“مادام” ورقة… مادام مسودة… مادام ممكن ماء؟… مادام نحب مسطرة… هكذا كانت همساتهم و كلماتهم… كنت أنظر إليهم مُكبِرة فيهم هذا الأمل و الصمود و التحدي في مثل هذه الحرارة الخانقة… دورة الأبطال… نعم هي دورة الأبطال، و من غيرهم يمكن أن يكون بطلا في مثل هذا الوطن المعطوب؟…
إنهم هم من يتشبثون بالأمل حتى آخر رشفة… البكالوريا هذا الغول و الهاجس الكبير يتحدّٓونه بسلاح الإصرار و العزيمة ، لم ثُثنِهم عثرتهم في الدورة الرئيسية عن التمسك بتلابيب الحلم و شعارهم ” بعد الليل يجينا النور و بعد الغيم ربيع و زهور” على حد قول ام كلثوم. و كم نرجو في هذا البلد أن يتفتح الربيع زهورا و أن يشرق الغد نورا… فعشر سنوات كانت كافية لتعود بنا فيها هذه الطبقة السياسية إلى عهود الظلام و الجاهلية و القفر و الجفاف…
في عهد بن علي الذي رحل بخيره و شره _ و رغم ذلك مازال الكثيرون يشيطنونه و يحملونه مسؤولية كبواتنا الحالية _ كانت المناصب تسند لذوي الكفاءة حتى من غير المنتمين إلى الحزب فكثير من الوزراء كانوا إداريين و رجال اختصاص و لم يكونوا سياسيين. و مهما كانت عيوب النظام السابق فإن النظام اللاحق جعلنا ننظر إلى الماضي باعتباره الجنة المفقودة و نرجو العودة يوما إلى ما كنا عليه زمن بن علي من توفّر للمرافق و احترام للقانون و هيبة للدولة… فتخيلوا معي لو أصابنا هذا الوباء _أو هذه الجائحه على حدّ عبارة قيسنا السعيد _ زمن الدكتاتورية هل كنا سنعيش أزمة غياب الأدوية أو التلاقيح؟ هل كنا سنتمسح على أعتاب العالم نتسول التلاقيح؟ هل كنا سنجد استهانة بالإجراءات الوقائية أو تسيبا أو تمردا على القرارات ؟ هل كنا سنجد استقواء على القانون ؟
أما اليوم فكيف يمكن أن تقنع شخصا، مواطنا بسيطا ما عندوش أكتاف باحترام القانون و هو يرى القانون ينتهك يوميا أمامه و يتلاعب به البعض و يعبثون… كيف يمكن أن تقنع شخصا، مواطنا بسيطا ما عندوش أكتاف باحترام القانون و هو يرى الأحزاب و المنظمات و الشخصيات النافذة تتقوى على الدولة و قراراتها ، فأعراسهم غير أعراسنا و مآتمهم غير مآتمنا و حفلاتهم غير حفلاتنا و اجتماعاتهم غير اجتماعاتنا…. كيف يمكن أن تقنع شخصا، مواطنا بسيطا ما عندوش أكتاف باحترام القانون و هو يرى نائبا يعتدي على زميله في المجلس دون أن ينال جزاء اعتدائه….
كيف يمكن أن تقنع شخصا، مواطنا بسيطا ما عندوش أكتاف باحترام القانون و هو يرى نائبا فارا من العدالة يحصل على أجرته الشهرية و امتيازاته الخرافية و يُصوّت على القوانين و يصادق على المشاريع عن بعد دون أن يقتفي أثره أحد أو أن يتتبع موقعه أحد أو يطبق عليه القانون أحد…كيف يمكن أن تقنع شخصا، مواطنا بسيطا ما عندوش أكتاف باحترام القانون و هو يرى دولة مفلسة منهارة و أحد النافذين يهدد و يتوعد بأن تعويضات جماعته أهم و أولى من حياة باقي الشعب… كيف و كيف و كيف… ؟
إنّ بلادنا اليوم تعيش أسوأ أيام حياتها و تحكمها واحدة من أتعس الطبقات السياسية في تاريخها خليط هجين مقرف من الانتهازيين والشعبويين والمتحيلين و منعدمي الأخلاق و الضمير و عديمي الكفاءة و الفاشلين و العاجزين الذين لم يفلحوا الا في رفع عقيرتهم بالصراخ و تثبيت عجيزاتهم بالكراسي…. إنّ الدول و الشعوب في اللحظات المفصلية من تاريخها في حاجة الى قادة بخصال استثنائية و رؤية استشرافية و قدرة على إيجاد الحلول لتجاوز الأزمة لكننا في تونس نعيّن المسؤولين اللامسؤولين حسب الولاءات لا حسب الكفاءات و نميز بين المضمونين و غير المضمونين و نتعامل بمنطق ” هذا متاعنا و هذا موش متاعنا” فيصبح مديرا من لم يكن يحلم بأن يكون عون استقبال و يصير مستشارا أو وزيرا من لم يكن يحلم بمنصب عمدة أو معتمد و لا مؤهل لأي منهم سوى قدرته على التلون و التلوي و الرقص على الحبال و لا كفاءة له سوى القدرة على لعق الأحذية و تلميعها … أما الكفاءات الحقيقية فيدخل بعضها الثلاجة و توضع في طريقها كل العراقيل فيما يختار البعض الآخر طريق الهجّة…
“مادام مسودة”… هكذا نادت تلك الفتاة القابعة في آخر القاعة عديمة التهوئة، أعطيتها ما طلبت و عدت لأسرح بمخيلتي من جديد… كم وددت لو قلت لها : أرجوك لا تقولي ” مسودّة” ، ألا يكفي سواد أيامنا في هذا البلد ؟ ألا يكفي ما خطه ساسة الخراب بمداد الهم و الغم على صفحة أيامنا طيلة السنوات الأخيرة ؟ كم وددت لو قلت لها لا تتركي سوادهم يغلب على قاموسنا و بيّضي بحبر عزيمتك أحلى آيات الإصرار و التحدي، فأنت تخوضين دورة الأبطال و لا خلاص لتونس إلا بأبطالها فهم بارقة الأمل الوحيدة في حياتنا.. بعيدا عن السياسيين و تباكي بعضهم و لا مبالاة بعضهم الآخر و صراع أغلبهم، يحقق أبناء تونس، الأبطال الحقيقيون الوطنيون الصادقون انتصاراتهم الصغيرة…
شباب في إحدى البلديات يجهزون بإمكانياتهم الفردية مستشفى ميدانيا، رجال أعمال من جهات مختلفة يتبرعون بآلات أوكسيجين و أسرة إنعاش، طلبة شبان و منظمات يتعاونون لتوفير ما تحتاجه إحدى الجهات الموبوءة، متطوعون يسندون الآباء و الأمهات في مراكز التلقيح، جمعيات تتكفل بشراء حاجيات عدد من كبار السن و مصابي الكوفيد حتى لا يغادروا منازلهم، أطباء متقاعدون يلتحقون بالمستشفيات الميدانية، -الجالية التونسية خارج البلاد تواصل جمع التبرعات و توجيه الشحنات الطبية إلى تونس، عروسان يتبرعان بتكاليف زواجهما الذي تم إلغاؤه لشراء آلات أوكسيجين … نعم هذه تونس الأخرى الجميلة التي نحتاجها… تونس المنعشة تونس الأبطال الحقيقين تونس الحداد و بورقيبة تونس أروى القيروانية و توحيدة بالشيخ تونس حنبعل و الكاهنة ، تونس الشعب الذي يصبر طويلا لكنه اذا ما استيقظ يشعل النار في جلاديه و يأكل لحم مغتصبيه.
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر هكذا تغنى شاعر الخضراء و هكذا سيستجيب لنا القدر فنحن نريد الحياة… و سنحيا ليحيا الوطن.. سنحيا لنحاسبهم و نكنس كل فاشل و متخاذل و خائن…