تعيش البلاد ومنذ 2011 انحرافا خطيرا قد يذهب بما تبقى من دولة الاستقلال وما بعدها، فتونس لم تعرف سابقا احتلالا لمؤسسات الدولة، ولا تقاسما للسلطة مع الخارجين عن القانون أو حتى بعض المنظمات التي أصبحت اليوم شريكا بضعف حصّة الدولة…كما لم ينجح أي طرف خارج الدولة من قضم جزء منها…فالحرية التي يفاخر بها البعض منذ لعبت الخمرة برأس “السكير” البوعزيزي أصبحت سببا في أوجاع شعب بأسره…
فلا الشباب العاطل تخلّص من بطالته، ولا المناطق المهمّشة اصبحت جنّة كتلك التي وعد بها بعض أبناء المزعومة “الثورة” التي دخلت سن اليأس، في كل برامجهم الانتخابية…فالدولة اليوم لم تعد الطرف الوحيد الذي يحتكر العنف والسلطة والقضاء، فاليوم أصبح للدولة شركاء في حكم البلاد…فمن غضب من أمر احتل موقعا وطالب بفدية…ومن لم يتذوق ثمار “الثورة” التي قطفها “الوندال” و”المغول” احتل موقعا أكثر أهميّة واشترط فدية…ومن افتكّت الدولة بضاعته المهرّبة هاجم مؤسسات الدولة، وأحرقها واسترجع بضاعته وبعض السبايا…
فالدولة اليوم لم تعد دولة موحّدة كما يزعم البعض ويفاخر رافعا عقيرته بالصراخ…فتونس اليوم عبارة عن “مستوطنات” صغيرة تحكمها فئات ضالة استضعفت الدولة…وقبائل عاد بها الحنين إلى غزوات وغنائم الماضي…والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو هل هذه حقّا الديمقراطية التي حدثونا عنها طويلا…وهل الديمقراطية واحدة في كل دول العالم أم أنها متعدّدة المناهج والأساليب والآليات…فالديمقراطية التي كثيرا ما حدثونا عنها هي تلك التي تعني في ما تعنيه حرية الفرد والمجتمع….فهل نحن نعيش حقّا حرية الفرد وحرية المجتمع؟…
ما نراه اليوم في بلادنا هو حرب استنزاف بين “لوبيات” لم تع إلى يومنا هذا ما تعنيه كلمة دولة، فهؤلاء ومن فرط خوفهم من فقدان مواقعهم فرّطوا في بعض أجزاء الدولة بالكراء أو بالبيع، فالصمت خيّم على الجميع حين افتكوا من الدولة مواقع الإنتاج بالحوض المنجمي لعشر سنوات فخسرت الدولة ما قيمته مجموع ديونها الخارجية …والصمت خيّم على الجميع حين افتكوا من الدولة مواقع ضخّ البترول فخسرت الدولة 347 مليون دينار وهو مبلغ أكثر من حجم الفدية “الاجتماعية” التي كان يطالب بها من احتلوا المواقع لأكثر من أربعة أشهر…والصمت خيّم ويخيّم إلى يومنا هذا على الدولة هذا حين اعتصمت جماعات خارجة عن القانون رغم شرعية بعض مطالبها بأروقة الوزارات ومكاتب بعض الوزراء…والصمت خيّم على من يحكمنا حين أرغمت عصابات “الوندال” بعض المؤسسات المستثمرة في بلادنا على الهروب إلى بعض الدول المجاورة والاستثمار فيها…
