تابعنا على

جور نار

خمسة انحرافات كُبرى دكّت أركان مدرستنا التونسية (الجزء الثاني)

نشرت

في

تحدّثنا في بداية الأسبوع الماضي عن تخلي منظومة التربية في بلادنا عن المسارات التدريبية والمهنية وبعث شبكة المؤسسات النموذجية كانحرافين تاريخيين ساهما حسب رأيي في تراجع أداء مدرستنا والقضاء (خاصة بالنسبة إلى القرار الأول) على أجيال بكاملها زُجَّ بها في مسارات تعليمية طويلة لم تكن مؤهّلة لمواصلة دراستها فيها.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

وتهتمّ ورقة هذا الأسبوع بثلاثة قرارات أخرى لا تقلّ فداحة هي : تحرير عملية التوجيه المدرسي وقرار بعث الباكالوريا إعلامية وإسقاط منظومة المواد الاختيارية.

ثالثا : تحرير التوجيه المدرسي في ظل غياب أية سياسة وطنية في المجال

المقصود بتحرير التوجيه المدرسي، هو تخلّي الدولة عن دورها التعديلي في ضمان التوازن بين المسالك والشعب المدرسية على ضوء سياستها التشغيلية الوطنية، الخاضعة بدورها إلى تقييم توجهات سوق الشغل الوطنية والعالمية وتحليلها، وبالنظر إلى رؤيتها في رسم الأولويّات وضبط الحاجيات من الكفاءات والإطارات في مختلف القطاعات.

كان التوجيه المدرسي إلى غاية بداية الألفية الجديدة محكوما بنسب وطنية صارمة لا يجب تجاوزها أو النزول دونها في إطار معادلة صعبة تتمثل في إعطاء الأولوية للرغبة التي يعبر عنها التلميذ وأولياؤه، شريطة أن لا يتسبّب ذلك في تضخّم شُعب واندثار أخرى… قبل أن يتمّ التخلي عن هذه النسب الوطنية وترك مسالك التوجيه “تشحن حمولتها” بشكل تلقائي دون رقيب أو حسيب حسب أهواء التلاميذ وعائلاتهم والأعداد التي يوزّعها الأساتذة في المواد المركزية، وهي عادة ما تكون مغشوشة لأنها صُنعت في أغلبها داخل مستودعات موازية مُعدّة للدروس الخصوصية.  

تبدو النيّة سليمة والمقاربة متماهية مع مُنتجات المدارس “الإنسانية” المؤكّدة على ضرورة إعلاء رغبة التلميذ ومشروعه قبل إشهار أولويات المجتمع، وتلبية طموح التلميذ قبل تلبية حاجيات الاقتصاد وضرورة مراعاة واقع استنفاد طاقة استيعاب المتخرجين في قطاعات بعينها.  

ولكن بعد مرور بضع سنوات حدث ما كان متوقّعا، فاختلّ التوازن تماما بين الشُعب وسقطت المنظومة في “الاختيار بالإكراه” والتوجيه حسب “الأمر الواقع” وإفراز مشهد هجين تنقسم فيه السبل المُمكنة إلى مسالك منطقية بالنسبة إلى من ثبت تميّزه في مجالات محدّدة، ومسالك أخرى هي عبارة عن “ملاذات” أمام تلاميذ بمهارات متوسطة وملامح فردية غائمة كل ما يسعى إليه أصحابها هو الاستمرار في الدراسة إلى غاية الباكالوريا، ومحاولة الحصول عليها باعتبارها عنوانا مازال مثمّنا اجتماعيا ويُتيح اجتياز مناظرات “الحاكم” بالنسبة إلى عدد كبير منهم.

