعطلة نهاية الأسبوع أو نهاية السنة في أي مكان يريدون من غير صخب و كاميرات و صحفيين، و لا حتى حراسة مباشرة لأن الحراسة غير المباشرة موجودة و لا لعب مع سلامة القياديين خاصة مع استشراء عمليات الإرهاب في أي مكان من الدنيا اليوم … و لكن هل يصح ذلك في بلاد فقيرة جائعة منفلتة العقال شرها أكثر من خيرها و وحشيتها أكبر من تحضّرها، و دواليب دولتها سائبة تكفي لحظة سهو عابرة لكي تقع فيها كارثة لا أحد يقدّر مدى خطورتها … هل يصح في بلد كهذا أن يفصل السياسي (و القيادي الأعلى خصوصا) بين حياته الخاصة و حياته العامة، و يأخذ لنفسه حرية ترك المقود و النوم على الكراسي الخلفية فيما السيارة تجري بسرعة 180 في الساعة و في طريق مليئة بالنتوءات و الحفر و المنعرجات القاتلة؟
سيدي رئيس الحكومة … لا نشك أبدا في جديتك و وطنينتك و صعوبة المهمة التي تتولاها و لا أحد يتمنى نفسه في مكانك هذه المدة المُرّة … و لكن لأن الأحوال كذلك، و لأنك واع بدقة المرحلة و أنت الماسك ملفات البلاد و أرقامها و مؤشراتها مذ كنت وزيرا للداخلية، نقول لك لقد أخطأت بقيامك برحلة رأس السنة لو صدقت تلك الصور و المعلومات التي تناقلناها … كان يمكن في ظرف عادي أن نتمنى لك شيئا من الراحة بعد شد عصبي يومي تعيشه فوق بلد أشبه بالبركان … و لكن أن تغادر البلاد للتنزّه أو حتى لضرورة من الضرورات هكذا و دون اتخاذ احتياطات بداية من مكتبك في إدارة شؤون البلاد … وصولا إلى ترك عشرات الفرق الأمنية و العسكرية مرابطة في الثغور تحمي البلاد في ليلة درجة حرارتها تحت الصفر … فيهم من تناول عشاءه و فيهم من ما زال على الطوى، و فيهم من ثيابه تكفيه لمقاومة الصرد و فيهم من ما يزال يرتجف بكسوة الصيف، و فيهم من هو غاضب على تعيينه ليلتها من دون زملائه و تكفيه زيارة منك و كلمة تشجيع لكي يرى نفسه سيد القوم خادمهم … و فيهم، و فيهم، و فيهم …
كما أن في بلادك فقراء كثيرين، و مشردين لا مأوى لهم سوى العراء، و طلبة لم يجدوا ثمن تذكرة الرجوع إلى قراهم البعيدة لتمضية رأس السنة صحبة العائلة، فضلا عن ضيوفنا الأجانب من أبناء القارة السمراء البائسة، و عن عوائل شهداء الأمن و الجيش و الصحة، و عن عائلة عقبة الذيبي، و عن أسر المفقودين و المتوفين بجائحة كورونا، و غير هؤلاء كثير ممن يمضّهم وجع الوحدة و الفراق و العيد الأوّل في غياب الراحلين الأعزّاء …
كل هؤلاء، سيدي، كانوا أحوج إليك من أبنائك أو من أقاربك الساكنين في نعيم باريس و الذين ظننتَ أنك وصلتَ الرحم بزيارتهم … فإذا بك ـ دون أن تدري ـ قطعت الرحم بملايين التونسيين الذين ليس لهم من حام سواك … و لا أقول “من أب” فعهد أبوّة الزعيم قد راح مع أصحابه … و كم نبكي الآن بحرقة رحيل أولئك الأصحاب