كنت في زمن مضى وعلى امتداد عقود احنّ الى برمجة اغنية خوليو ايغليسياس “انا ما تغيّرت” كنت اعتبرها الاغنية التي تلخّصني في ثباتي على ثوابت عديدة .. اذن هي شكلا ومضمونا بطاقة هويّتي في تعاملي مع الاحداث ومع قناعاتي ..
واذكر جيّدا انه عندما دعتني ادارة اذاعة الديوان ـ مشكورة وممنون لها بتلك الحركة النبيلة طيلة عمري ـ لعودتي الى المصدح سنة 2017 كانت نفس الاغنية موجودة في قائمة اوّل حصة من قلعة الاجداد يوم عودتي بعد غياب دام 5 سنوات .. “انا ما تغيّرت” واليوم لو كُتب لي فرضا العودة الى المصدح ـ قلت فرضا لانّ قراري في تعليق صبّاطي مصدحيا لا تراجع فيه ـ اذن لو كُتب لي ذلك افتراضيا هل كنت ساعيد يرمجة رائعة خوليو (انا ما تغيّرت )؟؟؟ الاجابة قاطعة ستكون لا …لانّي وانا في خريف العمر ابصم بالعشرة انّي تغيّرت وفي اشياء عديدة ..
تقول الاغنية في بعض مقاطعها (انا ما تغيرت، مازلت ذلك الشاب الغريب الذي اطربك يوما بالشاعرية، والذي خلق لك الاعياد … انا ما تغيرت، مازلت ذلك الصبي الذي يغزوه قليل من الجنون .. انا ما تغيرت فانا دائما امشي في الطريق التي تروقني ..) لحدّ هنا انا فعلا ما تغيرت ..وعندما يموت الطفل الغريب والمجنون بداخلي وقتها فقط اموت موتتي الحقيقية ..ولكن انا تغيّرت في مواضع اخرى ..كيف ذلك ؟
الانسان وعبر حياته يمرّ بمراحل عمرية مختلفة تبدا بالطفولة ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة ان كُتب له حياة كل هذه المراحل ..والانسان المهتم بالشأن العام ومن خلال الكمّ المعرفي الذي تلقاّه في الدراسة وفي حياته المجتمعية يكون عادة اما محاذيا للاحداث ..متفر جا ومستهلكا (ودار الخلاء تبيع اللفت) او مشاركا فيها والى درجة الانغماس والفعل وفي مراحل كثيرة من العمر بالعنتريات …
انا كنت من الفئة الثانية وعاصرت عديد الايديولوجيات بيسارها ويمينها وتعلّمت في النزر القليل الذي تعلمته ان اقول “لا” لكل ما ومن يتعارض مع قناعاتي ..دون حقد ولكن بنبرات اختلفت بين الشباب والكهولة والشيخوخة ..كنت في شبابي اعزف على مقامات من نوع (الجواب) كسائر الشباب ..وكلما مرّت السنوات تغيرت المقامات الموسيقية لصوتي .. لتصبح الان على نغمة القرار ..هذا هو التغيير الذي حصل ..اصبحت اؤمن بعلوّ الحجّة لا بعلوّ الصوت …اصبحت اؤمن بانّ العقل هو سيّد الاحكام .نعم انا مازلت اؤمن بانّ للقلب منطقه الذي لا منطق فيه مع المنطق ..ولكن درجة تغليب العقل هي التي تنتصر في الختام على القلب ..
انا عندما احاول ان اصنّف نفسي لاصدقائي اقول عنها: “عبدالكريم هو المجنون في قمة عقله وهو العاقل في قمة جنونه “…من هذه الزاوية تجدونني دوما مختلفا مع القطعان مهما كانت تبريراتهم ..انا تغيّرت ..لم اعد ومع ايّ شخص ازبهلّ به ان لم امرّره على سكانار عقلي ولم اعد اعطي صكا على بياض في عالم السياسة لايّ كان كما كنت سابقا وانا احكي في شبابي وحتى كهولتي عن تشي غيفارا او نيلسون مانديلا وغاندي وقبلهم اسماء عديدة هؤلاء اليوم احترمهم واجلّ نضالاتهم واقف عند تلك الحدود ..
آخرون كنت اقف شرسا ضدّ سياساتهم وتكبدت من اجل ذلك اشياء عديدة ..والان تغيّرت في حكمي عليهم … بورقيبة مثلا اضطُهدت ايام حكمه واوقفوني مرتين عن المصدح واوقفوا مرتّبي _ اي قوت عائلتي وصغاري _ واليوم وفي خريف العمر، حتما عليّ لو طلب منّي احدهم رايي في بورقيبة لقلت وبكل وثوق ورغم كلّ اخطائه انه فلتة من فلتات الدهر سياسيا ..رحمة الله على الزعيم ..وموقفي يتعزّز بعد ان اقارنه مع كلّ من دخل قصر قرطاج بعده ودون ايّ استثناء (اش جاب مكة لبوحجر، مع اعتذاري لاصدقائي في بوحجر) …
وانا اليوم بعد ان تخطيت سنّ السبعين فهمت انّ حياتي هي تماما كالشجرة ..الشجرة تغيّر اوراقها في فصل الخريف نعم وهذا هو التغيير الذي اعنيه ولكن ابدا ان تغيّر جذورها لانّ في ذلك حتفها …ودائما وانا في خريف العمر ما زلت على قناعتي الثابتة والتي جاد بها علينا الكاتب الفرنسي اندريه مالرو بقوله “الحياة لا تساوي شيئا ولكن لا شيء يساوي الحياة”
اختم بالقول وعما حدث ويحدث لتونس منذجانفي 2011 حتى اليوم هذا 28 جويلية 2022 (العزوزة هاززها الواد وهي تقول العام صابة) ..اما عن الحلول التي اراها للخروج بتونس من عنق الف زجاجة وزجاجة … فلن تكون الا بثورة حقيقية لا وهمية يقودها دكتاتور عادل يحب تونسنا جميعا لا تونسه هو يُعيدها الينا تونس مشموم الياسمين ورياحين الحبق والنعناع …تونس الحرية والعدل والكرامة وبحبوحة العيش ….