ومن الأسباب التي ساهمت بشكل حاسم في تشكيل هذا المشهد غير السويّ في التعليم الثانوي، نذكر خاصة نسبة الــ 72 % من التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و 14 سنة الذين لا يتمتعون بالمستوى الأدني في مادة الحساب، والــ 34 % من نفس الشريحة العمريّة الذين لا يُحسنون القراءة والكتابة حسب تقرير اليونيسيف لسنة 2020… بما يعني أن هيمنة الرياضيات كمادّة مميزة مُعتمَدة كمقياس اساسي في كل الشعب تقريبا باستثناء شعبة الآداب (الرياضيات والعلوم التجريبية والعلوم التقنية وعلوم الإعلامية وبدرجة أقل شعبة الاقتصاد والتصرف)، شكّلت منذ الانطلاق عامل إقصاء مباشر لعدد كبير جدا من تلاميذنا غير المتصالحين مع هذا الحاجز المريع، لأسباب متعلقة خاصة بمنهجية تدريس هذه المادة- الغول وتقنيات التدريب عليها منذ الصغر.

وقد أعطت هذه السياسة “الليبيرالية” التي رفعت جميع القيود عن التوازن الحيوي بين المسالك الدراسية الانحرافات التالية :

– قلة قليلة من التلاميذ المتميّزين ممّن لا يُعيقهم شبح الرياضيات يختارون ولوج شعبة الرياضيات (حيث لا تتجاوز النسبة الوطنية 8% بينما كانت لا تقلّ عن 20 % في مطلع القرن مع تسجيل تدنّيها إلى مستويات الصفر في الكثير من المعاهد والجهات)، وتُفتح أمامهم كل الآفاق الجامعية دون استثناء  بعد الباكالوريا.

– نسبة هامة من التلاميذ المتميزين (بأغلبية دالّة لفائدة الفتيات) يختارون شعبة العلوم التجريبية لأنه بالإضافة إلى مستواهم المقنع في الرياضيات، يتوفرون على عُدّة لا بأس بها في الفيزياء وعلوم الحياة والأرض وكذلك قدرة فائقة على تخزين المعارف وحفظها … بنيّة الالتحاق بعد الباكالوريا بالشعب الطبية وشبه الطبية، ولكن نسبة من تنتدبهم هذه العروض الجامعية في التعليم العالي لا تتجاوز 5 % منهم. أي أن 95% من الملتحقين بشعبة العلوم التجريبية يجدون أنفسهم أمام “اختيارات جامعية” لم يفكّروا بها اصلا في الثانية ثانوي.

– عدد آخر من التلاميذ المتميزين والمَهَرة في المجالات ذات العلاقة بالإعلامية وما جاورها يختار شعبة علوم الإعلامية ويُحرز الباكالوريا فيها، لكن يُفاجأ بأن جامعتنا التونسية لديها احترازات جدية تجاه هذه الفئة من الوافدين عليها من التعليم الثانوي.

– شريحة هامة جدا من التلاميذ يُقبلون على شعبة الاقتصاد والتصرف لكونها شعبة “تونسية جدا” تتميّز بالوسطية والاعتدال ولا تتطلب سوى مستوى متوسط في كل شيء… لذلك أصبح هذا المسلك يعاني من تورّم غير طبيعي حيث تصل نسبة الملتحقين به في بعض الجهات إلى 30 % و40%… تنتظرهم آفاق جامعية تعُجّ سنويا بالآلاف من المتخرجين.  

– عدد آخر ممّن ضاقت بهم السّبل يمضي إلى شعبة الآداب في غير اقتناع حقيقي، نظرا إلى أن المستوى في اللغات والإنسانيات بصورة عامة تدنّى كثيرا خلال العقود الأخيرة، ولأن الآفاق المفتوحة أمام حاملي هذه الباكالوريا في جزء كبير منها هي في حقيقة الأمر ممرّات موصدة وحادّة.

رابعا : بعث شعبة الإعلامية، قرار تاريخي مبني للمجهول

الباكالوريا إعلامية بِدعة تونسية صرفة هي الأخرى لكونها تمثّل في كثير من بلدان العالم المتقدّم اختصاصا تقنيا ومهاريا خاصا يقع في دائرة “الفروع الخصوصية الممكنة” لباكالوريا أشمل هي الباكالوريا العلمية العامة. واقع الحال اليوم أن التلاميذ الذين يأنسون في أنفسهم قدرات استثنائية في كل ما يتصل بالعالم الرقمي والإعلامية وتطبيقاتها، يُخيّرون الالتحاق بشعبة الرياضيات لأنهم يُدركون جيدا أن “الاختصاصات الإعلامية والرقمية الصّلبة والواعدة” شبه موصَدة تماما أمام حاملي باكالوريا إعلامية في التعليم العالي.