تونس فقدت البوصلة منذ أوهمونا أن الديمقراطية تصلح بهذا الشعب…ونسينا أن هذا الشعب لا يصلح بالديمقراطية، فهي تُصاب بالغثيان كلما اقتربت من هذا الشعب… فشعبنا لا يؤمن بتعدّد الآراء…ولا يعترف بالاختلاف في الرأي…ولا يمكنه قبول الآخر ورأي الآخر…كما أن الفهم الخاطئ لحرية الرأي عند بعضنا أوقع البلاد في فخّ القبول بالتطرف والتشدّد والتكفير، بحجة حرية الرأي التي وجب القبول بها، ولم نع خطورة ما أتيناه إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن خسرت البلاد خيرة رجال أمنها ومؤسستها العسكرية…
أمام هذا الوضع المتردّي لجميع الأوضاع في بلادنا اليوم…وأمام الإفلاس الذي أطل برأسه على الدولة رغم صمت ساكن القصر ولامبالاته، هل سنواصل التعويل على ديمقراطية عرجاء تمشي برجل واحدة هي أقرب إلى “ديمقراطية علي شورّب” أم ستجبرنا أوجاع البلاد على القبول بتبني “ديمقراطية نُصّ كمْ” تؤمن بسياسة “الدُمْ دُمْ” لنتمكّن من إيقاف بعض النزيف الذي نخر كل موارد البلاد وفرض سلطة الفوضى…فالبلاد ومنذ أن فتح البعض باب التأويل للتمشي الذي اعتمده في معالجة بعض القضايا السياسية والدستورية والاجتماعية أصبحت عبارة عن مجموعة من المستوطنات الخارجة عن سلطة الدولة…وحين تسأل “الغزاة” الجدد لهذه المواقع عن سبب ما يفعلون يقولون لك إنها الديمقراطية…
نعم هؤلاء لا يعرفون من الديمقراطية سوى الفوضى وعدم الالتزام بالقوانين…والواضح أن ديمقراطيتنا عرجاء فقدت رجلها اليمنى في حادث سير، تعيش مراهقة مضطربة قلبت مزاجها رأسا على عقب…فكل شيء يضرّ بالبلاد والعباد ننسبه إلى الديمقراطية وحرية الرأي…فنحن عامة وساسة أسأنا استخدام وتطبيق ديمقراطية اختارها الغرب على مقاسنا حتى يتحكّم فيها بزرّ يحتفظ به بين يديه…فهل لشعبنا نفس وعي شعوب الغرب؟؟ خلاصة ما وقع بهذه البلاد… أوجعوا رؤوسنا بالحديث عن قيم العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وديمقراطية لا تقصي أي طرف، فلم نر شيئا مما وعدوا وما يعدون…وتحوّلت البلاد إلى مستوطنات تحكمها “لوبيات” ومجموعات فهذ شعب يريد… والآخر لا يريد… والآخر هل من مزيد… وجميعهم يطالبون بفدية في شكل غنيمة من دولة لم تعد تملك شيئا…
فكل من حكموا البلاد ومنذ أن تركها محمد الغنوشي لمصيرها باكيا وهو الذي كان أدرى بمصيرها، وجبت محاسبتهم عن التفريط في بعض أجزاء الدولة وفي هيبتها وبيعها بأبخس الأثمان، واستبدال هيبتها بخيبتها…فهم من فرّط في الأرض والعرض حفاظا على كراسيهم منذ 2011 إلى يومنا هذا…نحن لسنا في حاجة إلى خلافة رشيدة…ولا إلى ديمقراطية أولاد مفيدة…ولا تخاريف أحفاد لينين ومن معه من المجانين…نحن في حاجة إلى ديمقراطية لا تهتك عرض الدولة… ولا عرض الشعب…ولا تتكلم دون تفويض من الشعب… ولا تختار عوضا عن الشعب…ولا تخطط دون مراجعة راي الشعب…ولا تسرق الشعب…ولا تهدّد باسم الشعب…ولا تسجن باسم الشعب…ولا تكمّم أفواه الشعب…ولا تعود بنا إلى نظام القبيلة والعشيرة…ولا إلى نظام جماهيري أذاق إخوتنا في ليبيا الويلات …
علينا الحفاظ على الجمهورية التي مات من أجلها أجدادنا…والتي عانينا من أجل الحفاظ عليها لأولادنا… وفلذات أكبادنا…