مهندسو الإصلاح السّابقين لم يُدركوا أن الإعلاميّة إعلاميّتان : واحدة مُوجّهة للبرمجة وتطوير التطبيقات والخبرة في الأمن السيبرني وتصميم الويب والارتقاء بمقروئية البوابات الالكترونية وهندسة البرمجيات وتوظيف الإعلامية المحمولة… وأخرى موجّهة إلى تركيب الأجهزة الإعلامية وصيانتها وتحيين البرمجيات ومساعدة المستعملين في ضمان التوظيف الأقصى للأجهزة الإعلامية التي بحوزتهم والمكوّنات الفرعية المرتبطة بها.

ففي المنظومة التعليمية التونسية، لا فُزنا بتلاميذ في باكالوريا إعلامية يُمكّنون من حقهم الطبيعي في الالتحاق باختصاصات الصنف الأول (المراحل التحضيرية للدراسات الهندسية التقليدية منها والمندمجة والمعاهد العليا للإعلامية…) ولا وفّرنا نوعا من الباكالوريا التكنولوجية التي تُعفي تلاميذنا من العبء النظري الكبير للباكالوريا التقليدية القائمة اليوم وتجعلهم يمضون مباشرة وبأعداد كبيرة إلى الاختصاصات التكنولوجية المتوسّطة المطلوبة وطنيا وعالميا، مع فتح آفاق ومعابر حقيقية أمام المُتفوّقين من التقنيين المتخرّجين لمواصلة دراساتهم بمدارس الهندسة وشهائد الماجستير والدكتوراه.

خامسا : إسقاط منظومة المواد الاختيارية أنهى المرونة وأغلق المنافذ بإحكام

لعبت المواد الاختيارية تاريخيا في منظومتنا التربوية دور تهوئة البرامج التعليمية وإتاحة تنافذها بما يسمح لتلميذ الشعب العلمية بدراسة مواد إبداعية مثل الرسم والموسيقى واللغات الأجنبية الثالثة، وتلميذ الشعب الأدبية والإنسانية بدراسة بعض المواد العلمية. كما تسمح المواد الاختيارية بتنويع الاختيارات المفتوحة أمام حامل الباكالوريا وإضفاء مرونة أكبر على عملية التوجيه الجامعي.

لكن مع مرور السنوات، تآكلت تدريجيا هذه المنظومة وشهدنا :

– انحسارا ملحوظا جدا في ما يُفتح من آفاق “مختلفة” أمام بعض الباكالوريات، حيث لا يتوفر على سبيل المثال أمام حامل الباكالوريا آداب أكثر من 55 مقعدا فقط تخصصها منظومة التوجيه الجامعي لحاملي باكالوريا آداب في المسالك “غير الأدبية”.

– غياب أي تنسيق أو عمل مشترك بين التعليم العالي و التربية، في علاقة بربط منظومة المواد الاختيارية في التعليم الثانوي بعروض التكوين في التعليم العالي التي تتنوّع وتتعدّد كثيرا أمام محدودية لافتة  لمسالك التعليم الثانوي وشعبه، بما يفرض تنويعا أكبر في ملامح المتخرجين من الثانوي حتى تتلاءم أو تنسجم ولو بصورة نسبية مع ما يُعرض من مئات الشعب والاختصاصات في الجامعة.

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

    نشرت

    في

    محمد الزمزاري:

    ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

    محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

    ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

    لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

    هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

    أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 89

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

    عبد الكريم قطاطة

    وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

    وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

    قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

    لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

    وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

    سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

    عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

    وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

    ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم ..الورقة 88

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

    عبد الكريم قطاطة

    وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

    في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

    اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

    اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

    لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

    في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

    عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

    اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار